بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على محمد وآله الطيبين الطاهرين سيما خليفة الله في الأرضين، واللعنة الدائمة على أعدائهم أجمعين، ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم
ملخص ما تقدم
كان الكلام حول ثمرات البحث وبعض التفصيل والتطوير فيه,ووصلنا إلى الثمرة الرابعة، ثم انتهينا إلى أن الموضوع في القضية الحقيقية وكذلك الخارجية على قسمين؛ فأما مستنبط وأما صرف, فان كان مستنبطا فالمرجع فيه الشرع على تفصيل ذكرناه، وأما ان كان صرفا فالمرجع فيه العرف أو اللغة، هذا ما مضى, كما تحدثنا عن الضابط في الموضوع الصرف والمستنبط .
هل (الاجتهاد في أصول الدين) موضوع صِرف أو مستنبَط ؟
أما مبحث اليوم فهو إحدى صغريات تلك الكبرى الكلية, وهي مبحثنا بنفسه أي (الاجتهاد في أصول الدين) فـ: أ- هل الاجتهاد من الموضوعات المستنبطة أم هو من الموضوعات الصرفة؟, ب- وهل (أصول الدين) من الموضوعات المستنبطة أم الصرفة؟ ج- وهل كلمة الدين في (أصول الدين) من الموضوعات الصرفة أم المستنبطة؟
وهذا البحث الصغروي الخاص بمسألتنا في غاية الأهمية ؛لأنه إن قلنا أن الاجتهاد من الموضوعات المستنبطة فلابد أن نأخذ حقيقته وحدوده وأسبابه وطرقه ومسبّباته أي ما يجب أن يوصل إليه، من الشارع, وإلا كفانا أن نأخذه من العرف، أما إذا كان موضوعا صرفا فانه يكفينا أن نأخذه من العرف, كما ان هذا البحث سيال في سائر المواطن، ولكي نستشعر أهمية البحث, لأنكم على الأغلب في طريق الاجتهاد وبعضكم حسب معرفتي مجتهد بالفعل، أقول: لعل أكثرنا لم يفكر في أن الاجتهاد الذي هو في طريقه إليه والتفقه الذي هو قاصد له، هل هو موضوع صِرف فيكفي أن يرجع فيه إلى العرف في:
1- تحديد حقيقته وحدوده 2- ويكفي أن يرجع للعرف في تحقيق الأسباب الموجبة له وهل هو هذا الطريق أو ذاك الطريق 3- ويكفي أن يرجع للعرف في مسبباته، وحيث ان ذهنه مرآة للعرف كفاه الرجوع إلى مرتكزاته.
أما إذا كان مستنبطا فلا, ولعل الكثير لم يفكر في هذا المبحث رغم أهميته، ولكي نتعرف أكثر على وجه من وجوه أهميته نمثل بمثال: هل ان مقوِّم (الاجتهاد في الفقه) هو الاجتهاد في مبادئ الاستنباط,كعلم الرجال واللغة والنحو والصرف والمنطق والكلام ونحوها وحتى أصول الفقه أم لا؟ وهذا ما يطرحه الأعلام في خاتمة ألأصول فالبعض ينكر والبعض يثبت، وهل مقوم الاجتهاد في الفقه الاجتهاد في علم الدراية في الرجال؟ الشيخ الأنصاري وتبعه السيد الوالد يقول لا, والسيد الخوئي يقول نعم.
ان هذا البحث المفتاحي الخلافي الممتد من علم الرجال إلى علم الدراية وعلم المنطق والبلاغة وعلمي النحو والصرف وسائر العلوم، يعتمد – في أحد أدلته ومبانيه - على هذه الكلمة وانه هل الاجتهاد والتفقه (لِيَتَفَقَّهُوا فِي الدِّينِ) موضوع صرف؟ وعليه فسوف لا يكون شغل الفقيه بما هو فقيه ولا شغل الأصولي بما هو أصولي، أي لا يكونان هما المرجع فيه وإنما هو شغل العرف والمرجعية له، فلا بد من الرجوع فيه إلى العرف، ثم ان الفقيه إذا بحثه فأنه يبحثه لا بما هو فقيه بل بما هو أهل خبرة من عامة الناس, أما إذا قلنا أن الاجتهاد أمر مستنبط شرعي فلا يصح الرجوع في تشخيص كونه هذا اجتهاداً وعدمه إلى العرف، كما لو لم يجتهد في المسألة الرجالية ولا في كبراها الدرائية بل أخذها من الغير ثم أجتهد في المسألة الفرعية فهل هو مجتهد بالحمل الشائع ويصح تقليده؟، وهذه مسألة مهمة جداً وخلافية بشدة بمختلف أبعادها وتبتني على هذا الموضوع, فإذا قلنا أن الاجتهاد موضوع صرف فلا نرجع فيه – في تحديد مفهومه وحدوده - إلى الفقهاء ولا إلى ألأصوليين بل نرجع فيه إلى العرف فإذا رأوا انه يصدق على هذا المقلد في الرجال المستنبط في الفقه أنه متفقه في الدين (لِيَتَفَقَّهُوا فِي الدِّينِ) كفى في جواز وصحة تقليده.
