بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على محمد وآله الطيبين الطاهرين سيما خليفة الله في الأرضين، واللعنة الدائمة على أعدائهم أجمعين، ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم
ملخص ما تقدم
كان البحث حول حجية رأي الفقيه في القضايا الخارجية وان من وظيفته ايضا التصدي لها، ووصل الكلام إلى رواية (اما الحوادث الواقعة) ونختم الحديث عنها ببيان اخر لوجه عموميتها وشموليتها، إذ فيه مزيد الفائدة، وهذا البيان هو:
(الحوادث الواقعة) تشمل ما كان كُلِّيا حادثا وما كان فردا حادثا .
ان الحوادث الواقعة تشمل أقساماً أربعة:
1.ما كان اصله كليا طبيعيا حادثا. الامر الاول: ما كان اصله، اي كليه الطبيعي حادثا، وهذا على قسمين؛ فأنه تارة يكون ذلك الكلي الطبيعي الحادث من عالم الثبوت والاعيان، واخرى يكون من عالم الاثبات بكلا قسميه: المعتقدات والافكار.
2.ما كان فرده حادثا مع الجهل بالحكم الكلي. الامر الثاني: ان الحوادث الواقعة تشمل ما كان فرده ومصداقه حادثا مع الجهل بحكم الكلي .
3.ما كان فرده حادثا مع العلم بالحكم الكلي.
الامر الثالث:الحوادث الواقعة تشمل ايضا ما كان فرده حادثا مع العلم بحكم الكلي، الا ان الجهل هو في الانطباق وفي كون هذا مصداق ذاك او مصداق نقيضه او ضده .
4.ما كان فرده حادثا مع الجهل بكونه مصداقا لأي كلي.
الامر الرابع:ان يكون الفرد حادثا مع الجهل بكونه مصداق اي كلي من الكليات. فهذه صور اربعة، وهذا البيان يتضمن مزيد فائدة على تلك الصور الستة، والنسبة بين بعض عناوينه وتلك العناوين اما عموم من وجه واما عموم مطلق، توضيح الصور الاربعة بايجاز:
توضيح الأقسام الأربعة.
1- ما كان كليه الطبيعي حادثاً
القسم الاول: ان يكون اصله حادثا، اي كليه الطبيعي، فتشمله (الحوادث الواقعة) سواءا أكانت تلك الحادثة الواقعة من عالم الاعيان، كما في ما لو هجم عدو على بلاد الاسلام فعلى الناس ان يلجأوا للفقهاء إذ Sواما الحوادث الواقعة فارجعوا فيها إلى رواة حديثنا فأنهم حجتي عليكمR الا لو تعذر الوصول للفقيه فعلى المرء ان يدافع بما يراه مقتضى المصلحة عن نفسه ووطنه، وهذه الصورة هي المذكورة عادة في كلمات الفقهاء لكن الصورة الثانية، وهي مورد بحثنا غير متطرق لها عادة، وذلك لأن الفقيه شأنه المسائل الشرعية والفقهية وليس حديثه عن المعتقدات والعقائد، والحاصل: انه رغم ان الرواية عامة للحوادث الواقعة في عالم الاثبات في كلتا دائرتي المعتقدات والافكار، الا ان الفقهاء لم يطرحوهما لأن هذه ترتبط بخارج دائرة الفقه إذ ترتبط بعلم الكلام والعقائد، وذلك مثل موارد بحثنا كنظرية تفسير المعاد بأنه بجسم مثالي، وهي النظرية الفلسفية التي طرحها البعض، وهذه حادثة واقعة لا يصح الاحتكام فيها إلى العقل كما صنع بعض الفلاسفة؛ بل هي حادثة واقعة فـSواما الواقعة فارجعوا فيها إلى رواة حديثناR، وصفوة القول: ان الرواية لا تتحدث عن عالم الاعيان وعالم الثبوت فقط بل تتحدث عن عالم المعتقدات، اي كلما استجدت نظرية عقدية او فكرية، مثل نظرية فرويد في اصل الانسان، فأنه يجب ان يحتكم فيها إلى الروايات حسب هذه الرواية وغيرها، ومثل نظرية وحدة الوجود أو الموجود، ومثل نظرية النسبيين في بحثهم عن نسبية الحقيقة اولا، وبحثهم عن نسبية المعرفة ثانيا، وبحثهم عن نسبية اللغة ثالثا، اذن (اما الحوادث الواقعة) تشمل كلا الجانبين: ما حدث كلّيّهُ في عالم الاعيان وما حدث كلّيه في عالم الافكار والمعتقدات؛ فالمرجعية هي للفقهاء وليس للعقل الصرف المجرد، هذا هو القسم الاول، وهذا القسم وهذه الصورة يمكن ان نشعبها ونقسمها هكذ: ان الحوادث الواقعة هي ما كان كليه الطبيعي مستجدا سواء أكان من عالم الاعيان ام عالم الاثبات والاذهان ثم عالم الثبوت نقسمه إلى ما كان من عالم الافعال او من عالم الصفات او غير ذلك.
