بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على محمد وآله الطيبين الطاهرين سيما خليفة الله في الأرضين، واللعنة الدائمة على أعدائهم أجمعين، ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم
ملخص ما تقدم
كان البحث حول الادلة التي يمكن ان يستدل بها على ان رأي الفقيه في القضايا الخارجية حجة، وانه موظف بها ايضا، فهو مكلف ببيان القضايا الخارجية والتصدي لها, كما انه بعد ذلك لو بين وتصدى فأنه يجب ان يُتَّبع, وكان الدليل الثاني قوله تعالى: (لِيَتَفَقَّهُوا فِي الدِّينِ وَلِيُنذِرُوا قَوْمَهُمْ إِذَا رَجَعُوا إِلَيْهِمْ لَعَلَّهُمْ يَحْذَرُونَ) وقد سبق الحديث عن هذه الاية الشريفة وذكرنا ان التفقه في الدين يشمل القضايا الخارجية ايضا,هذا ما مضى.
تشخيص موضوعات الاحكام ، تفقهٌ في الدين
ونضيف انه حتى تشخيص موضوعات الاحكام بما هي موضوعات الاحكام لا بما هي هي، فان التفقه فيها تفقه في الدين، مثلا في بحث المكاسب حيث انشغلنا وانشغل الفقهاء من قبل بتحليل الرشوة موضوعا ومدى سعة دائرة هذا المفهوم من ضيقه، فان هذا البحث هو مصداق التفقه في الدين، لأن بحثنا عن الرشوة ليس من حيث هي هي، بل بما هي موضوع للحكم الشرعي، والجهة او الغاية او العلة مما يتعنون بها الموضوع والشيء، وبتعبير اخر:الجهة والغاية تصنع العناوين، ومن ذلك ان شخصا لو قام فأن كونه اهانة او احتراما يتبع الغرض من القيام والجهة فأن كان القيام استهزاءا فهو اهانة فيتعنون القيام بعنوان الاهانة، وان كان تعظيما فان هذا القيام بنفسه يتعنون بعنوان الاحترام, كذلك عندما يسأل شخصٌ الفقيه عن اتجاه القبلة في النجف مثلا، فهو سؤال شرعي وان القبلة هل تميل بزاوية 12 درجة أو 17 درجة او 22 درجة على الاختلاف، فهل يقال ان هذا السائل يسأل الفقيه عن مسألة جغرافية؟، نعم هو في جوهره بحث جغرافي لكنه تَعَنْوَنَ بعنوان المسألة الشرعية بلحاظ الغرض منه إذ انه يسأل ليصلي باتجاهها، وكذلك السؤال عن الوطن وعن الكر والفرسخ وما اشبه، فهذه كلها اسئلة شرعية بلحاظ الغاية، والتفقه فيها تفقه في الدين, هذا كان ملحقاً بالبحث السابق استنادا لكلمة (ليتفقهوا) في دعوى شمولها للقضايا الخارجية.
كما يمكن الاستناد إلى كلمة (وَلِيُنذِرُوا قَوْمَهُمْ إِذَا رَجَعُوا إِلَيْهِمْ) فان القضايا الخارجية، الانذارُ فيها صادق عرفا فانه بالحمل الشايع الصناعي إنذار لا شك فيه، وذلك كما لو انذر شخص ابنه او صاحبه من مغبّة مطالعة هذا الكتاب لأنه كتاب ضلال فأن هذا انذار دون شك، وبتعبير اخر ان الانذار لا يختص بصِرف الانذار بالكليات بل يشمل الانذار بالجزئي والمصداق فانه انذار ايضا حقا، والحاصل: انه سواء انذره وحذّره من اصل الكلي وانه تحرم مطالعة كتب الضلال أم انذره وحذّره من مطالعة هذا الكتاب الخاص، فأنه يصدق عليه انه انذره وانه عمل بالآية الشريفة: (وَلِيُنذِرُوا قَوْمَهُمْ إِذَا رَجَعُوا إِلَيْهِمْ لَعَلَّهُمْ يَحْذَرُونَ) ومثاله: الانذار من ائمة البدع والضلالة كما صنع الامام (عجل الله تعالى فرجه الشريف) مع مثل الشلمغاني فانه انذار بلا شك وقد صدرت توقيعات من الامام (عجل الله تعالى فرجه الشريف) بلعنه وكذلك لَعَن الامام الصادق ( عليه السلام)مجموعة من الافراد في ذاك الزمن حيث ادعى بعضهم ان الامام الصادق ( عليه السلام)هو الله وانه – أي هذا القائل - نبي الله فلعنه الامام ( عليه السلام)وحذّر منه فهذا انذار بدون شك، وعلى المنذَر ان يقبل ويسمع، وكل تلك كانت قضايا خارجية، هذا هو الدليل الثاني.
