• الموقع : مؤسسة التقى الثقافية .
        • القسم : الطهارة (1446هـ) .
              • الموضوع : 092 - النقض بالشبهة المصداقية وجريان اليقين التقديري فيها .

092 - النقض بالشبهة المصداقية وجريان اليقين التقديري فيها

بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على محمد وآله الطيبين الطاهرين سيما خليفة الله في الأرضين، واللعنة الدائمة على أعدائهم أجمعين، ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم

(92)


وجه عدم جريان الاستصحاب في الشبهة المفهومية
سبق ما ذكره التنقيح من (وأمّا الاستصحاب الموضوعي فلأنّه أيضاً ممنوع إذ لا شكّ لنا في الحقيقة في شيء، لأن الأعدام المنقلبة إلى الوجود كلّها والوجودات الصائرة إلى العدم بأجمعها معلومة محرزة عندنا، ولا نشكّ في شيء منهما ومعه ينغلق باب الاستصحاب لا محالة لأنّه متقوّم بالشكّ في البقاء.
وقد مثّلنا له في محلّه بالشكّ في الغروب، كما إذا لم ندر أ نّه هو استتار قرص الشمس أو ذهاب الحمرة عن قمة الرأس، فاستصحاب وجوب الصوم أو الصلاة لا يجري لأجل الشكّ في بقاء موضوعه، والموضوع أيضاً غير قابل للاستصحاب إذ لا شكّ لنا في شيء، فإن غيبوبة القرص مقطوعة الوجود وذهاب الحمرة مقطوع العدم، فلا شكّ في أمثال المقام إلاّ في مجرد الوضع والتسمية، وأنّ اللفظ هل وضع على مفهوم يعم استتار القرص أو لا؟)[1].