2- ما كان فرده حادثاً وقد جهل حكم كليه
القسم الثاني: ما كان فرده حادثا لكن مع الجهل بحكم كليه، وهذا هو مجرى بحث الفقهاء عادة، كما فيمن صلى تماما موضع القصر، او صلى قصرا موضع التمام فهنا الفرد حادث مع جهل المكلف بحكم الكلي، وكذلك في الحيوان المتولد بين كلب وشاة، ما حكمه؟.
3- ما كان فرده حادثاً وقد علم حكم كليه
القسم الثالث:ما كان فرده حادثا لكن لم يعلم انه مصداق اي كلي من الكليات المتعددة، والرواية تشمله أيضاً وذلك مثل ملاقي أطراف الشبهة المحصورة، كما لو كان اناءآن وعلم بوقوع نجاسة في احدهما، فان العلم الاجمالي منجز في كليهما فلو لاقى ماء اناء ثالث، ماءَ احدهما، فهذه حادثة واقعة كمصداق خاص، فقد يشك المكلف في ان هذا مصداق اية كبرى من الكبريات، اي هل يندرج في دائرة العلم الاجمالي لأن النجس اما ذاك[1] او هذا[2] على سبيل البدل، والماء الثالث لاقى هذا[3] فكما كان علم اجمالي بنجاسة احدهما[4] فانه قد تولد علم اجمالي بنجاسة الثاني او الثالث ايضا، فهذا احتمال، والاحتمال الثاني ان يكون الاناء الثالث الملاقي لأحد طرفي الشبهة المحصورة مجرى الاستصحاب؛ ان كانت له حالة سابقة؛ وان لم تكن له حالة سابقة فيكون مجرى حديث الرفع[5] او مجرى قاعدة الطهارة، اذن الاحتمالات في الكليات التي ينبغي ان ينطبق احدها على المقام متعددة.
4- ما كان فرده حادثاً مع الجهل بكونه مصداق أي كلي
القسم الرابع: الذي ينطبق على المقام تمام الانطباق، وهو ما كان فرده حادثا مع العلم بحكم كليه، خلاف الصورة الثانية حيث كانت مع الجهل بحكم كليه، الا ان الشك في مصداقية المصداق، وهذه الصورة الرابعة هي المبحوث عنها من القضايا الخارجية، وذلك كما لو شك ان زيدا مبتدع او لا؟ او ان هذه الفئة ضالة او لا؟ او ان هذا الكتاب كتاب ضلال اولا؟ أو ان هذا الطريق الاجتهادي طريق موصل للحق او موصل للباطل؟ فمبحث القضية الخارجية مصداقه الاظهر هذه الصورة الرابعة، وذلك إذا كان الكلي واضحاً وان المبتدع يجتنب وان كتب الظلال يحرم اقتناؤها الا في صور الاستثناء، لكن الكلام في ان هذا مبتدع أو لا؟ وهل هذه الفرقة الجديدة التي ظهرت هي فرقة ضلال ام لا؟ هنا المرجعية في هذه القضايا الخارجية، للفقيه.
اذن هذه اقسام وصور اربعة تشملها الرواية، اما الصور الاخرى السابقة فما كان منها حديثه عن الانطباق فالقضية خارجية و الا فهي حقيقية، هذه تتمة موجزة للمبحث السابق.
5- الاستدلال بالأية(والمؤمنون والمؤمنات بعضهم أولياء بعض).
الدليل الخامس في مبحثنا، والادلة الاخرى يعرف الحال فيها في الجملة او مطلقا مما سبق: وهو قوله تعالى: Pوَالْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ يَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنْ الْمُنكَرِO في هذه الاية هناك عدة مباحث نشير إلى بعضها مما يرتبط بالمقام :
1- الاية جمعت بين القضية الحقيقية والخارجية
المبحث الاول: الظاهر ان هذه الاية جمعت بين القضية الحقيقية والقضية الخارجية، فان هذه الاية بمنطوقها اي ما تفيده من اصل الحكم المشُرَّع، قضية حقيقية، إذ Pوَالْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُO هذا هو الموضوع وPبَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍO هذا المحمول، وقد لوحظ الموضوع بنحو القضية الحقيقية، اي كلما وجد مؤمن في أي ظرف ماضي ام حاضر ام مستقبل، وكلما قدر وجوده، فهو ولي للمؤمن الموجود في اي ظرف محققا ام مقدرا، اذن المشرَّع هو قضية حقيقية، لكن المتعلَّق اي متعلق ما شُرِّع هو قضية خارجية، بيان ذلك:عندما شرعت ولاية المؤمنين بعضهم على بعض بنحو القضية الحقيقية فأن متعلق هذه الولاية اي ما تُعَمل فيه هي القضايا الخارجية فان الاب كولي مثلاً، ولايته يعملها في القضايا الخارجية فمتعلق الولاية اي مدخولها، اي ما تعمل فيه وتنطبق عليه هي القضايا الخارجية، فالاية جمعت بين الجانبين: الجانب الحقيقي والجانب الخارجي وشاهدنا في الجانب الثاني.
