بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على محمد وآله الطيبين الطاهرين واللعنة الدائمة على أعدائهم أجمعين ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم.
ملخص ما تقدم
كان البحث انه هل يمكن تكليف العاجز عن المعرفة وغيرها اولا؟ وهل يمكن تكليف القاطع بالخلاف في المعارف وغيرها او لا؟ واستظهرنا الامكان واجبنا عن بعض الشبهات ووصل الكلام إلى الجواب عن شبهة اللغوية في امر القاطع بالعجز او امر القاطع بالخلاف لأن الامر إنما هو بداعي ايجاد الداعي في نفس المكلف، والقاطع لا يمكن ايجاد داعي في نفسه على خلاف قطعه، واجبنا باجوبة ثمانية مضت.
9- يكفي في دفع اللغوية الباعثية الاستقبالية للمكلف
الجواب التاسع:يكفي في دفع اللغوية الباعثية الاستقبالية، توضيح ذلك:يكفي في دفع اللغوية امكان انبعاثه فكيف بفعلية انبعاثه عن هذا الامر ولو في المستقبل البعيد او البعيد جدا، لأن (الأمر) ليس كما يتوهمه البعض مما يوجد فينعدم بتصرّم الأمر كما هو ظاهره، بل الامر له وجود اعتباري ممتد، وبتعبير اخر هذا الامر يوجِد اعتبارا لا يزول بل يبقى ممتدا بامتداد الآنات على حسب سعة وامتداد ظرف التكليف الذي لاحظه المكلِّف، (ولا نتطرق هنا لشبهة فلسفية وانه كيف تنعدم العلة ويبقى المعلول؟ بل نترك الاجابة لتأملكم، وانه كيف تكون علة وجود هذا الاعتبار وهو هذا اللفظ اي الانشاء زائلة ويكون معلولها وهو الاعتبار باقياً وقد فنت علته؟، فليتدبر).
اذن الاعتبار الموجَد بهذا الامر له وجود ممتد بامتداد الازمنة، ولا ينتهي ذلك الوجود الاعتباري الا بانتهاء امد الحكم وحصول الغرض، فاذا كان الأمر كذلك كما هو كذلك، فثمرتنا تظهر بوضوح وهي انه تكفي الباعثية الاستقبالية، اي ان المولى يوجِّه التكليف لهذا العبد رغم انه قاطع بالخلاف ولا يمكن ان ينبعث، فلو قلنا ان هذا الاعتبار ينتهي في الآن الثاني لكان لغوا لأنه حينئذ لا يمكن ان يرتدع و ينزجر عن النهي او ينبعث عن الأمر، ولكن الفرض ان هذا الاعتبار يبقى ممتدا فانه وان لم يؤثر الان لكنه يكفي مصحِّحا لصدورهِ تأثيرُه في المستقبل، هذه هي الكبرى الكلية.
واحدى صغرياتها (القضاء) بناءاً على انه ليس بامر جديد، فان القاطع بان لا صلاة عليه لاعتقاده مثلاً عدم بلوغه فهل هو مكلف بالصلاة؟ نعم هو مكلف بها اقتضاء وإنشاءاً وفعلية والثمرة هنا تظهر وانه بعد انكشاف الامر له وانه كان بالغاً فانه يجب عليه القضاء، فلو قلنا ان الامر بنفس الامر السابق وليس بامر جديد تكون الثمرة واضحة جلية.
التحليل الاصولي للباعثية الاستقبالية: الواجب المعلَّق
وما تقدم من امتداد الوجود الاعتباري للمنشأ بالأمر كان تحليلا فلسفيا وان الموجَد امر اعتباري ممتد بامتداد الازمنة وان كان الموجِد اي الانشاء قد انعدم فلا يتوهم تأثير المعدوم في الموجود الاستقبالي، اما التحليل الاصولي لذلك فيتضح بملاحظة ما ذكره صاحب الفصول في مبحث الواجب المعلق، توضيحه: ان كلاً من الوجوب والواجب ينقسم إلى المطلق والمشروط فتارة يكون الواجب مشروطا كالصلاة بالساتر وتارة يكون الوجوب مشروطا كالحج بالنسبة للاستطاعة ، وتارة لا يكون الوجوب ولا الواجب مشروطين بشيء كالصلاة بالنسبة للقنوت داخلا او التعمم خارجا، وهذا واضح في محله، لكن ابداع صاحب الفصول هو الواجب المعلق الذي ينطبق على كلامنا تمام الانطباق والبحث هناك يغني عن البحث هنا، ويكفي التأمل هنالك للقبول بالثمرة التاسعة لدفع اللغوية، فان الواجب المعلق حسب قول صاحب الفصول يعني ان يكون الوجوب فعليا والواجب استقباليا فقد فكك بين الوجوب والواجب، ونوضحه بمثال، حيث انه يرى ذلك في صورتين:
الصورة الاولى: ان يكون الواجب الاستقبالي معلقا على قيد زماني.
