بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على محمد وآله الطيبين الطاهرين سيما خليفة الله في الأرضين، واللعنة الدائمة على أعدائهم أجمعين، ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم
(120)
طريقة الشيخ الطوسي في تطهير المضاف المتنجس
سبق: أن الشيخ الطوسي (قدس سره) ذهب إلى أنّ طريق تطهير المضاف المتنجّس منحصر في اختلاطه بالمـُعتصم، قال: (ولا طريق إلى تطهيره بحال، إلّا أن يختلط بما زاد على الكر من المياه الطاهرة المـُطلقة...) [1].
أقول: لكنّ الشيخ الطوسي لم يستدلّ على مدّعاه في المبسوط، كما هو دَأبه فيه؛ فإنّه مبسوط في الفتاوى، لا الاستدلال. ولم أجد، في استقراءٍ ناقصٍ، من استدلّ عليه [2]، بل أعرض المشهور عنه، وأرتأوا أنّ الطريق: الاستهلاك أو تغيّره حتى يصير ماءً مُطلقًا، أو التصعيد (على الخلاف فيه، كما سبق). لذا ينبغي أن نتبرّع له بما يمكن أن يكون مستندًا لكلامه.
قيود مطهِّرية الكر، للمضاف المتنجس:
ولكن، نبدأ بذكر قيود ثلاثة اعتُبرت شرطًا في مطهِّريّة الاختلاط، حيث ذكر كلّاً منها أحدُ الفقهاء:
الزيادة على الكر
القيد الأوّل: ما ذكره الشيخ الطوسي (قدس سره) بقوله: (أن يختلط بما زاد على الكر) وقد سبق: ( الرابع: إنّه هل المـُطهِّر هو الكرّ أو الزائد على الكرّ؟، وصريح الشيخ الثاني: (إلّا أن يختلط بما زاد على الكر) ولكن حَمَلَه جمعٌ على أن مراده صورة الإلقاء التدريجي دون الدّفعي – فراجع الجواهر والينابيع إن شئت، ولعلّه يأتي بيان) [3].
القيد الثاني: ما ذكره العلامة الحلي (قدس سره) بقوله في التحرير: (ويطهر بإلقاء كر من المطلق فما زاد عليه دفعةً) [4].
والمـُستَظهَر أنّ الشيخ قيّد بالزيادة على الكرّ (خِلافًا لما احتمله الجواهر بقوله: (ولعلّها – أي اشتراط زيادة الكر – وقعت منه لا على سبيل الشرطية)، للوجه الآتي: وهو أن الكرّ إمّا أن يُخلَط بالمضاف المتنجّس، وإمّا أن يُلقى عليه دفعةً واحدة، ولكلامه وجه في كلتا الصورتين.
والصورة الأولى هي ظاهر كلامه، إذ الخلط عادةً يكون تدريجيًّا، والصورة الثانية هي ما قيّد به العلّامة.
فإن كان الخلط تدريجيًّا، فوجه اشتراط الزيادة على الكر ظاهر، وهو أنّ الغالب أنّ المضاف المتنجّس لو اختلط بالكر تدريجيًّا، فإنّه في أوّل أحيان ملاقاته، ملاقاة كيلو من الدِّبس مثلاً لكرّ من الماء، يصبح مقدارٌ من الكرّ المماسّ للدِّبس مضافًا فيتنجّس، وحيث إنّ الباقي من الكرّ أقلّ من الكرّ، فيتنجّس أيضًا.
فينحصر الطريق، في مثل هذه الصور الغالبة، في أن يكون أكثر من الكر.
ثم أن قدر الزيادة هذه وتحديد اللازم منها منوط بأمرين: حرارة ماء الكر أو برودته، ومقدار المضاف المتنجّس ومدى فاعليّته وتأثيره؛ فقد يُؤثّر في كيلو من ماء الكرّ، وقد يُؤثّر في عشرة كيلوات، فالزيادة يجب أن تكون بقدره.