3- الاستدلال بـ(أما الحوادث الواقعة)
الدليل الثالث الذي يمكن الاستناد اليه في كلا البحثين اي في ان القضايا الخارجية هي وظيفة الفقيه وان رأي الفقيه فيها حجة: هو قوله ( عليه السلام)واما الحوادث الواقعة فارجعوا فيها إلى رواة حديثنا فأنهم حجتي عليكم وانا حجة الله) بدعوى ان الحوادث الواقعة يراد بها القضايا الخارجية اما تعيينا واما من باب كونها المصداق، توضيح ذلك : ان الحوادث الواقعة التي عدت دليلا في مبحث التقليد وحجية رأي المجتهد فان هذا الدليل يعاني من اشكال اساسي في متنه ودلالته وانه ما المراد في الحوادث الواقعة؟ فان الاحتمالات فيها ستة, فعلينا ان ننفي بعض هذه الاحتمالات لكي نثبت المبحث هنالك وههنا، والشاهد هو محل بحثنا، لكن الفائدة تعم:
الاحتمالات الستة في (الحوادث الواقعة)
أ- المراد منها المسائل الفقهية
الاحتمال الاول: ان يكون المراد من الحوادث الواقعة المسائل الفقهية، نظير المكتوبة في الرسائل العملية، وبتعبير اخر القضايا الحقيقية، فعلى هذا الاحتمال فالرواية اجنية عن القضايا الخارجية، وستكون بالتالي دليلا خاصاً بالتقليد.
ب - المراد منها علائم الظهور المبارك
الاحتمال الثاني:الذي ذكره الكمباني الاصفهاني ان يكون المراد من الحوادث الواقعة علائم الظهور المبارك، فعلى هذا الاحتمال فالرواية اجنية عن المبحثين اي لا تفيد حجية رأي الفقيه في المسائل الشرعية كما لا تفيد في مبحثنا من حجية رأي الفقيه في القضايا الخارجية.
ج - المراد منها الفروع المتجددة
الاحتمال الثالث: الذي طرحه الاصفهاني ايضا ان المراد من الحوادث الواقعة هو الفروع المتجددة، وهذه اخص من المعنى الاول مطلقا، إذ الاحتمال الاول هو مطلق المسائل الشرعية، اما هذا الاحتمال فيختص بالمسائل المتجددة فقط مثل التأمين على الحياة فانها حادثة واقعة، اما في الصلاة لو شككنا في اننا في الركعة الثالثة أو الرابعة فان هذا الفرع قديم وليس من الحوادث الواقعة، فهو على الاحتمال الاول داخل اما على الاحتمال الثالث فخارج، اما التأمين والتأميم فداخل وهكذا كل مستحدث من الفروع كالعقود الجديدة وكالتصويت في الانتخابات، فعلى هذا الاحتمال سيكون رأي الفقيه حجة في الجملة لا بالجملة.