لا فرق بين المفهومية والمصداقية من حيث هذا الوجه
ويمكن الجواب، إضافة إلى ما مضى، بأنّ ذلك[2] لا يصلح فارقاً بين الشبهة المفهومية والشبهة المصداقية، فإنه إن تمّ منع من جريان الاستصحاب فيهما وإن لم يتم لم يمنع عنه. وذلك لأن أ- القضية في كليهما لَوُيّة أي في كليهما يوجد قطعان تقديريان ب- وفي كليهما يوجد شك لاحق ج- وفي كليهما نستصحب الجزئي.
وتوضيحه في ضمن مثال الغروب والمغرب ومثال المنّ من الملح الذي ذكره سابقاً:
أما مثال المنّ، فتصوير الشبهة المفهومية: انه إذا ألقي في الماء مقدار معيّن كمنّ من الملح، فلم يكن الاشتباه من جهة الأمور الخارجية نظراً لمعلومية مقدار الماء والملح إلخ.. بل كان نظراً للشك بعد إلقائه فيه انه يسمى ماءً أو لا، أي هل وضع الماء لمفهوم واسع يشمل المتغير بهذا القدر (القليل، كي يصح الشك) أو وضع لمفهوم ضيق.
فمرجع الأمر إلى قضيتين مقطوعتين: إن كان الماء قد وضع للأعم، فهو ماء، وإن كان قد وضع للأخص، فليس بماء، فلا شك.
نقول: وكذلك الحال في الشبهة المصداقية[3]، كما لو كان الظلام مخيِّماً فشك أنّ ولده الصغير ألقى في طشت الماء، الإناءَ الذي كان يحتوي على كيلو ملح (فصار مضافاً قطعاً) أو ألقى الإناء الآخر الذي كان يحتوي على غرام من الملح (فهو مطلق قطعاً) أو فقل: هذا الماء مردد واقعاً بين مقطوع المائية (والإطلاق) إن كان الغرام قد ألقي فيه وبين مقطوع الإضافة إن كان الكيلو قد ألقي فيه.
فكما ترى في كليهما قطعان تقديريان، وفي كليهما شك لاحق وجداناً؛ إذ في كلتا الصورتين يشك وجداناً في هذا الماء الذي كان مطلقاً انه لا يزال مطلقاً أو لا.
وأما مثال الغروب: ففي الشبهة المفهومية فإنه بعد الغروب وقبل المغرب، يوجد قطعان: إن كان النهار ينتهي عند الغروب (إذا كان الواضع قد وضعه كذلك) فالآن ليس نهاراً قطعاً أي هو ليل قطعاً، وإن كان النهار ينتهي عند المغرب وذهاب الحمرة فالآن نهار قطعاً.
وكذلك حال الشبهة المصداقية، كما لو علم ان النهار ينتهي عند الغروب (أو المغرب، لا فرق) ثم حالت غيمةٌ سوداء بينه وبين الأفق فلم يعلم انّ الشمس غربت أم لا، فهو اشتباه ناشئ من الأمور الخارجية، فهنا يوجد قطعان تقديريان: إن كانت الشمس قد غربت فالنهار منتهٍ قطعاً، وإن لم تكن غربت، فالنهار موجود قطعاً.
والمهم في الأمر وبيت القصيد: انّه مع وجود القطعين التقديريين فإنّ الحاصل هو وجود شك فعلي لبداهة انّه كلما تردد الأمر بين إما وإما، كان شاكاً.
وبعبارة أخرى: وجداناً نجد انه شاك في بقاء النهار في الصورتين، أي سواء أشك في غيبوبة الشمس بسبب الغيم أم شك في بقاء النهار بسبب الشك في نحوِ وضعه.
لا يقال: يوجد في مثال النهار قطعان فعليان في الشبهة المفهومية دون المصداقية، وهما أنّ الشمس غربت قطعاً والمغرب لم يحصل قطعاً.
إذ يقال: إضافة إلى انه لا يوجد مثل ذلك في صور أخرى كمثال المنّ:
أولاً: ان القطع بالغروب والمغرب أجنبي عن الموضوع المأخوذ في الآيات والروايات إذ الفرض ان الموضوع هو (النهار) و(الليل) و(اليوم)، كما جاء في الآيات والروايات والفرض انه شك في بقاء النهار أو اليوم، ولم يؤخذ الغروب أو المغرب موضوعاً، وإلا لما كانت الشبهة مفهومية أصلاً، بل إنما كانت مفهومية لأنه أخذ عنوان[4] مردد بينهما.
ثانياً: سلّمنا وجود قطعين فعليين لكنه غير مجدٍ، إذ المعيار في الاستصحاب هو المحصلة النهائية والمعنى الاسم مصدري والناتج، والمحصّلة النهائية هي انه شاك فعلاً وإن وجد له قطعان فعليان متعاكسان، بل وجود قطعين متعاكسين على الطرفين يؤكد كونه، وهو الواقع بينهما، شاكاً بالفعل، هذا.
لا يقال: الفرق انّ الشك في المفهومية هو في المقتضي (انه وضع للأعم أو لا) وفي المصداقية في الرافع أو المانع (انّ الملقى كان كثيراً ليرفع الإطلاق أو لا).
إذ يقال: لا فرق حسب ذلك المقياس، إذ القضية اللوية والقطعان المسلمان موجودان في الصورتين إذ يعود إليهما التحليل الدقي، والجامع أن الشك وجداناً موجود في الصورتين فنستصحبهما فيهما.
بوجه آخر: لا يصح إجراء أصل العدم في مثال منّ الملح وغرامه، لكونهما ضدين (إذ تردد انه ألقى هذا الإناء أو ذاك[5]) كما لا يصح في الشبهة المفهومية لكون الموضوع له مردداً بين الضدين (إذ الفرض أن الأقل بحده أخذ موضوعاً).


