• الموقع : مؤسسة التقى الثقافية .
        • القسم : الطهارة (1446هـ) .
              • الموضوع : 076-تحقيق حول حجية ارتكاز المتشرعة .

076-تحقيق حول حجية ارتكاز المتشرعة

بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على محمد وآله الطيبين الطاهرين سيما خليفة الله في الأرضين، واللعنة الدائمة على أعدائهم أجمعين، ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم


يشترط في الارتكاز والسيرة: الاتصال والإمضاء
والتحقيق: انّه قد يقال[1]، ان الارتكاز المتشرعي، كالسيرة، لا بد فيه من تحقق أمرين: الاتصال بزمن المعصوم (عليه السلام) وإمضاؤه.
بل الارتكاز أسوأ حالاً
ونضيف: بل قد يقال: هو أسوأ حالاً منها إذ السيرة عمل متجسد فلو كان مُنكَراً لوجب ردع الشارع عنه، سواءً أكان واجباً قد ترك وجرت على تركه السيرة أم حراماً قد فُعِل، إذ وظيفته ذلك، فإن النهي عن المنكر وظيفة كل مسلم فكيف بالإمام (عليه السلام) (إضافة إلى تبليغ رسالات الله تعالى بإبلاغ الحكم الكلي) إلا مع وجود محذور، كالتقية، والأصل عدمه إلا لو قام دليل عليه، على أن وجود محذور مستمر مستغرق لكل الأزمان والأفراد بعيدا جدا إذ مع فرض قيام السيرة على أمر، فإنه يعني ان كل[2] شيعي يعمله أو يتركه، فكيف يعقل أن تكون التقية عامة شاملة لعشرات السنين ومن كل الأفراد (أو على جميعهم)، حتى لا يصل ردعٌ واحد؟ والمحصّل: انه لو يردع عنه لم يكن منكراً أي لو لم يردع عنه كشف عن إمضائه.
وعلى أي فإن السيرة تكون حجة مع الاتصال بزمنهم (عليهم السلام) والإمضاء، أما الارتكاز المتشرعي فأسوأ حالاً، إذ لا دليل على وجوب ردع الإمام (عليه السلام) عن المرتكزات الذهنية الباطلة، إلا في الاعتقاديات التي شأنها عقد القلب، أما ما يتعلق بالفقه وعمل الجوارح فلا إلا إذا تجسد الارتكاز في هيئة عمل فعاد إلى السيرة، وعليه: فعدم الردع عنه لا يدل على إمضائه.
نعم قد يقال: ان الارتكاز لو كان بحيث يترتب عليه الأثر والعمل لاحقاً، لوجب الردع عنه، لكنه غير معلوم إلا على توسعة دائرة قاعدة اللطف لتعمّ مثل ذلك أو توسعة دائرة النهي عن المنكر لتشمل النهي عن المنكر المستقبلي وهو مما لا يعلم[3]، وقد فصّلنا البحث عن سعة دائرة اللطف وعدمها في (فقه التعاون) فليراجع.
الجواب: الارتكاز أقوى منها؛ لأنه ناشئ عنهم عليهم السلام
ولكن قد يجاب بأن ذلك وإن كان لكذلك، ولكن مع ذلك قد يقال بأن الارتكاز المتشرعي أقوى في الحجية من السيرة المتشرعية، وذلك للوجه الثالث الآتي من الوجوه التي قد يستدل بها على حجية الارتكاز، والوجوه هي:
1- إمضاء المعصوم (عليه السلام) للارتكاز، وهو ما مضى.
2- قاعدة اللطف وهي ما أشرنا إليه قبل قليل أيضاً.