الصورة الثانية: ان يكون معلقا على الزمان.
ومثاله الواضح: وجوب الصوم عند رؤية الهلال فانه على هذا المبنى: الوجوب فعلي اي بمجرد رؤية هلال شهر رمضان، فان وجوب صوم غدٍ بل وجوب الشهر كله ثابت لذا يكفي ان ينويه كله الآن، إلا ان الواجب استقبالي معلق على طلوع الفجر (وهو الزمان).
المثال الثاني هو الحج لا بالنسبة للاستطاعة فانه بالنسبة لها واجب مشروط، وانما الحج بالنسبة لتوفر الرفقة (وهي زمانية) فاذا استطاع لكن الرفقة كانت ستخرج بعد شهر فهنا الوجوب فعلي بمجرد الاستطاعة لكن الواجب استقبالي فبعد شهر يبدأ تفعله(تنجزه) أي عليه أن يتحرك وينبعث.
وكما امكن تصوير الوجوب الفعلي والواجب الاستقبالي هنالك فان تلك الكبرى الكلية تنطبق على المقام واللغوية تندفع بهذا المقدار: بان يكون هذا الوجوب المنشَأ الان مؤثراً في البعث نحو الواجب في ظرفه، اضافة إلى وجود فوائد أخرى لا علينا بها الان، نعم بعض الأعلام ناقش صاحب الفصول في كلامه فبعضهم ناقشه مناقشة فنية وبعضهم ناقشه علميا، وتفصيله يترك لمحله
فهذه الثمرة التاسعة لتكليف القاطع بالخلاف او للقاطع بالعجز.
10 – الباعثية الاستقبالية لغير المكلف
الجواب العاشر: نوجزه بكلمتين وانه يكفي لدفع اللغوية الباعثية الاستقبالية، وان لم تكن للمكلف نفسه بل لغيره كورثته، كما في مثال القضاء فانه لو بقي قاطعا إلى اخر عمره لكن الورثة اكتشفوا ان قطعه بعدم بلوغه حينها كان خاطئا فان على الابن الاكبر القضاء عنه او عليهم القضاء عنه من اصل تركته وكفى بهذه ثمرة، لكن هذه الثمرة لا تنطبق على مورد الكلام لذا لم نفصل فيها إذ لا تصوير لها في ما نحن فيه (اوامر المعرفة) ظاهراً.
تطبيق الثمرات التسعة على مبحث المعرفة والنظر
اما تلك الثمار التسعة فالظاهر انها اجمعها منطبقة على مبحثنا او على لازم مبحثنا، ومبحثنا هو: هل يصح تكليف القاطع بالعجز او القاطع بالخلاف بأحد أمرين : الاول: تكليفه بالنظر والاجتهاد. الثاني: تكليفه بالمؤدّى.
والثمرات التسعة تنتِج في هذا المبحث وتنطبق عليه او على لازمه وهو بحث الاعتقاد والاذعان والاقرار وهي مسألة اخرى ملحقة ببحثنا، وان هذا الشخص هل يجب عليه ان يعتقد، حتى لو لم يعتقد؟ اي حتى لو لم ينكشف له الحق فهل يجب ان يعقد قلبه عليه؟ أي انه حتى لو لم ينكشف له الحق فعليه ان يذعن وعليه ان يعتقد والا يعاقب؟ وسنذكر لذلك مثالاً فقهياً مجمعاً عليه في البحث القادم بإذن الله تعالى. فهاتان مسألتنا إذن
فنبدأ الان في بحثنا التطبيقي للثمرات التسعة اما على نفس مبحثنا او لازمه وهو الاعتقاد وعقد القلب والاذعان والاقرار، ونوجز الكلام لأن الاطار العام اتضح فيسهل التطبيق وهو المقصود – عندئذٍ - وسنذكر بعض الايات كدليل على المدعى، وبعض الإضافات الهامة.
