• الموقع : مؤسسة التقى الثقافية .
        • القسم : الطهارة (1446هـ) .
              • الموضوع : 111- - القاعدة كمرآة وأمارة عقلائية.- لزوم الفحص قبل إجراء القاعدة وعدمه. .

111- - القاعدة كمرآة وأمارة عقلائية.- لزوم الفحص قبل إجراء القاعدة وعدمه.

بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على محمد وآله الطيبين الطاهرين سيما خليفة الله في الأرضين، واللعنة الدائمة على أعدائهم أجمعين، ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم
 
(111)
 
جريان الـمُقتضي والمانع في غير صورتي الاطمئنان والغفلة
تتم ات: الأولى: قد يُعترض على قاعدة الـمُقتضي والمانع، بأنّ العقلاء إنما يجرونها في الصورة التي يجرونها فيها، على التفاصيل السابقة، أي: في موارد جريان العادة، أو بعد الفحص... إلخ أو مطلقاً على الرأي الآخر، في صورة الاطمئنان، أو في صورة الغفلة، أو احتياطاً ورجاءً.
والجواب عنه: هو بنفس ما أُجيب عن الـمُحقِّق الخراساني، إذ استشكل على جريان الاستصحاب ببناء العقلاء، بأنّهم لا يجرونه استناداً إلى مجرّد اقتضاء اليقين السابق الـمُلحَق بالشكّ اللاحق، بل إمّا اطمئناناً، أو غفلة، أو احتياطاً، ورجاءً[1]؛ إذ الاستصحاب يُجريه العقلاء مع الالتفات في غير صورة الاطمئنان، وقد يكون خلاف الاحتياط[2].
والقصد الآن بيان حال قاعدة الـمُقتضي والمانع، إذ نقول: إنّه لا شكّ أنّ العقلاء في التجارات والصناعات وغيرها، يُجرِون القاعدة في غير صورتي الاطمئنان والغفلة، وكثيراً ما تكون على خلاف الاحتياط؛ ألا ترى أنّ التاجر الـمُغامر يركب البحر بتجارته، أو يشتري الأسهم من البورصة اعتماداً على أنّ الـمُقتضي للرّبح موجود، وأنّ المانع، كهبوب عاصفة مثلاً أو نزول الأسهم فجأةً لطارئ ما، مفقود مستندين في هذا الأخير إلى الأصل أي الاستصحاب، مع أنّهم غير مطمئنين بالربح عادةً، بل غالباً، ولا هم غافلون عن احتمال حصول المانع وعن أنّ الـمُقتضي للرّبح أَكثريٌّ ظنّي، لا دائميّ أو اطمئنانيّ، وأما كونه خلاف الاحتياط فلأنّه كثيراً ما يحتمل خسارتهم لرأسمالهم نفسه أو لأكثر مما يظنون ربحه، ومع ذلك يبنون على القاعدة.
وكذلك حالُ الطلّابِ عندما يحضرون درس الأستاذ، أو المريض عندما يُراجع الطبيب، في أمثلتِنا السابقة، إذ إنّهم مُلتفتون غير غافلين عن أنّ الـمُقتضي لمجيء الأستاذ، وهو رغبتُه في الثواب أو في التعليم أو الأُجرة التي يأخذها في الجامعة على تدريسه، موجود، وأنّه ليس علّةً تامّةً للمجيء (وأنّه يحضر عادةً 85٪ من الأيام مثلاً)، وأنّ المانع، كحدوثِ عاصفةٍ رمليّةٍ مُحتملة، ضعيف، كـ 10٪؛ فلا هو اطمئنان، ولا هو غفلة.
إن قلت: هو رجاءٌ واحتياط؟
قلتُ: كلا، بل يحضرون، أو يُسافر التاجر بتجارته في البحر، أو يشتري الأسهم، نظراً للمرآتية والأماريّة، إذ يستظهرون، بحسب قوّة درجة الـمُقتضي، وضعف احتمال المانع – على ما سبق – الرّبحَ والمجيءَ، وليس أنه مجرّد الرجاء. نعم، لو كان الـمُقتضي للربح ومجيءِ الأستاذ... إلخ، ضعيفاً (كما لو كان الأستاذ يحضر 60٪ من الأيام أو أقل، واحتمال الربح 60٪ مثلاً)، وكان احتمال المانع قويّاً، (كما لو كان 40٪ مثلاً أو أكثر) فإنّهم هنا قد يُقال بأنّهم يعملون بالقاعدة رجاءً واحتياطاً، لا كمرآةٍ للواقع، على اجتماعهما ممكن بل حسن غير ضار. فتدبّر. 
 