3- وهو العمدة: أن يقال: ان ارتكاز المتشرعة يتميز على سيرتهم بأنه حجة حتى من دون إمضائهم (عليهم السلام) عكس السيرة، توضيحه وبرهانه:
انّ الارتكاز على ثلاثة أقسام:
أ- الارتكاز العقلائي، كالارتكاز على حجية خبر الثقة، والمشهور انه بحاجة إلى إمضاء، لكن المنصور انه غير محتاج إليه ولو بعدم الردع بالسكوت؛ لما فصّلناه في بحث سابق من أن مرجع بناء العقلاء بما هم عقلاء، وارتكازهم بما هم عقلاء، إلى العقل، والعقل حجة من باطن كما الشرع حجة من ظاهر، فلا يحتاج إلى إمضاء ولو بعدم الردع وذلك لكون كل منهما حجة، فإنه كالقول بأن حجية كلام الإمام الباقر (عليه السلام) متوقفة على إمضاء الإمام الصادق (عليه السلام) ولو بالسكوت.. وقد فصّلنا الكلام عن ذلك وما يمكن أن يورد عليه في بحث سابق فليراجع.. ولكن وعلى أية حال فالمشهور الذي كاد أن يكون إجماعاً احتياج بناء العقلاء إلى الإمضاء ولو بالسكوت ووجهه: انه ما أدرانا؟ فلعل الشارع لم يعتبر خبر الثقة في الوصول إلى أخباره حجة، لجهةٍ، إذ حجيته لدى العقلاء إنما هي اقتضائية وليست بنحو العلية كما هو من أدلة المشهور، الذي ناقشناه في محله نقضاً وحلّاً.
ب- الارتكاز العرفي، وحاجته إلى الإمضاء مما لا تخفى على أحد.
ج- الارتكاز المتشرعي أي ارتكاز المتشرعة بما هم متشرعة.. وهذا هو الذي يمكن القول بحجيته وانه فوق السيرة، غير محتاج إلى الإمضاء[4]؛ فإنه إذا فرضناه ارتكاز المتشرعة بما هم متشرعة، لا بما هم عقلاء ولا بما هم عرف عام أو خاص فلا محيص إلا عن كونه مأخوذاً من الأئمة (عليهم السلام) إذ كيف يعقل أن يكون للمتشرعة بما هم متشرعة ومتدينون، ارتكازٌ على حرمة أمر، كحلق اللحية أو ملاعبة الشخص لنفسه دون حد الإمناء[5] من دون أن يكون مأخوذاً من الشارع؟ فإذا كان مأخوذاً من الشارع فهو حجة بذاته ولا معنى لأن يقال بحاجته إلى الإمضاء.
الردّ: كلا، بل كلاهما بوِزان واحد
وفيه: ان ارتكاز المتشرعة بما هم متشرعة لا يزيد على سيرتهم بما هم متشرعة فما قيل فيه يقال فيها؛ فإنه لو فرض انها سيرتهم بما هم متشرعة فإنها لا يمكن أن تكون إلا مأخوذة عنهم (عليهم السلام) فتكون حجة من غير حاجة إلى الإمضاء.
ويحتمل في الارتكاز المتشرعي نشوؤه من الفتاوى
ولكن أجاب في الفقه عن ذلك بـ (ثم أن المركوزية في أذهان المتشرعة ليست من الحجج الشرعية؛ لاستنادها إلى فتاوى العلماء)[6].
الجواب: لا إطلاق له
وذلك وإن صح لكنه لا يجري في ارتكاز المتشرعة المحرز اتصاله بزمن المعصوم (عليه السلام)، فإن فرض ذلك يعني[7] انه مرتكز في ذهن أمثال زرارة وحمران وسائر الرواة المحيطين بالإمام (عليه السلام) وهؤلاء لا يحتمل فيهم، عادةً، أن يكون ارتكازهم، ولا سيرتهم، مأخوذاً من غير المعصوم، كفتاوى بعضهم. والحاصل ان إشكاله (قدس سره) وإن صح لكنه أخص من المدعى.