المحتملات الأربع في صحيحة زرارة الأولى
وقد مضى: (وأما النقضي، فبالخفقة والخفقتين، ففي صحيحة زرارة الأولى (روى الشيخ الطوسي بإسناده، عن الحسين بن سعيد عن حمّاد، عن حريز، عن زرارة قال: «قُلْتُ لَهُ: الرَّجُلُ يَنَامُ وَهُوَ عَلَى وُضُوءٍ، أَتُوجِبُ الْخَفْقَةُ وَالْخَفْقَتَانِ‏ عَلَيْهِ‏ الْوُضُوءَ؟ فَقَالَ: يَا زُرَارَةُ قَدْ تَنَامُ الْعَيْنُ وَلَا يَنَامُ الْقَلْبُ وَالْأُذُنُ، فَإِذَا نَامَتِ الْعَيْنُ وَالْأُذُنُ وَالْقَلْبُ فَقَدْ وَجَبَ الْوُضُوءُ.
قُلْتُ: فَإِنْ حُرِّكَ إِلَى جَنْبِهِ شَيْ‏ءٌ وَلَمْ يَعْلَمْ بِهِ؟ قَالَ: لَا، حَتَّى يَسْتَيْقِنَ أَنَّهُ قَدْ نَامَ، حَتَّى يَجِي‏ءَ مِنْ ذَلِكَ أَمْرٌ بَيِّنٌ، وَإِلَّا فَإِنَّهُ عَلَى يَقِينٍ مِنْ وُضُوئِهِ، وَلَا يَنْقُضُ الْيَقِينَ أَبَداً بِالشَّكِّ، وَلَكِنْ يَنْقُضُهُ بِيَقِينٍ آخَرَ»
[6])[7].
وقد استظهرنا أن الشبهة المفهومية مرددة بين الأقل والأكثر وذكرنا: (وذلك لأنّ الشبهة ههنا موضوعية مفهومية وذلك لأنّ النوم مردد بين الموضوع للواسع (ما يشمل النوم العميق والخفقة) والضيق (ما لا يشمل الخفقة) وتدل على ذلك (التردد) كلمات اللغويين، قال في لسان العرب: (خفق فُلانٌ خفقة إذا نام نومة خفيفةً)، وقال أيضاً: (وخفَق برأسه من النُّعاس: أماله، وقيل: هو إذا نعس نعسةً ثُمَّ تنبَّه) وقال: (الخفقان: الاضطراب)[8] فالنومة الخفيفة داخلة على الأول وخارجة على الثاني، فقد يتردد الفقيه في حدود الخفقة مفهوماً (أنها أوسع أو أضيق، أي هل هي النوم الخفيف والنعاس مع ميلان الرأس مثلاً، أو الأخير فقط).)[9].
ولكن أشكل بعض الأفاضل بأن المحتملات في الرواية أربعة:
أن تكون مصداقية، أو مفهومية، أو حكمية بوجهين، واستظهر الحكمية بالوجه الأول منهما وهو الثالث الآتي، عكس ما استظهرناه وهو الثاني الآتي، فنقول:
1- أما احتمال أن تكون الشبهة مصداقية، فواضح البطلان، إذ لم يشك زرارة في حدوث الخفقة، بل علم بحدوثها، وإنما شك انه نام أو لا، ولم يشك انه نام أم لا للشك في أمر خارجي بل للشك في حقيقة الخفقة ما هي وما هي نسبتها مع النوم، إضافة إلى أنّ احتمال الشبهة المصداقية لا ينسجم مع جواب الإمام (عليه السلام) حيث بيّن الإمام (عليه السلام) القاعدة بنحو القضية الحقيقية، وهي لا تقع جواباً عن اشتباه الأمور الخارجية.
2- أن تكون مفهومية، كما أسلفنا، وستأتي مؤكدات لها.
3- أن تكون حكمية بمعنى انّ زرارة سلّم صدق النوم على الخفقة، لكنه شك أنّ كل نوم (حتى الخفيف – الذي سمي بالخفقة) مبطل أم لا، وهذا ما استظهره بعض الأفاضل، ونستبعده كما سيأتي.
4- أن تكون حكمية بمعنى أن زرارة سلّم أن الخفقة ليست نوماً لكنه احتمل أن تكون الخفقة نظير البول وخروج الريح ناقضاً مستقلاً للوضوء، لكنه خلاف ظاهر الرواية، وسيأتي تحقيق ذلك كله بإذن الله تعالى.

قال الإمام زين العابدين (عليه السلام): «مِنْ أَخْلَاقِ الْمُؤْمِنِ الْإِنْفَاقُ عَلَى قَدْرِ الْإِقْتَارِ، وَالتَّوَسُّعُ عَلَى قَدْرِ التَّوَسُّعِ، وَإِنْصَافُ النَّاسِ وَابْتِدَاؤُهُ إِيَّاهُمْ بِالسَّلَامِ عَلَيْهِمْ» الكافي: ج2 ص241.

وصلى الله على محمد وآله الطاهرين

__________________________

[1] الشيخ علي الغروي / تقرير أبحاث السيد أبو القاسم الخوئي، التنقيح في شرح العروة الوثقى، مؤسسة إحياء آثار الإمام الخوئي ـ قم: ج2 ص42-43.
[2] (لأن الأعدام المنقلبة...) و(فإن غيبوبة...).
[3] المرددة بين المتباينين في المثال.
[4] هو النهار وشبهه.
[5] لا ما إذا علم انه ألقى غراماً وشك انه أضاف له وأكمله إلى الكيلو.
[6] تهذيب الأحكام: ج1 ص8.
[7] الدرس (1109/89)
[8] لسان العرب: ج10 ص80.
[9] الدرس (1109/89)

 


  • المصدر : http://www.m-alshirazi.com/subject.php?id=4688
  • تاريخ إضافة الموضوع : الثلاثاء 16 شوال 1446هـ
  • تاريخ الطباعة : 2025 / 04 / 19