بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على محمد وآله الطيبين الطاهرين سيما خليفة الله في الأرضين، واللعنة الدائمة على أعدائهم أجمعين، ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم
ملخص ما تقدم
كان البحث حول القضايا الخارجية وان الفقيه له فيها المرجعية كالقضايا الحقيقية فرأيه حجة فيها، كما ان عليه ان يتصدى لها، ووصلنا إلى الدليل الثالث وهو التوقيع المبارك للامام الحجة (عجل الله فرجه الشريف) (واما الحوادث الواقعة فارجعوا فيها إلى رواة حديثنا) وقلنا ان المحتملات في معنى الحوادث الواقعة هي ستة: منها الفروع الفقهية، ومنها خصوص الفروع المتجددة، ومنها المنازعات والقضايا الخلافية، ومنها علائم الظهور المبارك، ومنها الموضوعات المستنبطة، ومنها القضايا الخارجية، ومنها الاعم من كل ذلك ؛فلابد من اثبات الاعمية او اثبات ارادة خصوص القضايا الخارجية ليصح الاستدلال بهذه الرواية على المدعى، وقد استدللنا على التعمييم بدليلين، وكان الدليل الاول هو ان الاصل في (ال) وفي (اللام) انها للجنس والدليل الثاني هو عموم التعليل في قوله (عليه السلام) (فانهم حجتي عليكم)
3- تعليق الحكم على الوصف مشعر بالعلية.
الدليل الثالث: وهو ان تعليق الحكم على الوصف مشعر بالعِلّية، لأن الرواية علقت الحكم على الوصف فيشعر ذلك بعلية الوصف للحكم فيكون الوصف ملاك التعميم والتخصيص، اما الحكم في الرواية فهو (ارجعوا) فهو امر وايجاب وانشاء للوجوب، واما الوصف الذي علق عليه الحكم فهو (رواة حديثنا) اي ان حيثية كونه راويا للحديث هي التي اقتضت واوجبت تشريع وجوب الرجوع بـ(ارجعوا)، ومن الواضح بان المرجعية لراوي الحديث ليست بما هو هو بل بما هو مجتهد بقرينة المقام وان كان اللفظ مطلقا؛ اذ ان راوي الحديث الصِّرف الذي ليس بمجتهد لا يمكنه ان يكتشف ان اية كبرى تنطبق على اية صغرى، وان هذا المصداق هو مصداق اية كبرى من الكبريات، كما انه لا يمكنه ان يكتشف التزاحمَ وحكمَه، والتعارضَ واحكامه، والورود والحكومة وغيرها، اذن القرينة العقلية في المقام وهي قرينة الحكمة وقرينة مناسبة الحكم والموضوع تقتضي ان يكون الارجاع للرواي بما هو مجتهد فيما احتاج إلى الاجتهاد
والحاصل: ان تعليق الحكم على الوصف مشعر بالعلية، فعلة وجوب الرجوع إليهم هو كونهم رواة للحديث، واذا كان الامر كذلك عمَّ الصور الستة لأن هذا الملاك موجود في الصور الستة المتقدمة، فتعمها لوحدة الملاك المصرح به في الرواية.
الاشكال: بانه مشعر بالعلية وليس دليلا
ولكن هذا الوجه الثالث قد يستشكل عليه بان تعليق الحكم على الوصف كما اشرنا اليه في متن الاستدلال مشعر بالعلية وليس دليلا على العلية فهو يصلح مؤيدا ولا يرقى إلى رتبة الدليل، ولنا كلام مفصل حول ذلك يترك لمظانه.
4- قرينة السائل وقرينة السؤال.
