بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على محمد وآله الطيبين الطاهرين سيما خليفة الله في الأرضين، واللعنة الدائمة على أعدائهم أجمعين، ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم
(121)
سبق: (إنّا وإن قلنا بكونهما شرعيّين، إلّا أنّ الشارع أ- قد حدّد النجاسات في أعيانٍ، كـالكلب والخنزير، ب- وحدّد المطهّرات في أمور، كـالماء والتراب، ج- وحيث وجدنا – باستقراء تام – أنه كلما كانت لديه كيفية خاصّة للتطهير، ذَكرها، كـغسل الأواني ثلاث مرّات، والتعفير في ولوغ الخنزير أو الكلب، أو الغسل سبع أو ثلاث مرّات على الآراء، والغسل مرّتين من البول إذا كان بالماء القليل؛ علمنا أنّه كلّما سكت ولم يحدد كيفية خاصّة، فقد أوكل الكيفية إلى العرف، فإذا كان هنالك ارتكاز عقلائي أو طريقة للعرف العام على كيفية التطهير، كان سكوت الشارع إمضاءً، وإلّا لوجب عليه البيان، وإلّا كان إغراءً بالجهل، إذ العقلاء ينساقون وراء ارتكازاتهم عادةً، لولا الرّدع.
نعم لو أنكر منكر تحقق هذا الارتكاز أو تلك الطريقة العامة، لما تمّ هذا الوجه) [1].
الإطلاق المقامي حجة، كاللفظي
مزيد توضيح: إنَّ الدليل هو الإطلاق المقاميَّ وهو حجَّةٌ كالإطلاق اللفظيِّ، والفرقُ بينهما في أُمورٍ ثلاثة: في المصبِّ، والمنشأ، والمآل سعةً وضيقًا، وعدمه. وقد سبق: إنّ الإطلاق إما لفظي أو مقامي، واللفظي يعتمد على لفظ معين أما المقامي فلا لفظ فيه بل المقام هو الناطق بالحكم، واللفظي ينفي القيود أما المقامي فكثيراً ما ينفي أمراً آخر وقد يفيد أمراً آخر.
فوارق الإطلاقين
والفرق بينهما في أمور ثلاثة اجمالاً:
الفرق الأول: في المصبّ أو ان شئت قل المتعلق، فمصب الاطلاق اللفظي هو قيود الموضوع لكن مصب الاطلاق المقامي هو بدائل الموضوع أو قسائم الموضوع [2].
الفرق الثاني: في منشأ الاطلاق أو قل منشأ الظهور.
الفرق الثالث: في نتيجة الاطلاقين فإنّ الاطلاق اللفظي موجب للتوسعة في دائرة الموضوع وعدمه موجب للتضييق في دائرة الموضوع، عكس الاطلاق المقامي حيث لا يوجب وجوده أو عدمه توسعة أو تضيقا للموضوع [3].
توضيح ذلك: إنَّ المولى إذا قال لعبده: (أكرِمِ العالِم)، فهنا يُتمسَّكُ بالإطلاقِ اللفظيِّ لنفي وجود قيود لموضوع هذا الحُكم، وأنَّه لا فرق بين كون العالِمِ متّقيًا أم لا؟ شاعرًا كان أم لا؟ كاتبًا كان أم لا؟ وهكذا.
إذًا: الإطلاقُ اللفظيُّ يُتمسَّكُ به لنفي القيود المـُحتملة في موضوع الحُكم، وهو (العالِم). لكن إذا قال: (أكرِمِ العالِم)، فهل ينفي ذلك وجوب الإكرام عن الموضوعات الأُخرى، مثل: إكرامِ الأب، إكرام البقّال (بما هو بقّال لا بلحاظ جهلِه)، أو إكرام الصديق فهل (أكرِمِ العالِم) تعني: لا تُكرم أباك؟ لا تُكرم البقّال؟ لا تُكرم صديقك؟!