الـمُقتضي التكويني والتشريعي والملاكي
الثانية: إنّ الـمُقتضي يُفسَّر بإحدى ثلاثة معانٍ:
1- ما يقتضي وجود الأثر التكويني في عالم التكوين، كاقتضاء النار لإحراق الحطب، وكذلك المانع، فقد يكون مانعاً تكوينياً، كالرطوبة في الخشب.
2- ما يقتضي وجود الأثر التشريعي في عالم التشريع، أي بحسب جعل الشارع، وكذلك حال المانع إذ قد يكون كذلك بحسب جعل الشارع، وذلك مثل العقد، فإنّه مُقتضٍ لنقل الملكيّة (في البيع مثلاً)، أو المنفعة (في الإجارة)، بجعل الشارع (أو بجعل العقلاء وإمضاء الشارع)، وأما المانع، فكالإكراه، فإنّه مانع عن صحّته أو عن لزومه بجعل الشارع[3]، وقد لا يكون ما يتوهم مانعاً عن أيٍّ منهما، مانعاً شرعاً وذلك كالاضطرار.
3- المقتضي الملاكي، أي ما يقتضي وجود الأثر باعتباره ملاكاً واقعاً أو في نظر المشرّع، كالمصلحة والمفسدة بدرجاتها، للأحكام الأربعة بل وللإباحة الاقتضائيّة أيضاً، فهذا كلّه بحسب المحقّق النائيني في الفوائد[4]، والمحقّق الحلّي في أصوله، مع بعض الإضافة.
 