د - المراد منها الاسئلة الواردة من أولئك السائلين فقط
الاحتمال الرابع: الذي ذكره الشهيدي في حاشيته على المكاسب، وغيره، مستشكلا على الاستدلال بهذه الرواية، فهو: ان جواب الامام (عجل الله تعالى فرجه الشريف) يعود إلى اسئلة خاصة إذ انه (عجل الله تعالى فرجه الشريف) اجاب في التوقيع على الاسئلة الواردة عليه ومنها هذه المجموعة من الاسئلة، لكن ما هي (الحوادث الواقعة) الواردة في هذا السؤال؟ الجواب لا نعلم، فتسقط هذه الرواية عن الحجية لأجمالها عندئذ، وبتعبير اخر ستكون (ال) في الحوادث للعهد الذكري، وحيث لم نعرف ما هو المذكور في السؤال فلا يمكن الاحتجاج بهذه الرواية على التقليد في مبحثه وعلى القضايا الخارجية في مبحثنا.
هـ - المراد منها الامور المتنازع فيها (المنازعات) فتختص بباب القضاء
الاحتمال الخامس:ان يكون المراد بالحوادث الواقعة هو الامور المتنازع بها اي مواطن النزاع اي المنازعات فعلى هذا الاحتمال تكون خاصة بباب القضاء فقوله (فاما الحوادث الواقعة) يعني كل ما يحدث من نزاع، وعلى هذا الاحتمال فتكون اجنبية عن المقام وعن التقليد، فتختص بباب القضاء.
و - المراد منها الموضوعات المستنبطة
الاحتمال السادس: ان يكون المراد من الحوادث الواقعة هو الموضوعات المستنبطة، وهذا اخص مطلقا من الاحتمال الثالث وهو الفروع المتجددة، مثل الوطن والكعب وما اشبه . ونقول هذا هو عمدة ما يمكن ان يستشكل به على الاستدلال بهذه الرواية، ونحن سنشير إلى عناوين الاجوبة بمناسبة بحثنا, اما تفصيل الاخذ والرد فيها فيترك إلى موضعه من كتاب المكاسب حيث تبحث قضية ولاية الفقيه وان هذه الرواية هل يمكن الاستدلال بها على ولاية الفقيه او لا؟
الجواب عن شبهة الاحتمالات الستة
نقول: هذه الاحتمالات لا تخل بالاستدلال بهذه الرواية على حجية رأي الفقيه في القضايا الخارجية وايضا لا تخل بحجية فتواه وذلك للجهات التالية:
1- الاصل في اللام انها للجنس
الجهة الاولى: ان يقال ان الاصل في اللام اي (ال) انها للجنس، اما العهد الذكري والحضوري والذهني فخلاف الاصلُ لا يصار اليها الا بالدليل، وحيث لا دليل فنبقى على الاصل، وعليه: فان (اما الحوادث الواقعة) تشمل جميع الصور الستة لأنها باجمعها حوادث واقعة, وهناك اشكال اخر سيأتي استنادا إلى مادة الحادثة ومادة الواقعة.
اللهم الا ان يقال بوجود محتمل القرينية المتصل في المقام. توضيحه: انه اذا كانت هناك قرينة فنرفع اليد عن الاصل بلا كلام، واما إذا كان الموجود محتمل القرينية فاذا كان منفصلاً فلا يسقط الظاهر عن الحجية بلا كلام اي لا يسقط الظاهر عن ظهوره لأن الظهور قد انعقد، فالمنفصل وأن احتملت قرينيته لا يصنع شيئا, لكن الموجود في المقام هو محتمل القرينية المتصل، وهو سبق السؤال إذ هذه الاجوبة اجوبة على اسئلة محددة والجواب متصل بالسؤال, والسؤال حيث انه مبهم إذ لا يعلم انه سئل عن جزئي معين او عن كلي، عن قضايا خارجية او قضايا حقيقية، عن موارد قضاء او موضوعات مستنبطة أو غيرها؟ لا نعلم.. فهو محتمل قرينيةٍ متصلٌ فيسقط الاصل عن صحة التمسك به
لو قيل هذا: فنجيب بوجهين طوليين:
الوجه الاول: مبنائي بأن نقول، كلا, فأن في بناء العقلاء ان محتمل القرينية المتصل لا يسقط الظاهر عن ظهوره وان ادعي ذلك,هذا اولا, والبحث المبنائي يترك لمحله.