هنا موطن قاعدة: (إثباتُ الشيءِ لا ينفي ما عداه)، فإثباتُ الحُكم لموضوعٍ لا ينفي ثبوت حُكمٍ آخر لموضوعه. هذه هي القاعدةُ الابتدائية.
لكنَّ (الإطلاق المقامي)، لو تمَّ، فإنَّه حاكمٌ على هذه القاعدة، إذ ببركة الإطلاق المقامي يمكن أن ننفي ثبوت الحكم لسائر الموضوعات، فإذا قال الشارع: (الأكل، والشرب، والجماع مُفطِّراتٌ للصائم)، فموطن الإطلاق اللفظي هو قيود الأكل، أي: سواء أكان الأكل قليلًا أم كثيرًا، فإنَّه مُفطِّر. لكنَّ الإطلاق المقامي موطنُه نفيُ موضوعيَّة القسيم الرابع، الذي اسمُه: إيصال الغبار الغليظ إلى الحلق أو الارتماس (مع فرض عدم ورود نص بمفطريتهما).
فعندما يقول الشارع: (الأكل، والشرب، والجماع مُفطِّراتٌ للصائم)، فالقاعِدةُ الأوليَّةُ تقتضي أنَّ إثبات الشيء لا يَنفي ما عداه، أي لا ينفي كون الارتماس (فرضًا) مُفطِّرًا أيضًا، ولا ينفي أن يكون التدخين مُفطِّرًا أيضًا، أو أيَّ شيءٍ آخر من مُحتملات المفطِّريَّة، إلّا ببركةِ الإطلاقِ المقامي لو تمَّ، فإنَّ ذِكرَ الشارع للأربعة، أو العشرة، ينفي موضوعيَّة القسيم الخامس أو الحادي عشر عن كونه مشمولًا للحُكم.
أما الفرق الآخر فهو في المنشأ، فإن منشأُ الإطلاق اللفظي هو مقدمات الحِكمة، ومنها: كونُ المولى في مقام بيان تمام ما له مدخليَّةٌ في الموضوع من القيود.
لكنَّ منشأ الإطلاق المقامي ليس هذا، لأنَّه لا يتحدث عن هذا الموضوع وقيوده، بل منشؤُه أحدُ أمرين:
إمَّا تصريحُ المولى بأنَّه في مقام الحصر، كما لو قال: (الآن أُعدِّدُ لك مفطِّرات الصائم، وهي كذا وكذا وهكذا). فتصريح المولى أنَّه في مقام حصر موضوعات هذا الحكم، يكونُ دليلًا على نفي كون القسيم الحادي عشر موضوعًا للحكم.
أو يكون (وهنا نقطة الافتراق) المولى في مقام بيان كُلِّ موضوعات أحكامه (لكنه هناك كان في مقام بيان كُلِّ قيود موضوع حكمِه). فإذا كان في هذا المقام وذكر خمسة موضوعاتٍ مثلًا، نفى ذلك كون السادس موضوعًا.
وعلى هذا، فإنَّ الإطلاق المقامي: إطلاقٌ عقلائيٌّ، وصحيحٌ، وعلى القاعدةِ، وسيرةُ العقلاءِ جارِيَةٌ عليه. (الاجتهاد والتقليد – الدرس 59).) [4].
ولا شكَّ في تماميَّة الإطلاق المقامي في المقام، إذ لم يذكر الشارع لِكيفية تطهير المتنجِّسات بالماءِ كيفيةً، إلّا المواردَ المعلومة المحدَّدة.
وحيثُ كان مقامُه مقام الحصر، أفاد عدم اشتراط كيفيةٍ خاصَّةٍ غير، أو زائدًا، على ما يراهُ العُرفُ مُطهِّرًا.
والمـُرادُ بكونه مقامه مقام الحصر، ليس الرواية الواحدة، والإمام الواحد، بل كلمات مجموعهم (عليهم السلام) في المواطن المختلفة، فإنَّ كلامهم جميعًا ككلام الرجل الواحد في المجلس الواحد.
