بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على محمد وآله الطيبين الطاهرين واللعنة الدائمة على أعدائهم أجمعين ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم.
ملخص ما تقدم
كان الحديث حول انه هل يمكن توجيه الخطاب للقاطع بالعجز عن نيل المعرفة، او توجيه الخطاب للقاطع بالمؤدَّى بنحو الجهل المركب، وهل يمكن تكليفهما بالنظر او لا؟
قلنا :الظاهر انه يمكن استنادا إلى براهين عديدة، وبدأنا ببرهان الغرض ومهدنا له بمقدمات أربع كانت الأولى منها: ان للمولى اغراضا ملزمة وعلى رأسها المعرفة، والمقدمة الثانية: ان كثيرا من القاطعين مخطؤن فلم يصلوا الى الغرض الذي اراده لهم المولى، والمقدمة الثالثة: ان باب العلم منفتح في المعارف اذ لو كان منسدا لصح ان يقال ان توجيه الخطاب والتكليف بالمعرفة لا وجه له بل هو تكليف بما لا يطاق أو لغو، اذن هذه المقدمية ضرورية، والمقدمة الرابعة: ان طريق العلم والمعرفة هو النظر والاجتهاد، فالمقدمة الرابعة هي تشخيص صغروي للباب الذي نلج منه إلى المعرفة.
الإشكال بأن (قاعدة اللطف) أعم من الانفتاح
ان قلت:انا استدللنا في المقدمة الثالثة على ان باب العلم منفتح، ببرهان اللطف وانه لو لم يفتح الله باب العلم لما كان بنا لطيفا رحيما حيث لم يمهد لنا ما نصل به إلى اغراضه الملزمة وما نصل به إلى السعادة الكبرى، لكن قد يستشكل على الاستناد لقاعدة اللطف لاثبات انفتاح باب العلم في العقائد بأن هذا الدليل اعم من المدعى وان تمامية قاعدة اللطف لا تثبت ان باب العلم منفتح لأن اللطف يعني المقرب للطاعة، فعلى الله - فيما الزم نفسه بالنظر لحكمته - ان يقرِّبنا لطاعته لكن هل من ضرورة ان يكون هذا الطريق للطاعة هو الاجتهاد والنظر وفتح باب العلم عبرهما؟، المستشكل يقول :كلا، لأن لله سبحانه وتعالى ان يقربنا للطاعة من غير طريق العلم والعلميات اي عن غير طريق النظر بل عن طريق تهذيب النفس مثلا، كما يقوله الصوفية وبعض العرفاء والاشراقيين، فاثبات قاعدة اللطف وصحتها لا يكون دليلا على الاخص وهو ان باب العلم عبر طريق خصوص النظر والاجتهاد منفتح
وبعبارة أخرى: يقول المستشكل انه قد يكون (القلب) هو الكاشف، ولا ضرورة لأن يكون العقل والنظر هو الكاشف، وموطن المعركة انا نقول ان العقل كاشف ونور ومفتاحه النظر والفكر أو التدبر لكن اذا استندنا إلى برهان اللطف فللاخر أن يقول: القلب هو الكاشف، والمهم هو ان يكون طريقك إلى الله مُشرَعاً سواءا من القلب أم العقل كما له أن يقول: ليس مقصودنا من التزكية وطريق القلب هو المرتب العالية من التزكية حتى يشكل بانها للخواص، بل التزكية بالممكن وهذا مقدور للكل بالالتزام بالطاعات وحفظ النفس عن المعاصي وبذلك سيصل العبد للمعرفة الواجبة، وطريق التزكية رسمه الشارع وهو الالتزام بالشريعة فلا يشكل بانه غير منضبط، والنتيجة ان المستشكل يمنع ان يكون العقل هو الطريق بل القلب ويعبر اصحاب هذا الطريق عن من يتخذ طريق النظر والاستدلال للوصول إلى المعارف الالهية بان ارجله خشبية لا تهيئة لدخول سوح الوغى وان يكون سباقا، أي ان (الاستدلالي) يتشبث بشيء ضعيف، اما هم – أي سالكوا طريق الكشف والشهود – فيقولون: اننا نلجأ إلى القلب والى رؤية الله بالمشاهدة القلبية فنحن نذهب إلى العين وانت تذهب إلى الاثر.
