بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على محمد وآله الطيبين الطاهرين واللعنة الدائمة على أعدائهم أجمعين ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم.
ملخص ما تقدم
كان الكلام حول مسألتين الاولى ان يكلف الشارع ومطلق المولى الحكيم، القاطعَ بالعجز عن المكلف به - وهي المعرفة في المقام - مع كون قطعه جهلا مركبا والمسألة الثانية هل يمكن ان يكلف الشارع بل مطلق الحكيم، العبدَ القاطع بالمؤدى بنحو الجهل المركب، وذكرنا ان المشهور من الاصوليين المتأخرين يذهبون على عدم صحة ذلك وامتناعه ذاتا أو وقوعا، لكن الظاهر ان خطابهما ممكن وكذلك تكليفهما واستدللنا على ذلك اولا ببرهان الغرض وقد مضى.
2- سيرة الشارع والانبياء وافعالهم
الدليل الثاني: سيرة الشارع والانبياء وافعالهم على اختلاف الأزمنة والامكنة واختلاف الحالات والخصوصيات، فان خطابات الانبياء كانت موجهةً للقاطعين بالمؤدى على نحو الجهل المركب أيضاً، فان قطعهم بعدم صحة كلام الانبياء لم يمنع من توجيه الخطاب لهم وتكليفهم، ومن ذلك قوله عليه واله الصلاة والسلام (قولوا لا اله الا الله تفلحوا) مع ان المخاطبين كانوا عادة قاطعين بوجود - الههٍ - متعددة كما كانوا قاطعين بعكس المحمول الذي ذكره النبي (صلى الله عليه وآله) أي انهم كانوا قاطعين بان الفلاح باتباع الالهة المتعددة لا باتباع اله واحد، لكن مع ذلك كان الخطاب موجهاً لهم حقيقة لا مجازا، كما ان الكثير من الآيات الشريفة قاطعة بكون الخطاب شاملاً للقاطعين بالخلاف، ومنها:
قوله تعالى: (لَقَدْ أَرْسَلْنَا نُوحاً إِلَى قَوْمِهِ فَقَالَ يَا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ) ولا شك في عموم الخطاب للقاطعين منهم وغيرهم بل لعل القاطعين كانوا هم الأكثرية المطلقة، مما يعد استثناؤهم قبيحاً (مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ إِنِّي أَخَافُ عَلَيْكُمْ عَذَابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ * قَالَ الْمَلأ مِنْ قَوْمِهِ إِنَّا لَنَرَاكَ فِي ضَلالٍ مُبِينٍ)فكثير منهم كانوا قاطعين بضلاله (قَالَ يَا قَوْمِ لَيْسَ بِي ضَلالَةٌ وَلَكِنِّي رَسُولٌ مِنْ رَبِّ الْعَالَمِينَ)مع ان أكثرهم أو كثير منهم كانوا قاطعين بانه ليس برسول (أُبَلِّغُكُمْ رِسَالاتِ رَبِّي وَأَنصَحُ لَكُمْ)نعم كان الكثير منهم قاطعاً والبعض ظاناً والبعض شاكا (وَأَعْلَمُ مِنْ اللَّهِ مَا لا تَعْلَمُونَ * أَوَعَجِبْتُمْ أَنْ جَاءَكُمْ ذِكْرٌ مِنْ رَبِّكُمْ) والايات من هذا القبيل كثيرة، ولنقرأ اية أخرى لارتباطها بالفروع أيضاً (وَإِلَى مَدْيَنَ أَخَاهُمْ شُعَيْباً قَالَ يَا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ قَدْ جَاءَتْكُمْ بَيِّنَةٌ مِنْ رَبِّكُمْ فَأَوْفُوا الْكَيْلَ وَالْمِيزَانَ وَلا تَبْخَسُوا النَّاسَ أَشْيَاءَهُمْ وَلا تُفْسِدُوا فِي الأَرْضِ بَعْدَ إِصْلاحِهَا) فان كثيراً من المنحرفين يرون ما يفعلونه هو الصلاح فان كثيراً من المرابين مثلاً يقطعون بان ما يفعلونه صحيح وانهم حقهم الطبيعي وان الاقتصاد لا يتقوم الا بالربا ولا تقوم للبنوك قائمة إلا بالربا فهم قاطعون بذلك لكن مع ذلك يخاطَبون
والحاصل: ان سيرة الانبياء على مر التاريخ وافعالهم، وفعل المعصوم حجة، كانت على توجيه الخطاب والتكليف للقاطع بالخلاف.
