بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على محمد وآله الطيبين الطاهرين سيما خليفة الله في الأرضين، واللعنة الدائمة على أعدائهم أجمعين، ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم
ملخص ما تقدم
كان البحث حول (القضايا)، وانها تنقسم إلى حقيقية وخارجية، وذكرنا جملة من الفروق بينهما, ووصل الكلام إلى انه ينبغي ان يضاف نوع اخر او تقسيم اخر للقضية وهو يعتمد على لحاظ (المخاطَب) وان المخاطب تارة يكون هو الفرد الخارجي فالقضية خارجية بلحاظه، وتارة يكون المخاطب هو الاعم من الفرد المحقق والمقدر اي اعم من الافراد المحققة الوجود والمقدرة الوجود فتكون القضية حقيقية بلحاظها
وبتعبير جامع يفرز بين النوعين المستجدين والنوعين السابقين، نقول:
في القضايا تارة يلاحظ (الموضوع) وتارة يلاحظ (المخاطب)
انه تارة يلاحظ الموضوع واخرى يلاحظ المخاطب، فلو لوحظ الموضوع فانه يمكن ان ينقسم إلى القسمين، كما انه لو لوحظ المخاطب فانه يمكن ان ينقسم إلى القسمين ايضا؛ والصور على هذا تكون اربعة؛ لأن القضية من حيث المخاطب قد تؤخذ بنحو القضية الخارجية ومن حيث الموضوع ايضا، والصورة الثانية ان تؤخذ القضية من حيث المخاطب حقيقية وتؤخذ من حيث الموضوع كذلك والصورة الثالثة والرابعة بالاختلاف؛ اي ان تكون القضية من حيث المخاطب حقيقية ومن حيث الموضوع خارجية او بالعكس وهذه الصور الاربعة كلها مورد ابتلاء ومسائلها في الشريعة منتشرة وكثيرة، وسيأتي الحديث عن وضيفتنا تجاهها، وتوضيح ذلك بالمثال المبسط إلى ان نأتي إلى الامثلة الفقهية والعقدية:
تارة نقول (اكرموا من يتواجد الآن في الحرم) فهنا القضية خارجية بالوجهين؛ لأن الخطاب إنما هو للأفراد المحققة الموجودة في الزمن الحاضر ومتعلق الحكم اي موضوعه ايضا هو: افراد محققة وموجودة في الزمن الحاضر، وتارة نقول (يجب او ينبغي على كل مؤمن ان يكرم كل عالم) او يقول المولى مخاطبا المؤمنين الاعم من الافراد المحققة والمقدرة (اكرموا كل عالم) فهنا القضية من كلتا الجهتين حقيقية؛ فان المخاطب هو الاعم من الافراد المحققة في احد الازمنة الثلاثة، والمقدرة اي كل من فرض انه مؤمن فعليه ان يكرم من فرض انه عالم، فتأمل
والصورة الثالثة والرابعة اتضحت من ذلك بان نقول(يجب على كل مؤمن اكرام كل عالم ههنا) او نعكس (يجب على من ههنا اكرام كل مؤمن) اذن الصور اربعة، وبعد ان اتضح ذلك نقول:
توهم ان التقسيم الجديد هو نفس تقسيم المنطقيين الخماسي
ينبغي ان لا يتوهم ان القضية الحقيقية والخارجية من حيث المخاطب هي نفس ما قسمه المنطقيون من القضية الشخصية والطبيعية والمهملة والمسورة الكلية او الجزئية
اما وجه التوهم فهو ان القضية الشخصية هي ما كان موضوعها شخصي كما لو قلت (على ولي الله) وما اشبه والقضية الطبيعية موضوعها الطبيعة كـ(الناطق فصل) والقضية المهملة مثل (ان الانسان لفي خسر) والمحصورة بقسميها كـ(كل ربا فهو حرام) و(ان بعض الظن إثم) فهذا التقسيم الخماسي هو المعهود، فما فرقه عن تقسيمنا الذي ندعي انه جديد وانه في الفقه والعقائد كثير الابتلاء؟
جواب التوهم
الفرق بيّن وكبير، وهذا التقسيم غير ذاك، توضيح ذلك: ان التقسيمات على ثلاثة انماط، ونمطنا هو الثالث المستجد؛ اما النمط الاول فهو تقسيم القضية الحملية إلى شخصية وطبيعية ومهملة ومحصورة، وحيثية هذا التقسيم هي لحاظ الموضوع من حيث كونه جزئيا او كليا اي لحاظ الوحدة والتعدد, اما التقسيم الاخر المنطقي المعهود وهو تقسيم القضية إلى حقيقية وخارجية وذهنية فانه بلحاظ حيثية أخرى للموضوع فان الموضوع فيه لوحظ لا من حيث الوحدة والتعدد اي الكلية والجزئية، بل لوحظ من حيث تقديرية الوجود وفعلية الوجود، فالفرق واضح لاختلاف الحيثيات
والحاصل: ان النمط الاول حيثيته الوحدة والتعدد بغض النظر عن الوجود وعدمه, اما النمط الثاني فحيثيته الوجود التحقيقي والوجود التقديري، اما هذا النمط الذي اضفناه فهو اجنبي بالمرة عن الموضوع، فالاختلاف بين النمط الاول والثاني كان في الحيثية مع الاتحاد في الموضوع والمصب، اما النمط الثالث فمصبّه المخاطب، والمخاطب ليس موضوعا ولا محمولا ولا نسبة ولا هو حكم أي انه ليس من اجزاء القضية بل هو اجنبي عن القضية، بعبارة أخرى: تقسيمات المنطقيين هي بلحاظ اجزاء القضية وجزئها الاول (الموضوع), اما تقسيمنا فبلحاظ اخر خارج عن دائرة اجزاء القضية وهو المخاطَب بهذه القضية فنقول المخاطب (أو من يوضع التكليف بعهدته) تارة يكون الاعم من الافراد المحققة والمقدرة وتارة اخرى يكون خصوص الافراد المحققة، اذن البينونة كبيرة وواضحة, وهذا البحث مهم لأنه يحلل مرمى بحثنا الاجتهادي في اصول الدين وان الشرع كيف قسّم القضايا إلى اربعة اقسام بحسب تقسيمنا الجديد وسنوضح ذلك بامثلة عملية وبرهانية بإذن الله تعالى.