وإنّما قيّدنا بـ "غالبًا"، لأنّ المضاف المتنجّس قد لا يكون مؤثّرًا في الكرّ إطلاقًا، فلا تُشترط الزيادة على الكرّ حينئذٍ، وذلك كما لو تنجّس إناء من ماء البرتقال أو ماء الورد بذرّةٍ لا تُرى من الدم أو البول، بناءً على ما لعلّه المشهور من أنّ الأجزاء التي لا تُرى من النجاسات نجسة ومُنجّسة.
بل، حتى لو تنجّس بقطرة من البول، فإنّه لو أُلقي هذا الإناء في الكرّ، فلا شكّ في أنّه لا يتأثّر [5] – حتى جزءٌ منه – بقطرة البول المنحلّة في الإناء.
وعليه: فإنّما ذكر الشيخ الطوسي الزيادة على الكرّ رعايةً للغالب، أو احتياطًا لجميع الصور، وهذا الوجه احتمله صاحب الجواهر، قال: (فأمكن إرادته الإلقاء التدريجي مع كون الماء مستعلياً، فيشترط هنا الزيادة على الكرّ حتى يتقوّم ما جرى منه واتصل بالمضاف، بالكرّ، كما وقع من العلامة [6] في التطهير بمادة الحمّام) [7]، لكن هذا الوجه، أي الشرط، غير تام فالأظهر هو ما ذكره بقوله: (نعم يحتمل أن يكون وجهه أنّه لو اختلط به مقدار الكرّ في الفرض السابق، فأوّل الاتصال قد يغلب المضاف عليه فينجس، فينقص الكرّ فلا يطهر، لكن إذا كان زائداً فإنّه إن غلب إنّما يغلب على الزيادة، فيبقى الكرّ سالماً، وليس حاله كحال ما إذا أُلقي الكرّ على الماء النجس الغير المتغيّر، فإنّه يطهر بمجرّد الاتصال بناءً على عدم اشتراط الامتزاج، فيتّجه حينئذٍ هنا الاشتراط) [8].
إلقاء الكر على المضاف، دفعةً
وأمّا اشتراط العلّامة "الدُفعة"، فالظاهر أنّه لكي يتجاوز الإشكال السابق؛ إذ مع الإلقاء دفعةً، فإنّ الكرّ يستولي على جميع المضاف دفعةً واحدةً فيُطهّره، فلا يتأثّر به بعضُه.
لكنّ الظاهر أنّه لا إطلاق له، أ- إذ المتنجّس أنواع: فبعضه قد ينحلّ في الكرّ فورًا بالإلقاء عليه دفعة، وبعضه – كالدِّبس الجامد – ينحلّ تدريجيًّا، فيُغيّر ما جاوره من ماء الكرّ. ب- كما أنّ ماء الكرّ أنواع: فإن كان حارًّا جدًّا، أمكن أن ينحلّ فيه المضاف فورًا، عرفياً، دون ما لو كان باردًا جدًّا، أو باردًا.
وعليه، فاشتراط الزيادة على الكرّ في بعض الصور ضروري، بل اشتراطه في صور الشك أيضًا لازم، إذ لا بُدّ من إحراز غلبة الكرّ عليه دفعة، والأصل عدمه.
قابلية القابل لنفوذ ماء الكر فيه
القيد الثالث: ما ذكره السيد الجدّ (قدّس سرّه)، وهو اشتراط قابليّة القابل، إذ فصّل بين الدهن المتنجّس فلا يقبل التطهير، والدبس المتنجّس فيقبله، وقد سبق.
ووجهه: أنّ الدهن، لتماسك أجزائه ودُسُومته، ينزلق الماء عن أجزائه ولا ينفُذ فيه، فكيف يُطهّره؟
ولكن لو سلّمنا ذلك، قد يُورَد عليه: إنّ الماء إذا لم ينفُذ في أجزائه، فإنّ النجاسة – كالبول والدم – لا تنفُذ فيها أيضًا، فإنّما تنجّس سطحه، والماء يُطهّر سطحه.