2.هل (يأمرون بالمعروف) تفسير لـ(بعضهم اولياء بعض) او أمر مستأنف؟
المبحث الثاني في الاية الشريفة، وعليه تتفرع استثمارات عديدة في مبحثنا ومباحث اخرى كالمناقشة في الاصل الذي اصّله الشيخ في هذه الاية لدى الشك، وسيظهر مما سنشير إليه بإذن الله تعالى، هو هل ان قوله تعالى: Pيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِO تفسير لـPبَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍO أو أمر مستأنف Pوَالْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ يَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِO فهل يأمرون تأسيس لمطلب جديد ام توضيح؟ اي يفيد توضيح Pبَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍO وان المقصود به P يَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنْ الْمُنكَرِO.
الظاهر انه تأسيس لا توضيح، خلافاً للشيخ
الشيخ الانصاري يبدو انه استظهر التوضيحية ففرع عليه ما فرع، وان لم يصرح بالتفريع عليه، لكن نستظهر التأسيسية؛ ليس فقط لأن الاصل هو التأسيس، وانما ايضا بالدرجة الاولى لظهور Pبَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍO في الحكم الوضعي الذي تتفرع عليه الاحكام التكليفية اللاحقة، Pوَالْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍO فاذا كان بعضهم أولياء بعض؛ اي كان له هذا المنصب والموقع فيجب عليه الأمر بالمعروف ويجب عليه ان ينهى عن المنكر ويجب عليه ان يقيم الصلاة ويؤتي الزكاة وما اشبه، فالظاهر ان هنا حكمين وضعي هو الولاية، وتشريعي تكليفي وهو وجوب الامر او النهي، وهذا تفصيله يترك لمحله لأن كلامنا الان مجرد اشارات.
فاذا كان الامر كذلك فتتفرع عليه مجموعة من النقاط:
1- ان (يأمرون) مولوية لا ارشادية
النقطة الاولى: ان PيأمرونO ستكون مولوية لا ارشادية كما توهمه البعض، فان الامر بالمعروف بالنسبة للآمر مولوي، لكن الكلام بالنسبة للمأمور أي إاتماره بالمعروف هل هو واجب او لا؟ اي هل هو واجب اخر غير واجب نفس العمل بالمعروف أم لا؟ فمثلا شخص لا يصلي فأمرته بالصلاة انطلاقا من هذه الاية الشريفة، فهل إطاعته أمر الآمر بالمعروف واجب او أمره صرف ارشاد لا تجب إطاعته بما هو؟ فاذا قلنا انه صرف إرشاد فأمر الآمر لا مدخلية له في لزوم انبعاثه عنه، ولا يترتب عليه عقاب من حيث مخالفته أمر الآمر بالمعروف، اما لو قلنا بان الامر مولوي فالنتيجة ان عليه ان ينبعث عن هذا الأمر وانه لو لم ينبعث ستترتب عليه عقوبة أخرى، وهنا الثمرة؛ اي لو ان شخصا لم يصلِّ فهو معاقب بعقوبة ترك الصلاة وما أعظمها من عقوبة، لكن لو ان مؤمنا أمره أيضاً بالصلاة فلم يصلِ، فله عقوبة ثانية على مخالفته أمر وليه، ومما يوضحه ما لو شخصاً عصى والده فيما يجب عليه ان يطيعه فيه كما لو أدى عدم الإطاعة إلى إيذائه فانه عاصٍ مستحق للعقوبة من هذه الجهة، وحينئذٍ، فلو كان متعلَّق أمر الاب هو الواجب كالصلاة، فعصى فأنه يكون مستحقا لعقوبتين، الأولى لعدم اطاعة المولى الحقيقي وثانيا عدم اطاعة هذا المولى المنصوب عليه كوليّ من قبل المولى الحقيقي، اذن لو قلنا ان Pبَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍO تشير للحكم الوضعي فستكون النتيجة ان Pيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِO سيكون لها جانب مولوي بالنسبة للمأمور وتترتب عليه عقوبتان .
تطبيق البحث على صغرى المقام
وفي مسألتنا لو ان شخصا لم يجتهد في اصول الدين، وقلنا ان على الفقيه ان يأمره بذلك بنحو القضية الخارجية إِنْ شخص الفقيه ذلك بعد الحقيقية، فلو لم يفعل لأستحق عقوبتين، الاولى لترك الاجتهاد كقضية حقيقية اي لوجود آمر بقضية حقيقية وقد خالفه والثانية لمخالفته هذا الامر الصادر من الولي الذي هو الفقيه، وللحديث صلة تأتي..
وصلى الله على محمد واله الطيبين الطاهرين
[1] الاناء الاول.
[2] الاناء الثاني.
[3] اي الثاني مثلاً.
[4] الاول والثاني.
[5] من باب هل يجب على المكلف تطهير الاناء الثالث – لو توقف واجب عليه - او لا؟ لأن حديث الرفع خاص بالمكلفين، أو من باب شمول حديث الرفع للوضعيات كما ذكره البعض. |