البرهان على مطهِّرية الماء، مطلقاً، لدى العرف
وأما ما ذكرناه بـ (نعم لو أنكر منكر تحقق هذا الارتكاز أو تلك الطريقة العامة، لما تمّ هذا الوجه) [5]، فالصحيح: أنَّه لا مجال لإنكار استقرار هذه الطريقة العامَّة للعُرف، وبناء العقلاء عليها في كلِّ مكان؛ ألا ترى أنَّ جميع العقلاء في العالم، من كلِّ المللِ والنِّحل، على امتدادِ الأزمنة، يرون الماء المـُطلق مُطهِّرًا لكلِّ القذارات، بشرط إزالة عينها وآثارها، كاللّون، والرائحة، والطَّعم، سواءٌ في غسل الأراضي، أم الجدران، أم الثياب، أم الأواني، أم أيِّ شيءٍ آخر.
والماء المـُضاف المـُتنجِّس، لو أصابه الكرُّ المـُعتصِم بكلِّ أجزائه، فأزال آثار النجاسة من طَعمٍ، ولَونٍ، ورائحةٍ، لا يَشكُّ العقلاء في أنَّه مُطهِّرٌ له حينئذٍ.
نعم، قد يُوَسْوِسُ في ذلك الوسواسُ، ككلِّ بناءٍ لهم يُشَكِّكُ فيه بعضُهم.
ارتكاز العقلاء والمتشرعة، كلاهما حجة، لكن بفارق
وسبق: (لا يُقال: ارتكاز المتشرّعة في كيفية التطهير حجّة، دون ارتكاز العقلاء.
إذ يُقال: إذا سلّمنا وجود ارتكازٍ للعقلاء، كان المتشرّعة منهم، فلا بُدّ أن يصل دليل على أنّ ارتكازهم على العكس، وإلّا كان ارتكازهم على الأصل) [6].
وتوضيحه: إنَّه لا شَكَّ في حُجيَّة كلا الارتكازين، إلَّا أنَّ الفارق هو أنَّ ارتكاز المتشرِّعة وبناءهم وسيرتهم لا يحتاج إلى الإمضاء، عكس ارتكاز العقلاء وبناءهم وسيرتهم.
والسَّبب: أنَّ ارتكاز المتشرِّعة لا يُعقَلُ عادةً أن يكون منشأُه غير الشارع، وإلَّا فكيف نشأ ارتكازهم على خلاف مبنى العقلاء، أو في موردٍ لا ارتكاز لهم فيه؟!
مثلًا: العقلاء يبنون على حجيَّة قول أهل الخبرة، من دون اشتراط العدالة، أو الرُّجولة، أو الحياة، أو الحرية، أو الإيمان، فإذا وجدنا – فَرضًا – ارتكاز المتشرِّعة على اشتراطها في مرجع التقليد، لم يكن له وجهٌ إلَّا تَلَقِّيهم ذلك من الشارع.
وأمَّا بناء العقلاء، فلا بُدَّ فيه من الإمضاء، إلّا على ما سلكناه – خلافًا للمشهور – من أنَّ بناء العقلاء بما هم عقلاء، غير محتاج إلى الإمضاء، لأنَّ مرجعه إلى حُكم العقل، وهو حُجَّةٌ باطنةٌ. فراجِعْ ما فَصَّلنا به بُرهانَ ذلك [7].
بناء الفقهاء على أن المرجع ف ي كيفية التطهير، العرف
بل نقول: إنَّ بناء الفقهاء في كثير من أبواب الفقه، على أنَّ المرجع في كيفيَّة التطهير هو العُرف، كلُّما لم ينطق بها الشارع، وذلك في العشرات من الموارد والمسائل.
ومن نماذجه: كون النجاسة بالسراية، فلا تتحقق في مثل النافورة ومطلق الداني إلى العالي.
