بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على محمد وآله الطيبين الطاهرين سيما خليفة الله في الأرضين، واللعنة الدائمة على أعدائهم أجمعين، ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم
(124)
تتمتان: (حتى) للغاية أو للتعليل؟
1- إنّ (حتى) قد تأتي بمعنى (كي) التعليلية، كما ذكره ابن هشام، واستشهد له بقوله تعالى: Pوَلا يَزالُونَ يُقاتِلُونَكُمْ حَتَّى يَرُدُّوكُمْO[1]، أي: كي يردّوكم.
أقول: ذلك وإن كان محتملاً في معنى الآية الكريمة، لكنّ احتمال أن تكون (حتى) بمعنى (إلى) واردٌ أيضاً، إن لم يكن أرجح، والمعنى: (إنهم يستمرّون في مقاتلتكم إلى أن يردّوكم عن دينكم، فإذا ردّوكم عنه كفّوا عن القتال)، فكأنه قطعٌ لأملِ بعضِ المسلمين أن يكفّ الكفار عن مقاتلتهم إذا قدّموا بعض التنازلات، فكانت الآية صريحة في أنهم يستمرّون في قتالكم إلى أن ترتدّوا، ولا يوقفهم عن قتالهم لكم شيء دون ذلك.
ووجه الأرجحية ظهور (لا يزالون...)، إذ ظاهرها الحركيّة والاستمرارية كما في نظائره: ما برح، ما فتئ، ما انفكّ، بل هي نصٌّ فيه، فهم مستمرّون في قتالكم إلى أن ترتدّوا... وعلى أيٍّ، فإن كون (حتى) بمعنى (كي) ههنا غير ضارٍّ بالمقام، إذ يكفي كون الغالب في (حتى) أن تكون بمعنى (إلى)، كما أذعن به ابن هشام، إن لم نقل إنّ الأصل فيها ذلك، بل سبق أنّه حتى لو كانت بمعنى التعليل، لما اضّر بالاستدلال بصحيحة ابن بزيع على أن مطلق ما له مادة معتصم و...
كما استشهد بـ Pهُمُ الَّذينَ يَقُولُونَ لا تُنْفِقُوا عَلى مَنْ عِنْدَ رَسُولِ اللَّهِ حَتَّى يَنْفَضُّوا وَلِلَّهِ خَزائِنُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَلكِنَّ الْمُنافِقينَ لا يَفْقَهُونَO[2]، أي (كي ينفضّوا) حسب ابن هشام.
ولكن يُحتمل فيها الغائيّة أيضاً، أي هم الذين يقولون: استمرّوا في عدم الإنفاق على من عند رسول الله (صلّى الله عليه وآله) إلى أن ينفضّوا عنه، فإذا انفضّوا عنه أنفقوا عليهم.
هل تُصدق (المادّة) على كرٍّ مطلق بالنسبة إلى مضاف؟
2- اعترض بعض الأفاضل بورود إشكال آخر على الاستدلال بـ Sلِأَنَّ لَهُ مَادَّةًR، إضافةً للاعتراض الأوّل[3]، وهو أنّ (مادّة) لا تصدق على الماء الكثير المطلق المتّصل بالماء المضاف، وإنّما تصدق على الماء المطلق الكثير المتصل بالماء القليل المطلق فقط؛ ألا ترى أنّ الدُّهن أو النفط إذا كانا في إناءٍ أو جَرّة، فوضِعت مفتوحة الرأس في نهرٍ، أو وُصِلَت بكرٍّ، فإنّه لا يُعَدّ ماء الكرّ أو النهر مادّةً لها.
ويمكن الجواب: بأنّ المادّة لا تصدق إذا كانا من سنخين (كالمثالين الآنفين، أي أنّ الماء المطلق لا يُعَدّ مادّةً للنفط ولا للدُّهن، إذ هما سنخان).
أمّا إذا كانا من سنخٍ واحدٍ، بأن كانا من صنفين تحت نوعٍ واحدٍ مثلاً، فإنّ المادّة يصح حملها عليه حينئذٍ.
بعبارةٍ أخرى: كلّما كان في القليل (المضاف المتنجّس – حسب مورد الكلام) أجزاء، وكان الكرّ يُغذّي أحد الأجزاء ويزيده، فإنّه يُعَدّ مادّةً له؛ ألا ترى أنّ إناءً مليئًا بالعصير، المسمّى بالدارجة بـ (الشَربَت)، والمكوّن من ماء (ربما بنسبة 99%) وسكّر وشيء من العسل أو ماء البرتقال المركّز مثلاً، فإنّه إذا كان يُصبّ عليه من فوقه ماءٌ وسكّرٌ وعسلٌ، فإنّ كلًّا منها يُعَدّ مادّةً له، إذ يمدّه ويعوّض ما نقص منه أو يزيده، فكلّما شرب الناس منه، من أنبوبٍ في أسفله مثلاً، أمدّه من أعلاه بماءٍ وسكّرٍ وعسل...
