بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على محمد وآله الطيبين الطاهرين سيما خليفة الله في الأرضين، واللعنة الدائمة على أعدائهم أجمعين، ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم
ملخص ما تقدم
كان البحث حول الفروق بين القضيتين الحقيقية والخارجية، وذكرنا فروقا تسعة مضت.
10- القضية الحقيقية تصدق حتى مع امتناع مقدمها اما الخارجية فلا
اما الفرق العاشر فهو: ان القضية الحقيقية تصدق حتى مع امتناع مقدمها فان المقدم سواء اكان ممكنا ام كان ممتنعا أم كان واجبا، فان العلقة اللزومية بينه وبين التالي ثابتة وصادقة، اما القضية الخارجية فليس الامر فيها كذلك فانها لا يمكن ان يكون المقدم فيها ممتنعا بل ولا يصح ان يكون معدوما وان كان ممكنا، مثلا كل اجتماع للنقيضين فانه مغاير لاجتماع الضدين، ومثلاً قوله تعالى (قُلْ إِنْ كَانَ لِلرَّحْمَنِ وَلَدٌ فَأَنَا أَوَّلُ الْعَابِدِينَ) فهذه القضية شرطية حقيقية ، والموضوع ممتنع لأن وجود ولد للرحمن ممتنع عقلا، لكن اللزوم صادق والتلازم صحيح والتالي مترتب على المقدم، مثال اخر قوله تعالى: (لَوْ كَانَ فِيهِمَا آلِهَةٌ إِلاَّ اللَّهُ لَفَسَدَتَا) مع ان المقدم ممتنع؛ لأن وجود آلهة شريكة للباري ممتنع، لكن القضية اللزومية صادقة، اما القضية الخارجية فليس كذلك الامر فيها، ويتضح ذلك بما سبق من ان القضية الخارجية تصب على الوجود والافراد المتحققة فلا يعقل ان يكون موضوعها ممتنعا كما لا يمكن ان يكون موضوعها ممكنا معدوما فهذا خلف، فتأمل
11- القضية الحقيقية المصلحة فيها نوعية اما الخارجية فالمصلحة شخصية
الفرق الحادي عشر: القضية الحقيقية المصلحة فيها نوعية نحو (اقم الصلاة) و(آت الزكاة) و (لِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنْ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلاً) فالمصلحة فيها نوعية اي لوحظت مصلحة النوع فُشرِّع الحكم على الكلي الطبيعي نظرا لهذه المصلحة العامة، اما القضية الخارجية فالمصلحة فيها شخصية، فلم يلاحظ المولى النوع بل لاحظ شخصاً أو عدداً من الاشخاص فشرَّع الحكم الجزئي المصداقي بلحاظهم، وهذا الفرق كثير الجدوى في مبحثنا الصغروي الاتي وستترتب على ذلك ثمار عديدة سيأتي الكلام عنها بعد اكمال البحث الكبروي، كما وسنذكر ايضا النسبة المصداقية بين القضيتين، اذن لو لوحظت المصلحة النوعية فينبغي تشريع القضايا الحقيقية، اما لو لوحظت المصلحة الشخصية فليست حينئذ من شأن المشرِّع المعهود، وانما هي من شأن جهة اخرى او شخص آخر كالقاضي او الحكومة او ما اشبه، بل والشارع أيضاً لكن لا بلحاظ كونه مشرعا بل لجهة اخرى ، وسيأتي توضيحها في البحث التطبيقي.