الدليل الرابع: هو ما ذكره الشيخ بمناسبة مبحث (ولاية الفقيه)، الا انه يتعمم لمبحثنا، ونعنون دليل الشيخ بعنوان يوضحه اكثر ويجعل له اطارا محددا، فان الشيخ يستدل للتعمييم بقرينة السائل وقرينة السؤال، فيقول اما (قرينة السائل) وهو اسحاق بن يعقوب وهو اخ الشيخ الكليني وكان من الاجلاء، فانه لا يعقل ان يسأل مثل هذا السائل عن امر بديهي يعرفه الجميع وهو مرجعية الفقيه في الفروع الفقهية فانها كانت ولا تزال من البديهيات، واما (قرينة السؤال) فلأنه ورد انه سأل عن مسائل اشكلت عليه، فهل يعقل ان تكون هذه من المسائل التي اشكلت عليه، إذ حتى العامي يعلم ان اهل الخبرة هم المرجع، وانهم في الطب الاطباء وفي الهندسة المهندسون وفي الفقه الفقهاء، وذلك من البديهيات ولا تشكل على العامي فكيف باسحاق بن يعقوب.
اما نص عبارة الشيخ (ان وجوب الرجوع في المسائل الشرعية) وهو احد الاحتمالات الستة المتقدمة في معنى الحوادث الواقعة وان معناها المسائل الشرعية، فاذا كان كذلك فقد خرج عن مورد كلامنا وعن مورد كلام الشيخ، اما خروج هذا الدليل عن مورد كلامنا فلأن كلامنا يدور حول مرجعية الفقيه في القضايا الخارجية وليس في القضايا الحقيقية، اي المسائل الشرعية والكليات، واما خروج المسألة عن موطن كلام بحث الشيخ - وهو ولاية الفقيه في الشؤون العامة وهل هي ثابتة او لا؟ وهل يستدل بهذه الرواية عليها او لا؟ - فلأنه إذا كان المراد من الحوادث الواقعة المسائل الفقهية فلا ربط لها بولاية الفقيه في الشؤون العامة، اذن لا بد من العثور على وجه للتعميم، وهذا وجه جديد للتعمييم، حيث يقول الشيخ في المكاسب (ان وجوب الرجوع في المسائل الشرعية إلى العلماء الذي هو من بديهيات الاسلام من السلف إلى الخلف مما لم يكن يخفى على مثل اسحاق بن يعقوب حتى يكتبه في عداد مسائل اشكلت عليه) وهي التي عبرنا عنها بقرينة السائل وبقرينة السؤال (بخلاف وجوب الرجوع في المصالح العامة إلى رأي واحد ونظره) اذن هذه القرينة لو تمت فأنها تدل على ان (الحوادث الواقعة) السؤالُ فيها اما عن المرجعية المطلقة للفقيه في كل الامور الستة المتقدمة، لأن مثل اسحاق بن يعقوب على جلالة قدره ومثل الفقهاء يمكن ان يسألوا ان مرجعية الفقيه بقول مطلق وانها عامة لكل شيء أم لا؟ وبتعبير أدق يصح السؤال عن (المرجع في كافة القضايا، بعد غيبة المعصوم عليه الصلاة والسلام)، فاذا كان السؤال عن هذا فهو وجيه، وكذلك السؤال لو كان عن خصوص الشؤون العامة فهو وجيه ايضا، وكذلك لو كان السؤال عن خصوص القضايا الخارجية فالسؤال ايضا وجيه؛ إذ يمكن ان يقال ان المرجع في القضايا الخارجية هو المكلف نفسه وانه الذي عليه ان يشخص الموضوعات الخارجية التي اشرنا اليها أو عليه ان يرجع إلى الفقيه أو غيره، فهنا السؤال وجيه وانه لمن نرجع؟ فالامام (عجل الله فرجه الشريف) أجاب (ارجعوا فيها إلى رواة حديثنا).