وهذا بحث طويل يترك لمحله، ولكن بإيجاز نقول: ان الصحيح هو غير هذين الطريقين بل طريق ثالث تقوله الشرائع وهو ان الطريق إلى المعرفة الالهية هو العقل لكن بهداية وإرشاد من الوحي، وكذلك القلب لكن ضمن ضوابط الشرع وفي إطار ما لا يرفضه العقل الفطري، كما ان الحواس تخضع لسلطة العقل فان الحواس قد تخطئ لكنها عندما تخضع لسلطة العقل تكتشف مثلا ان الاحول يرى الواحد اثنين وهو خطأ، او هذا الذي وضع يده في الماء الحار ثم في ماء عادي فتصوره باردا، هو مخطئ، والنتيجة ان العقل الذي خضع لهداية الوحي هو الطريق، وهذا بحث طويل ونقتصر على بيت القصيد، اذن هذا اشكال، فما الجواب؟
1- انفتاح باب العلم وإن كان أعم إلا أنه لا ينفي صحة التكليف
والجواب عن هذا الاشكال (ان قاعدة اللطف اعم ولا تدل على انفتاح باب المعرفة) هو ان نقول، فليكن ذلك، اي سلمنا ان قاعدة اللطف اعم من الانفتاح عن طريق النظر، بل يمكن تحققها بالانفتاح عن طريق تهذيب النفس وتزكيتها، ولكن ذلك لا يضر بمدعانا في المقدمة الثالثة لأن الكلام فيها هو ان باب المعرفة منفتح فاذا كان منفتحا امكن الخطاب فالتكليف، والقول بان العقل لا طريق له للمعرفة بل القلب هو الطريق لا ينفي ذلك، وذلك لأن تهذيب النفس امر اختياري فاذا كان امرا اختياريا فمن الممكن ان يكلف بذي الطريق، فيمكن خطاب هذا الشخص ويمكن تكليفه وذلك لانفتاح الباب، الا ان المناقشة هي ان الباب المنفتح ليس هذا بل باب اخر وهذا لا يضر، والحاصل ان كلامنا هو عن التكليف بالمؤدى اي بالمعرفة الثبوتية اما ان طريقها هذا ام ذاك فتتكفل به المقدمة الرابعة اما المقدمة الثالثة فهي ان الباب منفتح، أيّ باب، للمعرفة فاذا كان منفتحا – من غير فرق بين كونه هذا أو ذاك - فانه يمكن ان يكلفنا الله تعالى بالمعرفة – وهي المؤدى أي ذو الباب – بل لو فرض انه انحصر الطريق في طيران الغراب مثلاً فله أن يكلف بالمعرفة وبأن يفعل ما يسبب طيرانه مثلاً، وفرض مبحثنا هو ان الطريق تزكية النفس، اذن المقصود من المقدمة الثالثة هو ان باب المعرفة والعلم منفتح، ولم ندّع فيها ان خصوص النظر هو باب العلم ليستشكل بان قاعدة اللطف لا تثبت ان خصوص النظر هو باب العلم بل تثبت ان هناك بابا مفتوحا، اذن المقدمة الثالثة لا كلام فيها وإنما علينا اثبات المقدمة الرابعة.