مثالٌ آخر: الدواء المركّب من عشرة أجزاء، فإنّ كلّ جزءٍ يمكن أن يُمَدّ بمماثله من ظرفٍ آخر أكبر منه.
والحاصل: إنّ المادّة تصدق إذا كان الشيء ذا أجزاء، فوجد شيءٌ آخر يمدّ أو يغذي أو يزيد أجزاءه أو بعضها، كما تصدق إذا كان شيئاً واحداً يُضاف عليه شيء من سنخه.
نعم، Sلِأَنَّ لَهُ مَادَّةًR لا ينفع ـ على هذا ـ في الدلالة على مطهّرية الماء الكرّ للدُّهن أو الخلّ أو النفط، إذ لا يُعَدّ مادّةً لا مثلهاكما سبق، فاللازم الاستدلال على مطهّرية الكرّ لأمثالها، بـالاختلاط الذي ذهب إليه الشيخ الطوسي، بأدلّةٍ أخرى، كقوله تعالى: Pوَيُنَزِّلُ عَلَيْكُمْ مِنَ السَّماءِ ماءً لِيُطَهِّرَكُمْ بِهِO[4]، وقوله (صلى الله عليه وآله): Sالْمَاءُ يُطَهِّرُ وَلَا يُطَهَّرُR[5]، بعد الجواب عن شبهة الإهمال أو الإجمال بإحدى الوجوه الثلاثة السابقة.
وأمّا الدّبس، فإنّه لا يَطهُر إذا بقي متماسكاً كما لا يخفى، ولا يُعَدّ الماء الكثير مادّةً له عُرفاً، فإذا تحلّل في الماء واختلط به، وإن لم يستهلك فيه، فإنّه يكون حينئذٍ ماء مضافاً، فيكون الماء المطلق مادّةً له. إذا عرفت ذلك فـ :
تتمة فقه (لأن له مادة) ومحتملاته
لنرجع إلى تتمّة المحتملات في فقه صحيحة ابن بزيع، جواباً عن الإشكال بإجمالها في الدلالة على مطلوب المشهور (من اعتصام كلّ ذي مادّة)، وعن الإشكال على استدلالنا على مدّعى الشيخ الطوسي:
5- يُحتمل أن يكون Sلِأَنَّ لَهُ مَادَّةًR تعليلاً لصدر الكلام، أي: لـ Sمَاءُ الْبِئْرِ وَاسِعٌR، ويرجّحه أنّه الذي سيق الكلام له من البداية.
6- ويُحتمل أن يكون تعليلاً لآخر الكلام، أي: لـ Sفَيُنْزَحُ مِنْهُ حَتَّى يَذْهَبَ الرِّيحُ وَيَطِيبَ طَعْمُهُR، سواء أخذنا (حتى) تعليلية أو غائيّة، ويرجّحه أنّه الأقرب.
7- ويُحتمل أن يكون تعليلاً لكليهما، لوجوهٍ ثلاثة أشار إليها في مصباح المنهاج، قال: (أو: لهما معاً، لمناسبته لهما معاً ارتكازاً، واحتياجهما معاً للتعليل، حيث وقعا موردًا للكلام، بل أطبق العامة - كما قيل - على خلافهما، واستفاضت به النصوص)[6].
توضيحه: إنّ العامة قالوا: ماء البئر ليس واسعاً، (إذ الفرض أنّ مورد الكلام ماء البئر القليل لا الكرّ، وإلا فإنّه معتصم دون كلام، فلا خصوصيّة لكونه ماء بئر) فينجس بالملاقاة؛ إذ توهموا إنّه وإن كان متّصلاً من أسفل (تحت التراب) بماءٍ كثير، إلا أنّه بالفعل ليس كثيراً (فليس معتصماً)، إذ لا تمدّه المياه من أسفله بالفعل، إلا إذا نُزح منه باستمرار، عكس العيون التي تجري فإنها تمدّ باستمرار إذ تدفع المياه إلى أعلا دوماً.
فأجاب الإمام (عليه السلام): بأنّ ماء البئر واسع إذ هو متّصل بالفعل بالمياه أسفله، ولا يُشترط في كونه كثيراً أن ينبع الماء من أسفله باستمرار، والحاصل: أنه ينبغي أن يلاحظ ماء البئر كمجموع مما فوق الأرض وما تحتها، فإنّه واسع، معتصم.
