بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على محمد وآله الطيبين الطاهرين سيما خليفة الله في الأرضين، واللعنة الدائمة على أعدائهم أجمعين، ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم
(122)
إشكال: النصوص ليست في مقام بيان الكيفية
سبق: (ثانياً: الأدلة النقليّة من آيات كريمة وروايات شريفة، إذ يمكن الاستدلال بقوله تعالى: Pوَأَنْزَلْنا مِنَ السَّماءِ ماءً طَهُوراًO[1]، Pوَيُنَزِّلُ عَلَيْكُمْ مِنَ السَّماءِ ماءً لِيُطَهِّرَكُمْ بِهِO[2].
لكنّ الاستدلال بها يتوقف على تماميّة مقدّمتين... الثانية: أن تكون مطلقة من حيث الكيفيّات، لتشمل المقام، وسيأتي إن شاء الله تعالى الإشكال في ذلك، والجواب)[3].
وقد أُشكل على ذلك بعدم كون الآية والروايات في مقام بيان الكيفية أصلًا، قال في المستند في مقام الرد على كلام العلّامة:
(فإنّ الآيات المتقدّمة قد عرفت عدم دلالتها على مطهّريّة الماء من الأخباث شرعًا، وعلى تقدير دلالتها على ذلك، لا تعرّض لها على كيفية التطهير، كما مرّ.
وأمّا الروايات، فلا دلالة فيها أيضًا على مدّعاه. أمّا ما ورد من: Sإنّ الله وسّع عليكم بجعل الماء طَهورًا، فإنّ بني إسرائيل...R[4]، فلأنها لو دلّت على أنّ الماء مطهّر من الأخباث، فلا تدلّ على كيفية التطهير بالماء، إذ لا تعرّض فيها لذلك بوجه.
وأمّا قوله (عليه السلام): Sالماء يُطهِّر ولا يُطهَّرR[5]، فلأنّه إنّما يدلّ على أنّ الماء طَهور، وأمّا أنّه مُطهِّر لأيّ شيء أو بأية كيفية فلا. وهو نظير أن يُقال: إنّ الله سبحانه يرزق ولا يُرزق، فإنّه يدلّ على استناد الرزق إلى الله تعالى، وأمّا أنّه يرزق أيَّ شيءٍ، بنتًا أو ابنًا أو مالًا، وأنّ رزقه على نَسَقٍ واحد، فلا يمكن استفادته منه بوجه، لإمكان اختلافه حسب اختلاف الموارد، كما هو الواقع)[6].
بل قال في الجواهر نافيًا أصل دلالة دليل نقلي، بوجهٍ، قال: (وكشف الحال في المسألة أنّا نقول: الروايات خالية عن كيفية تطهير المضاف، فلم يَبقَ لنا إلّا إدخاله تحت القواعد الممهّدة، والظاهر أنّه غير قابل للتطهّر؛ لعدم ثبوت كيفية خاصّة في تطهيره، ولا يمكن جريان ما وصل إلينا من المطهّرات عليه، حتى بالاستحالة بممازجةٍ دون الكرّ من الماء مثلاً، بل وبالاستهلاك به، بناءً...)[7]، وستأتي المناقشة معه في الاستحالة والاستهلاك...
أجوبة ثلاثة:
وقد يُجاب عن إشكال الإهمال في الآيات الكريمة والروايات الشريفة، أو الإجمال، وأنّها ليست في مقام البيان من جهة الكيفيّة، بوجوه ثلاثة:
1- الأصل كونها في مقام البيان
أولًا: مبنىً من أنّ الأصل في مقام التشريع، أن يكون الشارع في مقام البيان، لا الإجمال ولا الإهمال، كما بنى عليه المحقّق الخراساني في الكفاية، والسيّد الوالد في الأصول، واخترناه، وممّا يدلّ عليه: أنّ بناء العقلاء عامّة على ذلك؛ إذ يبنون على أنّ مواليهم العرفيّة (مَلِكًا كان أو مجلس أمّة أو غيرهما)، إذا كان في مقام التشريع، فإنّ الأصل في الألفاظ المطلقة التي ترد كموضوعات لأحكامه، الإطلاق لا الإهمال ولا الإجمال؛ ألا ترى أنّ المشرّع لو قال: يُمنع الاستيراد للحِنطة أو التصدير للقماش، فهموا أنّه يمنع الاستيراد والتصدير (وهما مطلقان) مطلقًا ولكل أنواع الحِنطة والقماش، لا أنّه شرّعه مُهمَلًا أو مُجمَلًا؛ ولذا يجدونه مستحقًّا للعقوبة لو استورد شيئًا، مُدّعيًا أنّه لم يُحرِز كون المولى في مقام البيان، ليشمل هذا النحو أو النوع أو الكمّ من الاستيراد أو التصدير.