نعم، لو فُرضت مادّة كيماوية متنجّسة، حارقة خارقة، عُلم بأنّها نفذت في داخله، كان لا بُدّ من العلم بنفوذ الماء في داخله، ولو بعِلاجٍ.
لا يُقال: لا يُشترط نفوذ الماء في داخل الدهن، إذ يكفي تطهير سطحه الظاهر في التعامل معه معاملة الطاهر؟
إذ يُقال: ذلك صحيح لو أُريد لمسه، دون ما لو أُريد أكله، إذ لا يجوز أكل النجس والمتنجّس، سواء أكان ظاهره متنجّسًا أم باطنه.
الأدلة على مطهرية اختلاط المضاف المتنجس، بالمعتصم
وأمّا ما يمكن أن يُستدلّ به لمطهّريّة اختلاط المضاف المتنجّس بالكرّ ونحوه، فوجوه:
الارتكاز العقلائي والإطلاق المقامي
أوّلًا: الارتكاز العقلائي؛ فإنّ مرجع مطهّريّة الاختلاط إلى مطهّريّة الملاقاة، ولذا اشترط (قدّس سرّه) الاختلاط، ولم يكتفِ بالاتّصال، وبالاختلاط يُصيب الماء المطلق كلّ جزءٍ جزءٍ من أجزاء المضاف، فيُطهّره، وذلك على القاعدة العقلائيّة والشرعيّة، ومع ثبوت الارتكاز العقلائي، يكون المرجع الإطلاق المقامي.
فكما أنّ ملاقاة الكرّ للأجسام الجامدة المتنجّسة (أي غسلها به) مُطهّر لها، وكما أنّ ملاقاة الكرّ للماء القليل المتنجّس واختلاطه به – بل حتى مجرّد الاتصال على رأي – مُطهّر له، فكذلك ملاقاته للمضاف المتنجّس.
لا يُقال: ذلك من تنقيح المناط أو القياس؟
إذ يُقال: أوّلًا، إنّه تنقيح مناطٍ قطعي، لأنّ الماء المضاف يقع في مرتبة وسطى بين الماء المطلق والجسم الجامد، فإذا طَهُرا جميعاً بالملاقاة، طهر كذلك، فهو قياس أولوي.
ولكن يرد عليه: إنّه ليس مناطًا قطعيًّا، إذ لعلّ في المضاف خصوصيّةً لا يَطهُر معها بالاختلاط، ولو بالمـُعتصم.
ثانيًا: سلّمنا لكن مرجع الاستدلال، في واقعه، إلى الفهم العرفي وإمضاء الشارع بالإطلاق المقامي.
توضيحه: إنّه إن قلنا بأنّ النجاسة والطهارة أمران عرفيّان، فالأمر واضح؛ إذ تكون كيفية التطهير أيضًا موكلة إلى العرف، فما لم يتدخّل فيه الشارع، فالعرف مرجع، والعرف يرى ملاقاة الكرّ لأجزاء المضاف المتنجّس كملاقاته لأجزاء القليل المطلق المتنجّس ولأي جسم آخر، أي أنه يرى إصابة الماء (خاصة الكرّ) للشيء مطهِّرة.
وإن قلنا بكونهما واقعيّين، فكذلك، إذ الموضوعات الواقعيّة، الطريق إليها العرف العام؛ ألا ترى أنّ الشارع إذا رتّب أحكامًا على عناوين كـالكلب والخمر، وقد أُريد بها الواقعي من الكلب والخمر لأن الأسماء أسماء لمسمياتها الثبوتية، كان المرجع في تحديد ما هو كلب وخمر هو العرف، فقد عدنا إلى العرف، فكان الأمر فيه كالسابق، فالعرف طريق إليهما وإلى كيفية التطهير الواقعية.
وإن قلنا بأنّهما شرعيّان، فقد يُقال حينئذٍ: فلا طريق للعُرف إلى تحديد المـُطهِّر والمـُطهَّر، فمن أين له أن يحكم بأنّ الكرّ يُطهّر المضاف المـُتنجّس، مع كون النجاسة شرعيّة؟ (ونسبتها مع القذارة العرفيّة هي من وجه كما سبق).