ومن نماذجه: ما ذكره السيد الحكيم (قدس سرّه) في مصباح المنهاج، قال في ردِّ كلام العلّامة: (إنَّ الاتصال مُطهِّر): (وأضعف من ذلك الاستدلال بعمومات مطهِّريةِ الماء، لعدم التعرُّض فيها لكيفية التطهير به، فلا بُدَّ من تنزيلها على الوجه العُرفي، وهو التطهيرُ باستيلاء الماء على الموضع النَّجِس، الذي لا مجالَ له في السوائل) [8].
وأقول: وأنت ترى إذعانه بالكبرى (لا بُدَّ من تنزيلها على الوجه العُرفي)، وإنما يُنكر الصغرى (الاتصال موجب لاستيلاء الماء، فهو مطهِّر عُرفاً)، ونحن نُنكرها هنا أيضاً، لكننا نرى تحقُّقها في مسألتنا (الامتزاج الذي يُزيل كل آثار النجاسة)، بل قد تحقَّق في المقام الشرط الذي اشترطه (استيلاء الماء على الموضع النجس)، فإنه إذا اختلط المضاف النجس بالكرِّ بكل أجزائه حتى سلبه صفات النجاسة، فقد استولى عليه دون شكٍّ، هذا.
وسيأتي إشكالٌ من السيّد الخوئي وغيره على المـُدَّعى، والجواب عنه في الدرس القادم في ضمن بحث الإطلاق اللفظي، بإذن الله تعالى.
الأدلة النقلية
ثانياً: الأدلة النقليّة من آيات كريمة وروايات شريفة، إذ يمكن الاستدلال بقوله تعالى : ((وَأَنْزَلْنا مِنَ السَّماءِ ماءً طَهُوراً))[9].
لكنّ الاستدلال بها يتوقف على تماميّة مقدّمتين:
الأولى: أن لا يكون (( طَهُوراً)) بإحدى المعاني الأربعة التالية، وهي: (طَهوراً) بمعنى المصدر، أي طُهراً، أو وصفاً بمعنى طاهر، أي ذو طهارة، أو صيغة مبالغة بمعنى شديد الطهارة، أو بمعنى مُطهَّراً، كـ(ذَلول) بمعنى مُذلَّل، (( هُوَ الَّذي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ ذَلُولاً)) [10]، فإنّ الآيةَ الكريمة تكون بحسب هذه المعاني غير مرتبطة بالمدّعى [11].
وإنّما يتمّ الاستدلال بها لو أُريد بها أحد المعاني الثلاثة الأُخرى، وهي: (طَهوراً) أي مُطهِّراً، أو طاهراً مُطهِّراً، أو اسم جامد بمعنى ما يُتطهَّر به، كالسَّحور، والوَضوء، والنَّشوق، فيكون نظير اسم الآلة.
وعلى أية حال فليس الاستدلال متوقفاً على هذه الآية الكريمة، نظراً لوفاء الآية الأخرى بالمطهرية وهي قوله تعالى: ((وَيُنَزِّلُ عَلَيْكُمْ مِنَ السَّماءِ ماءً لِيُطَهِّرَكُمْ بِهِ))[12].
الثانية: أن تكون مطلقة من حيث الكيفيّات، لتشمل المقام، وسيأتي إن شاء الله تعالى الإشكال في ذلك، والجواب.
قال أمير المؤمنين : (ضَعْ أَمْرَ أَخِيكَ عَلَى أَحْسَنِهِ حَتَّى يَأْتِيَكَ مَا يَغْلِبُكَ مِنْهُ وَلَا تَظُنَّنَّ بِكَلِمَةٍ خَرَجَتْ مِنْ أَخِيكَ سُوءاً وَ أَنْتَ تَجِدُ لَهَا فِي الْخَيْرِ مَحْمِلًا).
(الكافي: ج2 ص362).
وصلى الله على محمد وآله الطاهرين
|