3- سيرة العقلاء وبناؤهم
ثالثا: ان سيرة العقلاء وبناءهم على ذلك ايضا، فمثلا المريض المشلول القاطع بانه غير قادر على المشي إذا علم الطبيب بانه قادر، فهل تجد طبيباً يستسلم لقطع هذا المريض بالخلاف، فلا يأمر بالمشي؟ كلام الاصوليين على ذلك وان الطرف ما دام قاطعاً فلا يمكن خطابه ولا تكليفه، ولكن نقول: هذا الكلام لا نتعقله، بل سيرة العقلاء على خلافه، ولذا يقول له الطبيب قم وامش مع انه – أي المريض - قاطع بعدم القدرة على المشي، والحاصل: ان الطبيب والمولى والاب والعالم، يخاطب ويكلف من دون ان يقيدهم جهل السامع المركب،
وكذلك الحال في سيرة وبناء كل العقلاء من كل الاديان إذ يقومون بدعوة الاخرين إلى دينهم أو مذهبهم، فان الشيعي إذا أراد ان يدعو المخالف للتشيع فهل يسأله هل أنت قاطع او شاك (بان علياً عليه السلام ليس الخليفة المنصوب من الله) فان كنت قاطعا فلا اخاطبك؟ كلا.. بل ان الشيعي عندما يخاطب المخالف او العكس او المسلم للكافر او الكافر للمسلم في كافة الاديان والمذاهب، وعندما يتصدى للدعوة لا يردعه عن دعوته قطع المخاطب بالخلاف، نعم لو قطعت انا – المتكلم - بانه لا تأثير فهنا لا يجب ان اخاطبه الا لو وجد عامل اخر من قبيل إتمام الحجة.
وبتعبير اخر: ادل دل دليل على الامكان هو الوقوع فكيف يقال ان القطع بالخلاف يمنع من توجيه الخطاب له وتوجيه التكليف له مع انا نرى العرف مليء بذلك كما نرى الشارع كذلك، والامثلة والشواهد كثيرة لكن هذا المقدار يكفي، وهو وجه واضح ولعله من الضروريات لكن معظم الاصوليين المتأخرن ادخلوها في بحث فلسفي بذكر محاذير – سيأتي ذكرها - فاصبح خلافها حسب رأيهم على مقتضى القاعدة.
4- الإطلاقات
الدليل الرابع لأمكان توجيه الخطاب والتكليف للقاطع بالعجز او القاطع بالخلاف: هو (الاطلاقات) وهذا الدليل مبني على الفراغ عن اثبات الامكان لأنه لو لم نقل بالامكان فلا ينعقد الإطلاق للقرينة العقلية الحافة المانعة من انعقاده، لكن لو اثبتنا الامكان فانه لا مانع من ان نقول ان الاطلاقات في مبحثنا – كآية (انظروا)و(أَفَلا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ)وسائر ما تمّ الاستدلال به على وجوب النظر تشمل القاطع بالعجز وتشمل القاطع بالخلاف في علم الله (لأن القاطع بالخلاف لا يراه خلافا)، اذن بعد الفراغ عن الامكان نقول: ان الاطلاقات تشمل النوعين من القاطعين بالخلاف، خاصة لو قلنا ان خطاب القاطع بالخلاف على مقتضى الحكمة لأن الكثير منهم سيهتدي وعندئذ الاطلاقات بمقتضى الحكمة تكون شاملة لها من غير صارف.
الإشكال بان تكليف القاطع بالخلاف مستلزم لأن يرى الشارع مناقضا:
هذا. لكن الكلام إلى الان كان يدور في بحث المقتضي، إلا ان الاصوليين ذكروا موانع عديدة عن امكان خطاب وتكليف القاطع، نشير لها بإيجاز مع أجوبتها:
المانع الاول: ان المولى لو كلف عبده على خلاف ما قطع به فان العبد سيراه مناقضا والتالي باطل فالمقدم مثله وهذا الاشكال ذكر في مصباح الاصول وغيره،
أجوبة أربعة
والجواب على ذلك من وجوه:
الوجه الاول: ان التناقض الثبوتي هو المحال وليس توهم التناقض، ولا يصح قوله: ان توهمك التناقض كالتناقض محال، إذ الامر ليس كذلك فانه ليس توهم التناقض محالاً كما ان شريك الباري الثبوتي هو المحال اي وجود شريك للباري ثبوتا، اما توهم شريك الباري فلا إذا ما اكثر من يتوهم ذلك، اذن توهم التناقض ليس من المحالات، بل حدث خلط بين الثبوت والاثبات فان المحال الثبوتي ليس محالا اثباتا، ولذا نجد ان المحال الثبوتي يقع موضوعا إذ نقول الضدان لا يجتمعان مع ان القاعدة الفلسفية تقول ان ثبوت شيء لشيء فرع ثبوت المثبت له اذن اجتمع الضدان في عالم الإثبات حتى صح جعل (الضدان) موضوعاً وتقول النقيضان لا يجتمعان هذه الصغرى والكبرى ثبوت شيء أي (لا يجتمعان) لشيء وهو النقيضان، فرع ثبوت المثبت له إذن فقد وجد النقيضان في عالم الإثبات! والحل: ان واقع النقيضين محالٌ اجتماعُهما، لا صورة النقيضين وذلك مثل كتابة كلمة (النقيضان) فهل هما نقيضان؟ كلا بل هو اسم ومرآة للنقيضين لا هو هما، وعندما نقول النقيضان لا يجتمعان فهذا الحمل ليس على النقيضين الذهني بما هو هو، بل على النقيضين الخارجي لكن عبر مرآة هي النقيضان ذهناً أي ان هذه الكلمة كانت جسرا للخارج فقيل النقيضان لا يجتمعان اي في الخارج ، وبذلك اتضح ان قول بعض الأصوليين: ان العبد اذا كان قاطعا ان الخمر محللة فلا يمكن للمولى ان يقول له ان الخمر محرمة اذ لو قال ذلك لتوهم العبد ان المولى متناقض، غير تام اولا لما ذكرنا
وثانيا: ادل دليل على امكان الشيء وقوعه؛ اذ ما اكثر ما صنع الشارع ما يتوهم العبد معه المحال الذاتي أو الوقوعي، مثلا الشارع فعل كثيرا مما يتوهم كثير من العباد معه انه ظالم، وهو محال في حقه تعالى، وذلك مثل الزلازل وخلق المعوقين وما اشبه فالشارع بنفسه صنع ما يتوهم الكثير من العباد معه انه غير حكيم او انه ظالم او ما اشبه ذلك، والوقوع دليل الامكان، ولا يخفى ان الشارع سبَّب ذلك لاجل الامتحان والابتلاء
كما ان الشارع سبَّب ومهّد ما يتوهم معه العباد ان لله شريكاً فانه تعالى هو الذي اعطى القدرة للمرتاضين ونحوهم كي يستعملوا تلك القوى ليوهموا الناس انها منهم لا من الله، وأيضاً: من الذي يقول: (يَدُ اللَّهِ فَوْقَ أَيْدِيهِمْ)و(وَجَاءَ رَبُّكَ وَالْمَلَكُ صَفّاً صَفّاً)أليس التي تعالى اوقع عباده في توهم جسميته المحاله؟ ثم بعد ذلك كم من العقلاء من يجمع هذه الاية مع آية (لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ)لكي يكشف مجازيتها ويحكّم العقل؟ اذن ان يوقع الحكيم عباده في ان يتوهموا المحال، واقع في الخارج وله وجه حكمة وبذلك يظهر انه لا يصح ان يقال لو ان المولى ردع القاطع بالخلاف لكان موقعا اياه في توهم التناقض، فنقول فليقع العبد في توهم التناقض! وما أكثر ما وقع العباد في نظائر هذا التوهم، وما وقع فليس بمحال فقد وقع ذلك من الشارع في متشابهاته التشريعية واعماله التكوينة، هذا ثانيا
جوابان حليان
اما ثالثا: ان ذلك من معادلة الاهم والمهم فان للمولى ان يوقع عبده في محذور ان يتوهمه متناقضا إذا كان هناك مزاحم اهم رخّص ان يوقعه في ذلك، وسيرة العقلاء ومقتضى الحكمة ان يلتزم بالاهم ويترك المهم، وفي ما نحن فيه الأمر كذلك، فان هذا العبد قاطع بان لا اله مثلاً فاذا قيل له ان يوجد اله قطعاً أو ان الخمر حرام مع انه قاطع بحليتها، فغاية الامر ان يتوهم المناقضة من المولى وهذا محذور لكن الاهم ان يوقف عند حده، وكثيرا ما يوقفه ذلك عند حده، بل على الاقل قد يصيبه بالحيرة وهو المطلوب أي ان ردع الشارع على اقل تقدير قد يورثه الحيرة والارتباك وان لم يغير قطعه وهذا قد يضعف حماسه للدفاع عن باطله أو قد يعطي فرصة لمن أراد رميه وقتله، للهرب مستغلاً ارتباكه في توهم جمع النقيضين اذن ثالثا ايقاعه في التناقض محذور لكنه زوحم بالمحذور الاهم.
ورابعا:هو ان للمولى الحكيم ان يردع القاطع بعنوان اخر ملازم لهذا العنوان وعندئذ لا يتوهم العبد التناقض اي حتى هذا المحذور نرفعه بهذه الطريقة بان يأمر او ينهى بعنوان ملازم للعنوان الذي قطع العبد بخلافه، او ان يأمره او ينهاه بتعليل اخر كتعليل المصلحة السلوكية وهذا باب تفتح منه ابواب عديدة، فاذا اراد ان يناه ولكي لا يقع في محذور ان يراه المخاطب مناقضا فانه يعلله بالمصلحة السلوكية وهنا لا اشكال حتى من جهة حدوث توهم التناقض فليتأمل وهذا بحث مهم لكن نكتفي بهذا المقدار
وصلى الله على محمد واله الطيبين الطاهرين |