الوجه الثاني: سلمنا ان محتمل القرينية المتصل يسقط الظاهر عن ظهوره لكن نقول هنا في المقام خصوصية بل خصوصيات تقتضي التعميم والبقاء على الأصل منها مناسبات الحكم والموضوع اي مناسبة الحكم (فارجعوا فيها إلى رواة حديثنا) والموضوع وهو (الحوادث الواقعة) فان هذه قرينة تصلح لتأكيد الاصل وتثبيته، فهناك تناسب بين (رواة الحديث بما هم رواة حديث) وبين (مرجعيتهم المطلقة) لا المقيدة، وهذه تسمى مناسبة الحكم والموضوع ولا نفصل الآن، اذن هذا وجه من الوجوه, والوجه الاخر: ان قوله ( عليه السلام)(فارجعوا) دليل على التعميم وان (ال) للجنس وليست للعهد فانه لو كان السؤال عن قضايا خاصة كما ادعي فكان ينبغي ان يقول الامام ع واما الحوادث الواقعة اي تلك الحوادث التي سئل عنها، (فليرجعوا فيها او في تلك الحوادث الواقعة إلى رواة حديثنا) اي كان ينبغي أن يوجه إلى الاشخاص الخاصين الذين ابتلوا بتلك القضايا الخاصة، لكن الامام ( عليه السلام)لم يقل ذلك بل قال (اما الحوادث الواقعة فارجعوا فيها) وظاهر الخطاب انه للجميع، والحديث حول هذا البحث طويل نكتفي بهذا المقدار , اذن هذا الوجه الاول.
2- عموم التعليل بضميمة ان حذف المتعلق يفيد العموم
الوجه الثاني من وجوه ردِّ توهمِ ان الحوادث لا يُعلم المراد منها: هو ما اشار اليه في (اوثق الوسائل) وذكره اخرون ايضا وهو (عموم التعليل)، وهو وجه قوي، فانه حتى لو لم ينهض الوجه الاول فرضا مآلا، فالوجه الثاني وهو عموم التعليل ناهض، فانه عليه الصلاة والسلام قال:(اما الحوادث الواقعة فارجعوا فيها إلى رواة حديثنا فانهم) والعلة مخصِّصة ومعممة(فانهم حجتي عليكم وانا حجة الله) واضيف لكلام الاوثق كي لا يرد عليه اشكال؛ ان حذف المتعلق يفيد العموم لأنه قد يستشكل على الاستدلال به (انهم حجتي عليكم) اي في خصوص تلك الحوادث التي سألوا عنها فارجع عليه السلام فيها بخصوصها إلى الرواة فنقول حذف المتعلق يفيد العموم اذ لم يقل الامام (عجل الله تعالى فرجه الشريف) انهم حجتي عليكم في خصوص تلك القضايا بل اطلق في التعميم، في التعليل من حيث المتعلق، فهذه التتمة ضرورية لكلام الاوثق، فهذا وجه وهو عموم التعليل مع اضافة ان حذف المتعلق يفيد العموم.
والحاصل: ان مصب الحديث هو ان نثبت عمومية هذه الرواية للدلالة على كون القضايا الخارجية من وظيفة الفقيه وان رأيه فيها حجة، فليس للفقيه ان يقتصر على القضايا الحقيقية ببيان اصل وجوب الاجتهاد او كفاية التقليد، مثلاً بل عليه ان يتصدى للقضايا الخارجية وتحديد حال ووظيفة كل مكلف مكلف وجوبا كفائيا.
وصلى الله على محمد واله الطيبين الطاهرين |