لكن يمكن الجواب: بأنّ الطريق هو الإطلاق المقامي وسكوت الشارع، الذي يكشف عن إيكاله الأمر إلى العُرف.
توضيحه: إنّا وإن قلنا بكونهما شرعيّين، إلّا أنّ الشارع قد حدّد النجاسات في أعيانٍ، كـالكلب والخنزير، وحدّد المطهّرات في أمور، كـالماء والتراب، وحيث وجدنا – باستقراء تام – أنه كلما كانت لديه كيفية خاصّة للتطهير، ذَكرها، كـغسل الأواني ثلاث مرّات، والتعفير في ولوغ الخنزير أو الكلب، أو الغسل سبع مرّات على الآراء، والغسل مرّتين من البول إذا كان بالماء القليل؛ علمنا أنّه كلّما سكت ولا كيفية خاصّة له، فإذا كان هنالك ارتكاز عقلائي أو طريقة للعرف العام على كيفية التطهير، كان سكوت الشارع إمضاءً، وإلّا لوجب عليه البيان، وإلّا كان إغراءً بالجهل، إذ العقلاء ينساقون وراء ارتكازاتهم عادةً، لولا الرّدع.
نعم لو أنكر منكر تحقق هذا الارتكاز أو تلك الطريقة العامة، لما تمّ هذا الوجه.
بوجهٍ آخر: عندما يرى العقلاء أنّ الشارع اعتبر الكرّ مطهّرًا لجميع المياه المطلقة، ولجميع الأجسام المتنجّسة، وسكت عن الماء المضاف، يرونه مطهّرًا لديه أيضًا، للمُلازمة العاديّة الارتكازيّة [9].
لا يُقال: لكنّه رَدَع في ماء المرق، إذ أمر بإهراقه، ونحوه.
إذ يُقال: سيأتي بحثه مستقلًّا، لكنّه في مرحلة المانع والرادع، ونحن الآن في مرحلة المـُقتضي.
لا يُقال: ارتكاز المتشرّعة في كيفية التطهير حجّة، دون ارتكاز العقلاء.
إذ يُقال: إذا سلّمنا وجود ارتكازٍ للعقلاء، كان المتشرّعة منهم، فلا بُدّ أن يصل دليل على أنّ ارتكازهم على العكس، وإلّا كان ارتكازهم على الأصل.
لا يُقال: المشهور على عدم مطهّريّة الاختلاط.
إذ يُقال: ذلك لما استظهروه من روايات المرق ونحوها، لا لعدم وجود ارتكازٍ عقلائي، فإذا أجبنا عن روايات المرق كما سيأتي، ارتفع المانع.
وللبحث صِلة، بإذن الله تعالى.
قال الإمام زين العابدين (عليه السلام): (إِنَّ الدُّنْيَا قَدِ ارْتَحَلَتْ مُدْبِرَةً وَإِنَّ الْآخِرَةَ قَدِ ارْتَحَلَتْ مُقْبِلَةً وَلِكُلِّ وَاحِدَةٍ مِنْهُمَا بَنُونَ فَكُونُوا مِنْ أَبْنَاءِ الْآخِرَةِ وَلَا تَكُونُوا مِنْ أَبْنَاءِ الدُّنْيَا.
أَلَا وَكُونُوا مِنَ الزَّاهِدِينَ فِي الدُّنْيَا الرَّاغِبِينَ فِي الْآخِرَةِ.
أَلَا إِنَّ الزَّاهِدِينَ فِي الدُّنْيَا اتَّخَذُوا الْأَرْضَ بِسَاطاً وَالتُّرَابَ فِرَاشاً وَالْمَاءَ طِيباً وَقُرِّضُوا مِنَ الدُّنْيَا تَقْرِيضا...) (الكافي: ج2 ص131).
وصلى الله على محمد وآله الطاهرين
|