12- بحث الحكومة والورود مجراه القضية الحقيقية لا الخارجية
الفرق الثاني عشر: وهو فرق يحتاج للدقة ولكن من كان مأنوسا ببحث الحكومة والورود سيكون الفرق واضحا، لديه: إذ يظهر الفرق في مبحث الحكومة والورود فأن بحثهما مجراه القضايا الحقيقية، اما القضايا الخارجية فلا مجال للحكومة او الورود فيها وهو فرق دقيق ومهم وسيثمر في مبحثنا الصغروي
توضيح ذلك:ان الحكومة على اربعة انواع، إذ تارة الدليل الحاكم يتصرف في الموضوع واخرى يتصرف في المحمول، وعلى كلا التقديرين فاما ان يتصرف وضعا او رفعا اي اما ان يتصرف تضييقا او توسعة، والثمرة تظهر في صورتين وهي في صورة الحكومة تضييقا او توسعة في (الموضوع) وذلك كما في (لا شك لكثير الشك) فانه ضيّق الموضوع فان الشاك بين الثلاث والاربع حكمه ان يبني على الاكثر ثم يأتي بركعة الاحتياط، فأن موضوعه الشاك وهو يشمل كثير الشك، لكن (لا شك لكثير الشك) اخرجت كثير الشك موضوعاً ونزّلت كثير الشك منزلة من لم يشك، فقد ضيق الدليل الحاكم الدائرة اي رفع وألغى، وكذلك (لا شك للمأموم مع حفظ الامام) فشكه نزل منزلة اللا شك تعبدا وكذلك (لا شك للامام مع حفظ المأموم) وكذلك (لا شك في النافلة) وهذه اربعة امثلة فقهية تفيد تضييق دائرة الموضوع ورفع الحكم عن بعض افراد الموضوع بنحو الناظرية للموضوع لكن الدليل الحاكم قد يوسع في الموضوع اي يفيد الوضع كما في قوله عليه السلام (التراب احد الطهورين) فهو دليل حاكم يفيد التوسعة الموضوعية، والدليل المحكوم هو (لا صلاة الا بطهور) فان مرجعه إلى (الطهور مقوّم للصلاة) والدليل الحاكم يقول (التراب احد الطهورين) اي انه وسع دائرة الطهور، وكذلك (الطواف بالبيت صلاة) فانها ليست صلاة تكوينا بل تعبدا، فان الدليل الحاكم يقول ان الصلاة التي قال الله تعالى عنها (إِذَا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلاةِ فَاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ وَأَيْدِيَكُمْ إِلَى الْمَرَافِقِ) نوسّع دائرتها لتشمل الطواف فيجب الوضوء له، وهذا البحث محرّر في محله والامثلة معهودة، والشيخ قدس سره ذكر القسم الثالث من اقسام الحكومة فقط وهو ما كان التضييق فيه للمحمول الذي لم نشر له لأنه ليس مورد كلامنا.
والثمرة ان مصب الحكومة فقط في ما لو كان المحمول قضية حقيقية في صورة توسعة الموضوع او تضييقه، اما لو كانت القضية خارجية فلا مجال للحكومة اطلاقا إذ لا معنى لها بالمرة كما لا مجال للورود، وقد اتضح ذلك مما مضى، فان القضية الحقيقية تثبت الحكم للكلي الطبيعي، والكلي الطبيعي بالقياس إلى وجوده اي تمصدقه اي وجود افراده لا بشرط، اي هو ساكت عن ان الفرد موجود او لا، واما الدليل الحاكم فانه يقول: هذا الفرد الموجود اعتبره كلا موجود، اي كثير الشك الموجود والمتحقق خارجا انا اعتبره كلا شك، فلا تنافي، إذ لا ربط لهذا بذاك لأن الدليل المحكوم يتكلم عن الكلي الطبيعي ولا يتحدث عن انه موجود او غير موجود في الخارج اما الدليل الحاكم فيقول انه غير موجود – أي منزل منزل العدم - فابنِ على ذلك او يقول ابنِ على وجوده في التوسعة
والحاصل: انه لا تنافي لأن المصب مصبان، احدهما مصبُّه الماهية او الكلي الطبيعي الساكت عن حيثية وجوده وعدمه وهو بالنسبة لهما لا اقتضاء اي لا بشرط، اما الاخر فناطق بالنسبة إلى ما هو تحت الكلي اي المصداق أي ابنِ على انه موجود وان الطواف صلاة مصداقا أو ابنِ على انه معدوم وان شك الامام مع حفظ المأموم ليس بشك.