1- خطابه لزحزحة قطعه
1- اما الثمرة الاولى لكون الامر بالمعرفة شاملا للقاطع بالعجز او القاطع بالخلاف، هي ما سبق من ان يكون الامر بداعي زحزحة قطعه، وذكرنا ان هذا الامر ستكون له عندئذ فائدتان طوليتان، الفائدة الاولى تكوينية وهي زحزحة قطعه والفائدة الثانية في طولها رتبة وقد تكون في طولها زمنا ايضا وهي ايجاد الداعي فيه لكي ينبعث نحو المعرفة ونحو النظر، والتحليل الذي اوضحناه اخيرا من ان الاعتبار وجود ممتد ولا ينعدم بانعدام الموجِد وهو اللفظ يوضح الاجابة عن توهمِ شبهةِ ان هذا (الامر) زحزح القطع في الآن الأول فقد فني في الآن الثاني، فكيف يؤثر بعد ذلك في إيجاد الداعي؟ وقد اوضحنا بان الامر لم يفنَ
وهذه الثمرة الظاهر انه لا اشكال فيها، اما من الكتاب فالايات التي تفيد تلك الفائدة كثيرة ومنها قوله تعالى: (أَوَلَمْ يَرَى الَّذِينَ كَفَرُوا أَنَّ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضَ كَانَتَا رَتْقاً فَفَتَقْنَاهُمَا وَجَعَلْنَا مِنْ الْمَاءِ كُلَّ شَيْءٍ حَيٍّ أَفَلا يُؤْمِنُونَ) فان هذه الاية لا شك في انها - كنظائرها في ذلك الوقت وفي هذه الازمنة - مما تزحزح قطع الكثيرين ممن قطع بالخلاف، والآية الثانية قوله تعالى: (كَيْفَ تَكْفُرُونَ بِاللَّهِ) والمخاطبون الكثير منهم قاطع بالخلاف وان الله غير موجود مثلا (وَكُنتُمْ أَمْوَاتاً فَأَحْيَاكُمْ ثُمَّ يُمِيتُكُمْ ثُمَّ يُحْيِيكُمْ ثُمَّ إِلَيْهِ تُرْجَعُونَ) وهذه صغرى لكبرى القاعدة الكلامية المعروفة وهي: (العالم متغير وكل متغير حادث فالعالم حادث) ثم القياس الثاني، (العالم حادث وكل حادث لابد له من محدث فالعالم لابد له من محدث)، وأسلوب القران في البراهين وهو أسلوب فريد في روعته حيث يستخدم حتى في البراهين أسلوب الأدب التصويري وهذا الأسلوب يهز العاطفة والوجدان كما يقرع ويقنع العقل ايضا، فان القاعدة الفلسفية جافة (العالم متغير وكل متغير حادث إلى اخره) فلا تهز الوجدان ولا تلامس الفطرة بشكل ملموس، اما الادب التصويري فبالعكس، فان قوله تعالى: (كَيْفَ تَكْفُرُونَ بِاللَّهِ وَكُنتُمْ أَمْوَاتاً) صغرى تلك الكبرى لكنها صغرى لمسوها وشاهدوها، والحديث طويل حول هذا الجانب ونكتفي بهذا المقدار ، هذه هي الثمرة الأولى.
2- خطابه ليترتب عليهم استحقاقه للعقاب
الثمرة الثانية في بحثنا المعرفي ان شمول ادلة التكليف للقاطع بالعجز او القاطع بالخلاف، قد يكون لا بداعي تحريكه وإيجاد الداعي في ذاته بل قد يكون بداعي ترتب استحقاقه العقاب بالمخالفة لكونه مقصرا في المقدمات، والآيات في هذا الحقل كثيرة نكتفي بآية واحدة، يقول تعالى: ( لِيُعَذِّبَ اللَّهُ الْمُنَافِقِينَ وَالْمُنَافِقَاتِ وَالْمُشْرِكِينَ وَالْمُشْرِكَاتِ) فانه لا شك في ان المشرك عن تقصير يستحق العقاب كلاميا وأصوليا بل فطريا وبديهيا، فهذه الآية مبنية على ذلك، فالخطاب في الآية موجه أيضاً للمشرك عن تقصير فانه مكلّف بان يكون موحِّدا، وحيث انه لم ينبعث فانه يستحق العقاب ولولا شمول التكليف والأمر له، لما استحق العقاب، هذه هي الثمرة الثانية، ويأتي الكلام في باقي الثمرات. بإذن الله تعالى
وصلى الله على محمد واله الطيبين الطاهرين |