اقوائية الارتكاز من السيرة، لأنه ناطق بالجهة، عكسها
نعم، قد يرجح الارتكاز المتشرعي على السيرة المتشرعية بوجه آخر وهو: أن السيرة غير ناطقة بالجهة، إذ السيرة لا لسان لها، عكس الارتكاز فإنه ناطق عادة بالجهة؛ ألا ترى مثلاً ان السيرة لو جرت على عدم تقليد المرأة أو عدم تعيينها قاضيةً فإنها لا جهة لها إذ انها لا تنطق بأنّ تركهم تقليدها أو الرجوع إليها في القضاء هل كان لحرمته عندهم أو كان لعدم وجود امرأة مجتهدة جامعة للشرائط أو كانت ولكنها كانت مفضولة قطعاً، مثلاً أخت زرارة لو فرض كونها مجتهدة[8] فإنها مفضولة بالنسبة له، بل يحتمل في هذه السيرة الجارية على الترك أن تكون لغلبة الأعراف والتقاليد أو لكونهم يرونه خلاف الحياء والحشمة، وذلك كله على العكس من الارتكاز المتشرعي إذ المرتكز لدى المتشرعة هو حرمة تقليد المرأة وإسناد القضاء لها أو فقل المرتكز لديهم عدم إجزاء تقليدها وعدم نفوذ قضائها..
الجواب: لكن منشأ نُطقِهِ بالجهة قد يكون غير المعصوم عليه السلام
ولكنّ ذلك وإن صح، ولكن يبقى أن الارتكاز المتشرعي وإن قلّت وجوه عدم حجيته بالنسبة إلى السيرة، إلا أنه وإن فرض ناطقاً بالحرمة إلا انه يبقى محتملاً لأن لا يكون مأخوذاً عن المعصوم (عليه السلام)، فإن ارتكازناً على عدم إجزاء تقليدها، كما يمكن أن يكون مأخوذاً عنهم (عليهم السلام)، قد يكون منشؤه الفتاوى كما مضى من السيد الوالد (قدس سره) وقد يكون منشؤه الاحتياط، لكون تقليد الرجل الجامع للشرائط مبرئاً قطعاً للذمة دونها، وقد يكون منشؤه العناوين الثانوية أو لحاظ عنوان المقدمية للفساد؛ إذ رأى المتشرعة ان دخول المرأة في المجتمع واختلاطها بهم مظنّة للفساد، فكيف إذا صارت مرجعاً أو قاضياً والناس، بطبيعة الحال، يرجعون إلى المرجع والقاضي في مسائلهم وشؤونهم، فإن ذلك يفتح باب الفساد، كما انه قد يكون منشؤه فهم خاص لمجموع الروايات الواردة عن المرأة وحجابها وأن لا ترى رجلاً ولا يراها رجل ومسجد المرأة بيتها.. إلخ، وقد لا يقبل الفقيه المتأخر دلالتها على المدعى.
والحاصل: انه إذا لم يتم لدى الفقيه دليل لفظي على تعيّن الرجل للفتوى والقضاء، كما لو ناقش في ((انْظُرُوا إِلَى‏ رَجُلٍ‏...))[9] بأنه من مفهوم اللقب وأن مثل (فَلَوْلا نَفَرَ...)[10] و((وَأَمَّا الْحَوَادِثُ‏ الْوَاقِعَةُ...))[11] لا ينفي مرجعية المرأة إن لم يثبتها بدعوى عمومه لها؛ لكونه إنما ورد بلفظ المذكر من باب التغليب وأن المراد هو الأعم أو لغير ذلك، فإن الاستناد إلى الارتكاز المتشرعي بالحرمة (أو عدم الإجزاء) قد يناقش بأنه لا يعلم بانّ وجهه تلقّيه عن المعصوم (عليه السلام).