الإشكال على استدلال الشيخ بانه اعم من المدعى
والحاصل: ان استدلال الشيخ هذا في مقامه نسرّيه ونعمّمه إلى مبحثنا، لكن هذا الاستدلال يعاني من مشكلة اساسية، وهي ان الدليل اعم من المدعى سواءا مدّعى كلام الشيخ أم مدعانا، إذ ان تصحيح هذا السؤال وصدوره من هذا السائل لا يتوقف على ان نقول بأن السؤال هو عن المرجعية بقول مطلق لتشمل الصور الستة، ومنها قضيتنا: القضايا الخارجية، ومنها قضية الشيخ: الشؤون العامة هذا اولا، ولا يتوقف تصحيح السؤال على ان نقول ان السؤال كان عن الشؤون العامة او المصالح العامة حسب تعبير الشيخ اوان نقول كان عن القضايا الخارجية، بل يصح السؤال أيضاً لو كان عن شؤون القضاء اي المنازعات التي هي احدى الصور الستة المحتملة وانه في القضاء لمن المرجعية؟ إذ يحتمل ان تكون المرجعية لمطلق المؤمن الثقة او للفقيه بشكل خاص او حتى للعشيرة (كما نجد ان من الجاري الآن في العشائر ان المرجعية في القضاء للعشائر، والعشائر كانت موجودة في ذاك الزمن بل كانت أكثر) فالسؤال وجيه عندئذ، اذن قرينة السائل والسؤال هي اعم من مدعى الشيخ ومن مدعانا، كما انه يصح السؤال لو كان عن علائم الظهور، وايضا يصح السؤال في بعض الصور الاخرى ، اذن هذا الوجه لا يتم الا بمتمم، فليتأمل به، والعبد الفقير ذكر كثيراً من جوانب هذا البحث لمن اراد التوسع في كتاب شورى الفقهاء حيث بحثت جوانب هذا المبحث فلذا لا داعي للاطاله ههنا، فهذا هو الدليل الرابع ووجه الاشكال عليه، كالثالث ، اما الدليلان الاولان فتامان.
تبقى هنا اشكالات وبحوث:
1- اشكال في السند.
الاشكال الاول على الاستدلال بهذه الرواية هو الاشكال السندي: وهذا الاشكال يترك لبحثه هنالك كما ان السيد العم في بيان الفقه تطرق للاجابة عن الاشكال السندي، كما ان مباحثنا الرجالية السابقة لمن استحضرها كفيلة بالجواب.
2- اشكال في المتن وان الرواية مقيدة، وجوابه
الاشكال الثاني : وهو ان الرواية مقيدة بـ(الواقعة) (واما الحوادث الواقعة) والواقعة فسرها اللغويون بالداهية مفردة الدواهي وفسروها بالنازلة الشديدة وفسروها بالنازلة من صروف الدهر ، اذن هنا قيد والمقيد هو مصب الارجاع للفقيه، اي الحوادث اذا كانت نازلة شديدة من صروف الدهر وكانت داهية من الدواهي فارجعوا فيها، فاذا كان الامر كذلك، فهذه الرواية ستكون أخص من المدعى ايضا؛ لأن القضايا الخارجية ليست بداهية الا في الجملة ولا تعد كل القضايا الخارجية من النوازل او الدواهي او من صروف الدهر، فهذه الرواية بناءا على هذا، دليل على المدعى في الجملة لا بالجملة؛ اي انها لا تدل على مرجعية الفقيه في القضايا الخارجية بقول مطلق، هذا الاشكال يترك الجاب عنه لتأملكم لأنه يتضح من البحوث السابقة وجه الجواب عن هذا الاشكال كبرويا، واما وجه جواب الصغروي فنشير اليه ههنا وهو ان الاجتهاد في اصول الدين ومورد كلامنا في القضايا الخارجية مما كان من هذه الدائرة، مما لا شك في انه من الدواهي وفي انه من النوازل الشديدة، لأن هذا الشخص بنحو القضية الخارجية لو قرأ كتب الضلال فانحرف لأستحق الخلود في النار او العذاب الشديد بدرجاته، فهذه حادثةٌ واقعةٌ من اهم الحوادث وحديثنا في القضايا الخارجية عنها، والحاصل: ان السؤال اذا كان عن خصوص الحوادث الداهية