كما رأوا أنّه لا يطهر بمجرد ذهاب الرّيح وطِيب الطَّعْم، على اختلاف بينهم في كمية ما ينزح منه بين ميتة الإنسان و...
فأجاب الإمام (عليه السلام)، حسب الاحتمال الثالث، عن كِلا الشقين بـ Sلِأَنَّ لَهُ مَادَّةًR، الذي يصلح جواباً عن كلتا الشبهتين.
وقال مشيراً إلى ما يمكن عدّه احتمالاً ثامناً: (هذا، مع أنّ التردد بين الوجوه المذكورة إنّما يتّجه لو كان كلٌّ من الحكمين مستقلاً عن الآخر ومجعولاً في قِباله، وهو خلاف ظاهر الحديث الشريف، فإنّ مقتضى تفريع قوله (عليه السلام): SفَيُنْزَحُR على ما قبله، كون الحكم الثاني من شؤون الحكم الأول، ومرتبطًا به ومترتبًا عليه، ويتعيّن رجوع التعليل للأول لا غير، ولا معنى لرجوعه إلى الثاني فقط، وإن كان أقرب، لأنّ الأقربية إنّما تقتضي ترجيحه لو كان مستقلاً عن الأول، بحيث يكون رجوع التعليل للأبعد مستلزِمًا لخلوّ الأقرب عنه مع افتقاره إليه، لا في مثل المقام، ممّا كان تعليل الحكم الأول موجبًا لاستغناء الثاني عن التعليل، لأنّه من شؤونه وتوابعه)[7].
بعبارة أخرى: إمّا أن نقول: هما حكمان مستقلّان، فقد علّلهما الإمام بـ Sلِأَنَّ لَهُ مَادَّةًR، أو نقول – كما هو الحق –: هما حكمان يتفرّع أحدهما على الآخر، أي أن ماء الكرّ معتصم فيتفرّع عليه أنّه لو تغيّر ثم أزيل تغيّره بالنزح، يَطهُر، لأنّه معتصم، فحيث إنّ له مادة، فهو معتصم حدوثًا وبقاءً، دفعًا ورفعًا.
أقول: وعليه، فإذا أعدنا التعليل إلى الأوّل، تفرّع عليه الثاني، وإذا أعدناه إلى الثاني، كان لأنّه متفرّع على الأوّل، فتعليله – أيًّا منهما – تعليلٌ للآخر.
ولكن المقدّم رُتبةً هو تعليل الأوّل (الصدر)، فيترتّب عليه قهرًا تعليل الأخير، وإن صحّ أن يكون تعليلًا للثاني الراجع لُبّا إلى أنّه إنما كان كذلك لكونه متفرّعًا على الأوّل، وبهذا التخريج لا يتمّ قوله: (ويتعين رجوع التعليل إلى الأول، لا غير) والأمر سهل. وللبحث صِلَةٌ، بإذن الله تعالى.
أسئلة:
- راجع التفاسير وأبحث من مقوّيات لكون حتى للتعليل في الآيتين الكريمتين أو للغاية.
- اكتب بأسلوبك: الضابط في صدق (المادة) على شيء بالنسبة إلى شيء آخر.
- اذكر مؤيدات لكل من الاحتمالات 5-7.
وصلى الله على محمد وآله الطاهرين
عن الإمام الباقر A انه قال: Sيَا هِشَامُ! إِنَّ الْعَاقِلَ نَظَرَ إِلَى الدُّنْيَا وَإِلَى أَهْلِهَا فَعَلِمَ أَنَّهَا لَا تُنَالُ إِلَّا بِالْمَشَقَّةِ، وَنَظَرَ إِلَى الْآخِرَةِ فَعَلِمَ أَنَّهَا لَا تُنَالُ إِلَّا بِالْمَشَقَّةِ، فَطَلَبَ بِالْمَشَقَّةِ أَبْقَاهُمَاR.
(الكافي: ج1 ص17).
[3] وهو الخصوصية في ضمير (له) ومرجعه إلى ماء البئر، فكيف نلغي خصوصية الماء ونعمّمه إلى المضاف؟
[5] الشيخ الكليني، الكافي، دار الكتب الإسلامية ـ طهران: ج3 ص1.
[6] السيد محمد سعيد الحكيم، منهاج المصباح / الطهارة، مؤسسة الحكمة للثقافة الإسلامية: ج1 ص176.
[7] السيد محمد سعيد الحكيم، منهاج المصباح / الطهارة، مؤسسة الحكمة للثقافة الإسلامية: ج1 ص176.
|