التفصيل بحسب أنواع المقتضي
وأحكامها إجمالاً:
أمّا الأخير، فحيث أنّ ملاكات الشارع ليست بأيدينا، ولا المزاحِمات، والموانع، والشروط والقواطع، فلا تجري قاعدة الـمُقتضي والمانع أبداً، كما سبق.
وأمّا الأوّل - فقد سبق أنّ المختار جريان القاعدة فيه، (لكن بعد الفحص – وبحسب تفصيلٍ آتٍ).
وأمّا الثاني، فهو محلّ الشاهد في معقد البحث، وهو جريان قاعدة الـمُقتضي والمانع، حسب الشيخ في الطهارة، في ملاقاة النجاسة للكرّ المشكوك إطلاقه وإضافته، استناداً إلى القاعدة، وذلك بناءً على أنّ سببيّة الملاقاة للنجاسة بجعل الشارع، وأنّ اعتصام الكرّ المطلق أي مانعية إطلاق ماء الكر عن الانفعال، بجعله، وأمّا لو قُلنا بأنّ النجاسة والطهارة، وسببيّة الملاقاة، والسراية، هي تكوينيّات كشف عنها الشارع، فإنّها تندرج في الصورة الأولى، وتكون أولى بجريان القاعدة، إذ قد يقول قائل بجريانها في الـمُقتضي التكوينيّ دون المجعول مُقتضياً تشريعاً.
من شروط جريان قاعدة الـمُقتضي والمانع، الفحص
الثالثة: إنّ الأصوليّين ذكروا لجريان الأصول العمليّة في الشبهات الموضوعيّة شروطاً، وقد اختلفوا فيها على أقوال، والشاهد: أنّ تلك التفصيلات يمكن القول بها في قاعدة الـمُقتضي والمانع، وعلى أيٍّ ففي جريان البراءة في الشبهة الموضوعيّة، هنالك ثمانية أقوال، نقلها السيّد الأخ الأكبر (قدّس سرّه) في الجزء الثامن من تبيين الأصول مع المناقشات والأخذ والرد فيها: عدم وجوب الفحص مطلقاً، وهو المشهور بين المتأخرين، وجوبه مطلقاً، كما عن السيدين الوالد والعم، وتفصيلات في المسألة ننقل منها ثلاثة:
منها: ما نقله السيّد العمّ (حفظه الله).
من (التفصيل بين ما يُوجِب ترك الفحص فيه الوقوع في مخالفة الواقع كثيراً وبين غيره، بالوجوب في الأوّل دون الثاني، صرّح به جمهرةٌ من المتأخّرين: كـالشيخ الأنصاري (قدّس سرّه) والعديد من تلاميذه، وتلاميذهم، كالمحقّقين: النائيني، والعراقي، والإصفهاني وغيرهم، كلّ ذلك في كتبهم الفقهيّة، في مسائل:
1- الشكّ في تعلّق الزكاة أو مقدارها.
2- الشكّ في تعلّق الخمس أو في مقداره.
3- الشكّ في حصول الاستطاعة للحجّ.
4- الشكّ في المسافة: أصلها أو بُلوغها، أو حدّ الترخّص: أصله أو بُلوغه.
5- الشكّ في دم الاستحاضة أنّه قليل أو متوسط أو كثير، وغير ذلك)[5].
أقول: ونظائرها وهي كثيرة، كالفحص عن بُلوغه متى شُكَّ فيه، عن تحقّق إحدى العلامات الثلاث، وعن حصول سنّ اليأس لها، وعن هلال شهر رمضان أو العيد.
فعلى هذا الرأي لا يصحّ إجراء استصحاب العدم، ولا أصل البراءة.
ومنها: (ما ذكره المحقق النائيني: حيث قال: "إن عدم وجوب الفحص في الشبهات الموضوعية إنما هو فيما إذا لم تكن مقدمات العلم حاصلة، بحيث لا يحتاج حصول العلم بالموضوع إلى أزيد من النظر في تلك المقدمات، فإن في مثل هذا يجب النظر، ولا يجوز الاقتحام في الشبهة – وجوبية كانت أو تحريمية – إلا بعد النظر في المقدمات الحاصلة؛ لعدم صدق الفحص على مجرد النظر فيها"[6].
وعلّق عليه المحقق العراقي في الهامش: "ولقد أجاد فيما أفاد"[7]. إذ الفحص إنما يكون بتمهيد مقدمات العلم التي هي غير حاصلة.
والظاهر أن مراده أنه لو لم يكن للعلم مؤنة فلا يصح إجراء الأصول العلمية؛ لأن مقدمات العلم متوفرة، وتحصيلها لا يحتاج إلا إلى مجرد النظر أو السؤال، كمَنْ هو فوق السطح في شهر رمضان بحيث لو نظر إلى الأفق علم بطلوع الفجر أو عدمه، فلا يحق له استصحاب بقاء الليل، أو إجراء أدلة البراءة، وبتعبير المحقق الحائري: "العلم في كُمّه" أما لو كان المكلف في سرداب، وكان النظر إلى الأفق بحاجة إلى صعود مائة درج مثلاً حق له الأكل اعتماداً على الأصول المؤمنة)[8].
وسيأتي بإذن الله تعالى التفصيل الآخر، كما سيأتي صحة تقييد جريان قاعدة المقتضي والمانع بكل من هذه القيود المذكورة في الأقوال الثلاثة الأخيرة فانتظر.
 
 
عن أبي بصير قال: «سَأَلْتُ أَبَا عَبْدِ اللَّهِ (عليه السلام) عَنْ حَدِّ الْعِبَادَةِ الَّتِي إِذَا فَعَلَهَا فَاعِلُهَا كَانَ مُؤَدِّياً، فَقَالَ: حُسْنُ النِّيَّةِ بِالطَّاعَةِ» الكافي: ج2 ص85.
 
وصلى الله على محمد وآله الطاهرين
 

[2] وقال الشيخ الحلي: (وأمّا الاطمئنان والظنّ النوعي بالبقاء فهو إنّما يضرّ لو قلنا بحجّية الاستصحاب تعبّداً صرفاً من دون جهة تقتضيه، أمّا لو قلنا بحجّيته من باب الاطمئنان والظنّ فلا يكون ذلك مضرّاً بالاستدلال، لكن لا يلزم ذلك أن يكون كلّ ظنّ نوعي حجّة، بل هو خصوص ما جرت الطريقة العقلائية على الاعتناء به وترتيب الأثر عليه، ما لم يكن هناك ما يوجب الردع عنه شرعاً، سواء كان من موارد الاستصحاب، أو غيره ممّا جرت السيرة على العمل به من موارد الاطمئنان أو الظنّ النوعي). (أصول الفقه: ج9 ص33-34).
 
 
 
 
 

  • المصدر : http://www.m-alshirazi.com/subject.php?id=4711
  • تاريخ إضافة الموضوع : الأربعاء 16 ذو القعدة 1446هــ
  • تاريخ الطباعة : 2025 / 05 / 15