2- بل الدليل على أن الكيفية عرفية
ثانيًا: سلَّمنا، لكن نقول: لنا دليل سابق على الأصل، وهو البرهان، وهو أنّها (كيفية التطهير) عرفية، وليست حقيقةً شرعيّة، وعلى مدّعي الحقيقة الشرعيّة فيها الدليل، بل المشهور[8]، لم يرَوا الحقيقة الشرعيّة في التطهير، بل حتّى من ذهب إلى كون الطهارة والنجاسة شرعيَّين (وأنّ الشارع وضع هذين اللفظين لحقيقةٍ أخرى، نِسبتها مع الطهارة والقذارة العرفيّة من وجه)، لم يقل بأنّ كيفية التطهير شرعيّة.
لا يُقال: إنّ الشارع تصرّف أحيانًا باشتراط شرط (كتعدُّد الغَسل بالقليل في البول، وكالتعفير).
إذ يُقال: ذلك من باب تعدّد الدالّ والمدلول، لا من باب الوضع الجديد والحقيقة الشرعية.
بعبارةٍ أخرى: الظاهر أنّ الشارع استعمل التطهير في نفس معناه العرفي، وأضاف له قيدًا أو شرطًا بدالٍّ آخر.
وبذلك ظهر أنّنا لو قلنا إنّ الطهارة والنجاسة واقعيّان أو عرفيّان، فكيفية التطهير كذلك، وقد سبق، بل حتّى لو قلنا بكونهما شرعيّين، إلا أنّ الكيفية تكون، رغم ذلك، عرفيّة.
وجهه: أنه لا تلازم بين المادّة والهيئة؛ فإذا دلّ الدليل على أنّ المادّة، أي: الطهارة والنجاسة، شرعيّان، فإنّه لا يُلازم ذلك كون تطهير النجس – الشرعي بنحو الحقيقة الشرعيّة؛ إذ يمكن أن يتصرّف الشارع في المادّة دون الهيئة، بل هو كثير في أعراف العقلاء، بل قد بَنى عليه الفقهاء، كما سبق، إذ لم يقل أحدٌ بالحقيقة الشرعيّة في التطهير (وهو الكيفية)، وإن قال جمعٌ بالحقيقة الشرعيّة فيهما، وحيث لا حقيقة شرعيّة فيها، فهي موكلة إلى العرف.
ويُوضحه: أنّه لو قال: أَضِئِ المصباح، أو أنِر الغرفة، فلو فُرِض أنّ حقيقة النور والضياء والظلام كانت مجهولةً لها، كما هو كذلك، وهل النور فوتونات أو غير ذلك، فإنّه لا تسري الجهالة إلى الكيفيّة، بل تكون الكيفيّة موكلة إلى العُرف (بأن يُنير بضغط الزر، أو إشعال شمعة... إلخ).
وكذا لو قال: لا تُنجِّسه (بالبول) مثلاً - وفُرِض جهلنا بحقيقة النجاسة الشرعيّة، فإنّ (لا تُنجِّسه) حيث لم يرد من الشارع نصٌّ في تحديد كيفيّته والـمُراد منه، فإنّه يُحمَل على المعنى العرفي (كأن يشمل رَشّ رذاذ البول عليه أيضًا، أو أنّه لا يشمل رَشّ الأجزاء غير المرئيّة... إلخ).
3- سلّمنا أن التطهير شرعي، لكن الغَسل عرفي
ثالثًا: سلّمنا أنّ التطهير حقيقة شرعيّة، أمّا لأن الطهارة حيث كانت حقيقة شرعيّة، فقد لَزِمَها أن تكون كيفيّتها كذلك أو لغير ذلك، إلّا أنّ الروايات لم تقتصر على كلمة الطهارة ليتوقّف الاستدلال عليها، بل ورد في الكثير من الروايات مفردة الغَسل، ولا شكّ في أنّه ليس حقيقة شرعيّة.
فلاحظ، مثلًا، قوله (عليه السلام): Sاغْسِلْ ثَوْبَكَ مِنْ أَبْوَالِ مَا لَا يُؤْكَلُ لَحْمُهُR[9].
وقوله (عليه السلام) عندما سُئل: Sفِي الرَّجُلِ يَطَأُ فِي الْعَذِرَةِ أَوِ الْبَوْلِ أَيُعِيدُ الْوُضُوءَ؟ قَالَ: لَا، وَلَكِنْ يَغْسِلُ مَا أَصَابَهُR[10]، فإنّه لا شكّ في أنّ Sاغْسِلْ RوSيَغْسِلُ Rفي الروايتين ونظائرهما، أوكل إلى فهم العرف، وإلى ما يفهمه السائل، باعتباره من العرف، وكون ذهنه انعكاسًا عنهم ومرآةً لهم، والاستدلال بمرتكز السائل، ومَن يَنقُل إليهم، وسكوت الإمام (عليه السلام) عنه.