توهم أجنبية هذا التقسيم الجديد عن (القضية)
قد يتوهم اشكال اخر: إذ قد يقال بان هذا التقسيم للخارجية والحقيقية بلحاظ المخاطب، اجنبي عن القضية واجزائها فنقول في الجواب:
جواب التوهم: ان القضايا لها اربع علل
انه ليس أجنبياً عن (القضية) وان كان أجنبياً عن أجزائها، فبلحاظ (القضية) هذا التقسيم ضروري وذلك لأن القضية - وكل ممكن اخر - له اربع علل: مادية و صورية وفاعلية وغائية، واما القضية فعلتها المادية هي الموضوع والمحمول والنسبة والحكم على رأي، فهذه اجزاء العلة المادية للقضية، اما العلة الصورية للقضية فهي نحوُ ترتيبها وهيئتها من حملية او شرطية منفصلة او متصلة او غير ذلك, واما علتها الفاعلية فهي المنشئ او المخبِر وبتعبير اخر المخاطِب او المتكلم الذي صدرت منه القضية الإنشائية او الإخبارية، اما العلة الغائية لها فهو انبعاث المخاطَب؛ إذن ليس الأمر في التقسيم دائراً مدار العلة المادية إذ هذا نوع من التقسيم وله فوائده، ولكن هناك تقسيمات أخرى: بلحاظ العلة الفاعلية وبلحاظ العلة الصورية وبلحاظ العلة الغائية، وتقسيمنا للقضية إلى حقيقية وخارجية إنما هو بلحاظ العلة الغائية للقضية إذ يقال: لم انشأت القضية؟ فيجاب: لكي ينبعث المخاطب وهذا المخاطب على قسمين فتارة يكون فردا خارجيا متحققا في الزمن الحاضر او الأعم من الأزمنة الثلاثة وأخرى يكون الأعم من الأفراد المقدرة أي التي لو فرض وجودها لتعلق بها على تفصيل ونقاش في هذا الكلام لعلنا نشير له لاحقا ان شاء الله.
اذن هذا التقسيم الجديد بلحاظ احدى العلل الاربعة؛ وهو العلة الغائية وليس بلحاظ العلة المادية اي الاجزاء الداخلية، والى الان اكتمل البحث الكبروي باضافة المدخل إلى البحث الصغروي .
الاستنتاج من الكبرى الكلية ومن المدخل في مبحثنا الصغروي
وبعد ان مهّدنا الكبرى الكلية والمدخل، نقول:ان الشارع نظرا لحكمته، بل كل مشرع حكيم، ينبغي ان يلاحظ في مرحلة التشريع الانواع الاربعة من القضايا اي: الحقيقية والخارجية وكل منهما بلحاظ الموضوع أو المخاطب، وقد فعل الشارع ذلك كما سيتضح.
ومن ذلك يتضح لنا ان هنا دَوْرين احدهما للفقيه والاخر للفقه كما ان هناك دورا احدهما يرتبط بالطبيب واخر يرتبط بالطب، فما هو دور الطب وما هو دور الطبيب؟
دور الفقه القضايا الكلية ودور الفقيه القضايا الخارجية والحقيقية
ان دور الطب هو القضايا الحقيقية اما دور الطبيب فهو القضايا الخارجية، فان المريض يذهب للطبيب لا لأجل ان يعطيه قضايا كلية حقيقية والا لَكَفَتْهُ الكتب، وانما لكي يعطيه التشخيص المصداقي الصغروي وانك مريض بالمرض الفلاني وعلاجك كذا وكذا، اذن دور الطب وكتب الطب يختلف عن دور الطبيب، ودور الطبيب في ما بعد دور الطب
وفي مثال اخر نقول هناك دور للمقنن (المشرع) وهناك دور للقاضي، والفرق بينهما ان المشرع في البرلمان في الدول الوضعية التي تعتمد التشريع الوضعي، دوره انشاء الاحكام الحقيقية، اما القاضي فعمله انشاء الاحكام الجزئية اي الخارجية المصداقية ولذا لا يصح فسخ او رد حكم القاضي فانه جعل للبت في الخصومة لا لإنشاء حكم كلي.
وحيث اتضح الفرق بين الطبيب والطب وبين القاضي والمشرع، فنأتي إلى الفرق بين الفقه والفقيه: دور الفقه كالشرائع او موسوعة الجواهر وغيرها وصولا للرسالة العملية، دورها القضايا الحقيقية، اما الفقيه فدوره القضايا الخارجية انشاءا, اضافة إلى القضايا الحقيقية اخبارا واستنباطا فليتدبر وللحديث صلة.
وصلى الله على محمد واله الطيبين الطاهرين |