تنقيح صغرى المقام: محتملات الارتكاز بانفعال الأجسام
وفي المقام: لو سلّمنا الصغرى، ولا نسلمها كما سيأتي، أي لو سلّمنا ان ارتكاز المتشرعة على انفعال كل الأجسام عن النجاسات أي تنجسها بها، فقد يقال: ان ارتكازهم لا يعلم تلقيه عن المعصوم (عليه السلام) إذ لعله ناشئ من الفتاوى بل، فوق ذلك، لعله ناشئ من حكومة الذهن العرفي، حيث انهم يرون النجاسات قذارات، كما بنى عليه جمع من الفقهاء، وحيث انهم يرون القذارات موجبة لتلوث الأجسام من غير فرق بين البدن والثوب والأواني (وهي التي صرحت بها النصوص) وبين الأشجار والحيطان وآلات الحِدادة إلخ (وهي التي لم تصرح بها) فأَسْرَوا حكم هذا إلى ذاك، إذ يرونه عينه، أو لا أقل شبهه..
بعبارة أخرى: انهم رأوا القذارات موجبة لانفعال كل الأجسام، فحكموا بأن النجاسات كذلك.. وما دروا انه من القياس الخفي، بناءً على النجاسات الشرعية مجهولة الكنه وأن النسبة بينها وبين القذارات العموم من وجه، فلا حجية لهذا الارتكاز إذ لم يعلم تلقّيه من المعصوم (عليه السلام) إن لم نقل بانه علم عدمه[12].
بل نقول: حتى لو كانت النجاسات الشرعية هي القذارات العرفية ولا غير فإن العرف يرى زوال القذارة كافياً في تنظيف الأجسام، من دون حاجة، عادةً، إلى الغسل بالماء، فهو الأصل الذي لا نرفع اليد عنه إلا بالدليل الذي قد قام في الأمور الثلاثة السابقة (مع إضافة الفراش والطنفسة) فنبقى في غيره على الأصل.
وانتظر مزيد تحقيقٍ وتنقيحٍ لحال الكبرى والصغرى فإن الكلام لم يكمل حتى الآن.
وصلى الله على محمد وآله الطاهرين
قال الإمام الصادق عليه السلام : ((لَيْسَ يَتْبَعُ الرَّجُلَ بَعْدَ مَوْتِهِ مِنَ الْأَجْرِ إِلَّا ثَلَاثُ خِصَالٍ: صَدَقَةٌ أَجْرَاهَا فِي حَيَاتِهِ فَهِيَ تَجْرِي بَعْدَ مَوْتِهِ، وَسُنَّةُ هُدًى سَنَّهَا فَهِيَ يُعْمَلُ بِهَا بَعْدَ مَوْتِهِ، أَوْ وَلَدٌ صَالِحٌ يَدْعُو لَهُ)) الكافي: ج7 ص56.
أسئلة:
- ناقش جميع المرجحات التي ذكرناها للارتكاز على السيرة، وناقش جميع التضعيفات.
- اذكر عشرة أمثلة لسيرة المتشرعة.
- اذكر عشرة أمثلة لارتكاز المتشرعة.
- هل يراد بالمتشرعة العلماء؟ أو عامة المتدينين؟ أو جميع الشيعة؟ في كل الأزمنة أو زمان الأئمة (عليهم السلام)؟.

_________________
[1] كما سبق نقله عن التنقيح، كما قاله غيره أيضاً.
[2] أو كثير منهم، أي ممن هو مورد ابتلائه.
[3] نعم هنالك تقريبات لهما.
[4] وعليه: لا مجال لأن يقال: ان السكوت عنه ليس إمضاء إذ لا يجب النهي عن المرتكز الذهني، كما سبق.
[5] إذ مع الإمناء محرم قطعاً إلا أن الكلام بما دونه.
[6] موسوعة الفقه / كتاب الطهارة: ج2 ص54-55.
[7] أو: لو علم انه كذلك.
[8] وهو بعيد أو لا دليل عليه.
[9] الكافي: ج7 ص412.
[10] سورة التوبة: الآية 122.
[11] كمال الدين وتمام النعمة: ج2 ص484.
[12] لكن هذا بعيد جداً.

 


  • المصدر : http://www.m-alshirazi.com/subject.php?id=4667
  • تاريخ إضافة الموضوع : الأربعاء 6 شعبان 1446هـــ
  • تاريخ الطباعة : 2025 / 02 / 22