تنبيه: سبق[11] أنّ ظاهر الأخبار كون النجاسة صفة واقعيّة (لا حقيقة شرعيّة)، فلاحظ مثلًا قوله (عليه السلام): Sفَإِنَّ اللَّهَ تَبَارَكَ وَتَعَالَى لَمْ يَخْلُقْ خَلْقاً أَنْجَسَ مِنَ الْكَلْبِR[12].
وقوله في البئر: Sإِلَّا أَنْ يَتَغَيَّرَ الْمَاءُ، فَيُنْزَحَ حَتَّى يَطِيبَR[13].
وفي رواية أخرى: Sفَيُنْزَحُ حَتَّى يَذْهَبَ الرِّيحُ، وَيَطِيبَ طَعْمُهُR[14]، فإنّ ذهاب الريح إحالةٌ على أمرٍ تكويني، وكذا Sيَطِيبَ طَعْمُهُR أي: في أذواق الناس بطبعهم، لا بتصرّف الشارع توسعةً أو تضييقًا.
الجواب عن التنظير بأنّ الله يرزق
وبما سبق، ظهر وجه المناقشة فيما ذكره المستند من عدم دلالة الآيات والروايات على الكيفيّة.
وأمّا تنظيره بـ )إنّ الله تعالى يرزق ولا يُرزق(، فهو غريب؛ إذ لا تُقاس أفعالُنا ولا صفاتُنا على الله تعالى أبدًا.
على أنه لو فُرضت صحّته، فلنا النقض بـ )إنّ الله يعلم وإنّه يَقدر(، مع وضوح أنّ يعلم - ويقدر مطلق عام شامل إذ أنه تعالى يعلم كلّ شيء، ويقدِر على كلّ شيء.
والحلّ، بأنّ البرهان القطعي — العقلي، والنقلي، والتجريبي — دلّ على أنّ الرزق ليس مطلقًا: لكلّ شخص، بكلّ شيء، في كلّ وقت، كما دلّ على أنّ علمه وقدرته مطلقان، فلا مجال أبدًا للرجوع إلى مقدّمات الحكمة، أو النقض بأنّه ليس مطلقًا في رزقه (فهو في مقام الإجمال والإهمال)، فليس مطلقًا في مثل: (جعل الماء طَهورًا)، إذ لا يقاس على ما يُقطع بأنّه غير مطلق (كالمنظّر به) ما لا يُعلَم حاله (كالمقام، فَرضًا).
أسئلة:
- استدل على كون الأصل في مقام التشريع، الإطلاق، بأدلة أخرى.
- اذكر عدة شواهد على أنّ الفقهاء اعتبروا كيفية التطهير عرفية.
- هل هناك فرق بين التطهير والغَسل، وهل يمكن القول إن أحدهما شرعي والآخر عرفي؟
- استعرض روايات أخرى تدل على أن النجاسة واقعية.
قال رسول الله J: Sمَنْ غَرَّهُ مِنْكُمْ أَمَلُهُ وَقَصَرَ بِهِ فِي الْخَيْرِ عَمَلُهُ فَلْيَطَّلِعِ الْقُبُورَ وَلْيَعْتَبِرْ بِالنُّشُورِ.
وَاذْكُرُوا الْمَوْتَ فَإِنَّهُ هَادِمُ اللَّذَّاتِR الأمالي للطوسي: ص522.
وصلى الله على محمد وآله الطاهرين
[4] وهي صحيحة داود بن فرقد المروية في الوسائل: ج1 ص133/ أبواب الماء المطلق ب 1 ح4.
[6] الشيخ مرتضى البروجردي / السيد أبو القاسم الخوئي، المستند في شرح العروة الوثقى: ج2 ص46-47.
[7] الشيخ محمد حسن النجفي الجواهري، جواهر الكلام: ج1 ص593.
[8] ولعلّه لا يوجد مخالف أو هو نادر.
[9] الشيخ الكليني، الكافي، دار الكتب الإسلامية ـ طهران: ج3 ص57.
[10] الشيخ الكليني، الكافي، دار الكتب الإسلامية ـ طهران: ج3 ص39.
[11] في الدرسين 15 و43 وغيرهما.
[12] الشيخ الصدوق، علل الشرائع، مكتبة داوري ـ قم: ج1 ص292.
[13] الشيخ الكليني، الكافي، دار الكتب الإسلامية ـ طهران: ج3 ص6.
[14] الشيخ الطوسي، الاستبصار، دار الكتب الإسلامية ـ طهران: ج1 ص33.
|