فان موضع بحثنا مصداق لها بالجملة لا في الجملة، اذن صغرويا لا يسبب هذا الإشكال على فرض صحته مشكلة في مورد بحثنا: ان الفقيه مكلف وموظف من جهة ورأيه حجة من جهة ثانية، بأن يتصدى للقضايا الخارجية الهامة التي منها ان يرشد المكلف إلى حرمة الاجتهاد عليه بهذا الطريق وهذه الالية أو هذا الوقت او هذه الحالة كما لو كان في جامعة او التقى بفيلسوف فانه لا يصح له الاقتحام في البحث مع كل احد، بل هنالك ضوابط عقلائية وسنشير لها لاحقا بإذن الله وانه حتى لو قلنا بوجوب الاجتهاد كقضية حقيقية في اصول الدين فان لها ضوابط، وللتقريب للذهن نمثل بالسباحة فان لها ضوابط: كأن لا يسبح في الدوامة، ولا يبتدأ تعلّم السباحة في مكان عميق او بلا مدرب أو ما أشبه فكل شيء من واجب وغيره له ضوابط، وكذلك الطب فانه واجب كفائي لكن ذلك لا يعني ان يقتحم هكذا فيطالع القانون لأبن سينا مثلاً ويطبقه على المرضى، والحاصل: انه لو قلنا بوجوب الاجتهاد كقضية حقيقية فان له ضوابط ومنها التدرج في الكتب التي يطالعها والادلة والشبهات التي يستقرئها والا فقد لا يتحمل فيزل ويضل ويهلك وهذا ما أشرنا إليه من ان تشخيص القضية الخارجية هو من وظائف الفقيه، وهذا المبحث سيأتي لاحقا ان شاء الله.
نسبة مبحثنا مع مبحث ولاية الفقيه
يبقى هنا كلام عن نسبة مبحثنا ههنا في القضايا الخارجية مع مسألة ولاية الفقيه، لأن البعض توهم من الادلة التي سقناها حتى الان ومنها الدليل الثالث حيث ذكرنا وجهين اولين عامين على ان الحوادث شاملة للستة، توهم ان مصب الحديث هو اثبات ولاية الفقيه لكن نقول ان هذا المبحث اجنبي عن ذاك، فقد ينتج هناك او قد لا ينتج، فان مبحثنا هو حجية رأي الفقيه في القضايا الخارجية، اما مبحث ولاية الفقيه فيختلف عن مبحثنا بثلاثة فروق اساسية، فهما مبحثان مستقلان:
فروق بين مبحثنا عن مبحث ولاية الفقيه.
1- بحث ولاية الفقية بحث عن المنصب وبحثنا عن حجية قول الفقيه
الفرق الاول: ان مبحث ولاية الفقيه يبحث عن المنصب للفقيه وانه ولي او ليس بولي فيستند بعضهم لهذه الرواية، لكن مبحثنا ليس عن منصب الفقيه وانما كان عن حجية رأي الفقيه، والحجية امر والمنصب امر اخر، توضيحه: ان الحجية في احدى تفسيراتها: الكاشفية، واين الكاشفية من المنصب؟ والحجية في تفسيرها الاخر تعني المنجزية والمعذرية اي موجبية استحقاق العقاب بالمخالفة او المعذورية بالموافقة، فأين هذه من المنصب؟ وذلك مثل قولنا البينة حجة وأين هذا من ان لها منصب القضاء او أي منصب اخر أو لا؟، ومثل ما لو قلنا ان خبر الثقة حجة، فان الحجية امر وان له منصباً كالولاية امر اخر إذ الثقة لا منصب له بالنسبة لي، كولي أو شبهه، وكذلك لو قلنا ان قول اللغوي حجة فان الحجية امر والمنصب امر اخر، والحاصل: ان الحجية قد تعني الكاشفية وقد تعني المنجزية والمعذرية وقد تعني وجوب الاتباع وقد تعني سائر المعاني التي ذكرناها في كتاب الحجة، وهي عليها جميعاً أجنبية عن المنصب.
وصفوة القول: ان هذا بحث وذاك بحث، فقد لا نلتزم بولاية الفقيه ونلتزم بحجية رأي الفقيه في القضايا الخارجية ووجوب تصديه لها، اذن هذان بحثان مستقلان تمام الاستقلال هذا اولا، واما ثانيا وثالثا فسيأتي الكلام عنهما.وصلى الله على محمد واله الطيبين الطاهرين |