2- الشرع طريق لاثبات ان (الباب) هو النظر
أما المقدمة الرابعة وهي ان هذا الباب المفتوح هو خصوص النظر، فالظاهر انه مما لا يمكن الاستدلال عليه بقاعدة اللطف، ولذا لم نستدل على المقدمة الرابعة بقاعدة اللطف بل نستدل عليها بامر اخر كما سيأتي، لكن لماذا لا نستطيع الاستدلال بقاعدة اللطف على ان خصوص النظر هو الباب المفتوح بشرط لا او لا بشرط بان يكون هناك باب اخر مفتوح؟ السبب في ذلك ان البرهان العقلي يدل على كلي قاعدة اللطف ولا يتكفل تحديد المصاديق، فان ما يقربنا إلى الطاعة على الله واجب، لكن ما هو مصداقه؟ ان العقل لا يدركه، وتوضيح ذلك: ان الله تعالى فعل كثيرا مما لا يقربنا إلى الطاعة بل قد يبعدنا عنها مثل المتشابهات فان كثيراً من الناس يضلون بالمتشابهات (فَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ فَيَتَّبِعُونَ مَا تَشَابَهَ مِنْهُ ابْتِغَاءَ الْفِتْنَةِ وَابْتِغَاءَ تَأْوِيلِهِ) وكذلك الكثير من الاحداث التي قد يبتلى بها الناس حيث يتوهمون منها ظلم الباري لهم كالزلازل والبراكين وخلق المعوّقين وغير ذلك، فكلها قد توجب ابتعاد كثير من الناس عن الطاعة
والحاصل: ان الذين يستدلون بقاعدة اللطف يثبتون بالبرهان العقلي اصل ان اللطف واجب على الله، اما تحديد المصاديق ففي كثير من الموارد تكون مما لا يحيط به العقل لأنه لا يحيط بالجهات المتزاحمة لأن العبد قد يرى هذا الأمر مقربا لكنه لا يرى الجهات الاخرى المزاحمة التي قد تعدل بالمشرِّع عن ان يشرِّع خصوص هذا الطريق، وهذا البحث مفصل في محله ولكن هذه مجرد اشارة وان قاعدة اللطف كقاعدة كلية ثابتة لكن تطبيقها على المصداق ليس بايدينا انما يؤخذ عادة من الشرع، اللهم إلا فيما استقل به العقل من المصاديق على مبنى من يرى إدراكه لها خلافاً للمشهور. اذن الكبرى تؤخذ من العقل اما الصغرى والمصداق يؤخذ من الشرع، فان الله تعالى قد ألزم نفسه مثلاً برحمة العباد، لكن ما هو مصداق الرحمة؟ هل ان لا يمرض أحد من الناس؟ ان تشخيصه بيد الله إذ قد يكون المرض هو الرحمة، والحاصل: ان كون مصداق الرحمة هو ان لا امرض او كون مصداق الرحمة هو ان لا افتقر، فهذا المصداق تشخيصه بيد الباري تعالى فعلينا ان نستنطق الشرع في ذلك.
من الأدلة النقلية على ان (النظر) هو الباب للمعرفة
وهنا في المقدمة الرابعة نستنطق الشرع: هل (النظر) هو مصداق اللطف وبتعبير اخر هل النظر باب مفتوح موصل للمعرفة؟ القران الكريم يقول نعم وبوضوح، وتدل على ذلك الكثير من الايات الشريفة كقوله تعالى: (لِيَتَفَقَّهُوا فِي الدِّينِ) اذ كان باب العلم منسدا لكان الامر بالتفقه لغواً (وَلِيُنذِرُوا) فاذا كان الباب منسدا فانذره عن ماذا؟ لو كان باب العلم منسدا فلا مفهوم للإنذار، وكذلك ادلة النظر السمعية حيث يقول تعالى: (قُلْ انْظُرُوا) فاذا كان باب العلم منسدا لكان الامر بالنظر لغوا وكذلك (أَفَلا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ) فان اذا كان التدبر لا يوصل إلى شيء بالمرة فالامر بالتدبر يكون لغوا، مع قطع النظر عن ظهور الايات ونطقها بوضوح بان التدبر طريق للمعرفة، وكذلك قوله تعالى: (وَيُعَلِّمُهُمْ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَيُزَكِّيهِمْ) وبعض الآيات بالعكس (وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمْ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ) فلو كان في علم الله تعالى ان التزكية وحدها موصلة للمعرفة لما كان ينبغي ان يشفعها بعلمهم، بل الظاهر ان يزكيهم هي ممهدة لتقبل التعليم كي لا يبتلى الانسان بمرض العناد مثلاً.
اذن المقدمة الرابعة (كون خصوص النظر هو الموصل) ينبغي ان تؤخذ من الشرع، اما العقل فلا يستطيع ان يحكم فيها، إذ كيف يستطيع العقل ان يحكم بان الاجتهاد البشري موصل للحقائق الغيبية بما هو هو؟ وللحديث صلة تأتي بإذن الله.
وصلى الله على محمد واله الطيبين الطاهرين |