اما القضية الخارجية فتتحدث عن الوجود العيني فتقول هذا الوجود الخارجي العيني نرتب عليه الحكم، فاذا جاء الدليل الحاكم وأراد ان يقول هذا الوجود العيني غير موجود فقد نفاه لأن المصب واحد
والمثال السابق يوضح بجلاء، وهو (ان كل من توفر له النصاب تجب عليه الزكاة) فهي قضية حقيقية فاذا جاء الدليل الحاكم وقال لا نعتبر هذا متوفراً على النصاب وجودا ونعتبر وجوده بمنزلة العدم، فهنا لا تهافت.
اما القضية الخارجية فكقوله (تجب عليك الصلاة) فانه يستبطن انه متوفر على الشروط خارجا لذا قال تجب عليك الزكاة فكيف يقول بعد ذلك انك غير متوفر على الشروط – ولو تنزيلاً؟ -، هذا الفرق الثاني عشر وتوجد فروق اخرى تظهر بالتامل فتأملوا ففيها الفائدة وهي ترويض للذهن أيضاً.
تقسيمان للقضايا: تارة المصبّ هو الموضوع وتارة المصبّ هو المخاطَب
الى الان انتهى البحث الكبروي، ونبدأ بمدخل لربط البحث الكبروي بالبحث الصغروي، وحسب التتبع الناقص لم اجد من ذكر هذا البحث في المنطق وهو حري بان يذكر، فنقول:
في القضية الحقيقية والخارجية هنالك تقسيمان التقسيم الاول هو المعهود في كتب المنطق والتقسيم الثاني هو الذي نقترحه فان كان مذكورا فنؤكده وان لم يذكر فنؤسس له؛ وهو ان القضية الحقيقية والخارجية كان المدار فيها منطقياً على المتعلق اي الموضوع واما ما نقترحه فهو ان يضاف إلى ذلك مسألة أخرى، وهي: ان يكون المدار في القضية الحقيقية والخارجية على المخاطب لا المتعلق، والنسبة من وجه، فالقضايا بناءاً على ذلك تكون اربعة، توضيح ذلك: ذكروا في المنطق القضايا الحملية في مقابل الشرطية، والقضية الحملية تتركب من ثلاثة اجزاء: موضوع ومحمول ونسبة على الخلاف في انها ثلاثة او اربعة أو حتى خمسة، وقد ينقض الرأي الثاني بانها عليه تكون خمسة اجزاء أو ستة وأكثر، لكن نقتصر على الرأي المشهور من ان أجزاء الحملية ثلاثة: موضوع ومحمول ونسبة، ومصبّ البحث في القضية الحقيقية والخارجية والذهنية هو الركن الاول، فان الموضوع قد يكون ذهنيا فالقضية ذهنية، وحسب مبنانا ذهنية ممتنعة وجودا في الخارج، وقد يكون الموضوع الكلي الطبيعي الذي هو مرآة لكل الافراد المحققة والمقدرة فهي حقيقية على ما نرى واما حسب قول المظفر وغيره فانه يلغي تلك الواسطة، وان كان الموضوع الافراد المحققة الموجودة في احد الازمنة الثلاثة فالقضية خارجية وهذا واضح، فمصب كلامهم إذن هو الموضوع، ولكن نضيف: عند تتبع العلوم ركنا اخر هاماً جداً ولا يصح إهماله، وهو: صب بحث القضية الحقيقية والخارجية على المخاطَب، وذلك سواءا اكانت القضية بالمعنى المعهود حقيقية بلحاظ موضوعها ام خارجية، فقد تكون بلحاظ المخاطب حقيقية او خارجية كذلك، فان الآمر قد يلاحظ المخاطَب الخارجي فيوجّه له القضية سواء اكان في هذا الزمن او الازمنة الثلاثة بالتشقيقات السابقة، وتارة لا يلاحظ المخاطَب الخارجي، اي انه لا يوجه الخطاب للوجودات الخارجية اي الافراد الخارجية، بل يكون طرف الخطاب هو كليّ المخاطب بلحاظ كونه مرآة للافراد المحققة والمقدرة، وتوضيحه يأتي بإذن الله تعالى.
وصلى الله على محمد واله الطيبين الطاهرين |