أبعاد وثمرات تحقيق ان الاجتهاد موضوع صرف أو مستنبط
اذن: هذا الموضوع في غاية الأهمية، وله ثمرات كثيرة في أبواب عديدة,وثمرته التي هي مورد بحثنا هي في علم الأصول في بحث الاجتهاد في أصول الدين هي: ان الاجتهاد في أصول الدين أو التفقه في أصول الدين بناءاً على كونه موضوعا مستنبطا فانه يؤخذ من الشارع او من الفقيه وبناء على كونه صِرفاً فيؤخذ من العرف ثم ان (المرجعية) لأحدهما هي في أبعاد ثلاثة:
أ- البعد الأول: في تحديد ماهية الاجتهاد
البعد الأول – وهي الثمرة الأولى أيضاً -: ماهية الاجتهاد، فهل ألاجتهاد السطحي في أصول الدين كاف أم لابد من الاجتهاد المعمق؟ فان كثيراً من الناس في أصول الدين يعرف أوائل الأدلة, فهل هذا مبرئ للذمة أو لا؟ وهل هذا اجتهاد وتفقه في أصول الدين؟
إذا قلنا أن هذا موضوع صرف فنسأل العرف, وإذا قلنا أنه مستنبط فالمرجع هو الفقيه لكي يحدد أن الاجتهاد السطحي هو المطلوب وهو المجزئ أم الاجتهاد المتعمق هو الواجب؟ أم ما بينهما من الدرجات وأية درجة هي المطلوبة؟
ب- البعد الثاني: في نتائج الاجتهاد ومسبباته
البعد الثاني: الاجتهاد من حيث نتائجه أو مسبباته، فهل الاجتهاد في أصول الدين المورث للعلم هو الواجب ومصداق (انْظُرُوا) في الآية الشريفة؟ ومصداق (لِيَتَفَقَّهُوا فِي الدِّينِ) أم أن الاجتهاد المورث للظن أيضا اجتهاد وتفقه مبرئ للذمة؟ أم المطلوب ما بينهما من الاجتهاد المورث للاطمئنان المتاخم للعلم الذي هو وسط بين الظن وبين العلم، فهذه المسألة تحليلها يعود إلى هذا البحث.
ج- البعد الثالث: في أسباب الاجتهاد فهل يكفي أخذ مداركه من أي مصدر أم هناك ضوابط؟
البعد الثالث: الاجتهاد من حيث الأسباب فهل يكتفى في الاجتهاد في أصول الدين، بأخذ مداركه وأدلته من أي شخص كان عادلا كان أم فاسقا، مؤمنا أم كافرا,فيلسوفا أم عارفا أم متكلما أم غير ذلك، أم لا؟ بعبارة أخرى: هل يكتفى في الاجتهاد في أصول الدين بأخذ أدلته وحججه وردودها والأجوبة من أي طريق حصل أم لابد من طريق خاص؟ فإذا قلنا ان الموضوع مستنبط فليس من صلاحية العرف أن يظهر رأيا، فيقول هذا ايضا اجتهاد ولا فرق بينه وبين ذاك إذ يقال له: لابد أن يسأل هذا من الشارع وانه هل أخذ في الاجتهاد طريقا خاصا أم لا؟ لا للمصلحة السلوكية فقط بل للمصلحة الطريقية أيضا فلعل الشارع يرى أن هذا الطريق العرفي خطؤه أكثر من صوابه، ولعله يرى طريقهم موصلا غالبا لكن الطريق الذي حدده يراه موصلا أكثر، أي يرى أكثرية إيصاله، كما تدل عليه الروايات التي سيأتي بعضها.
اذن هذا البحث وهو مرجعية الفقيه أم العرف في تحديد المراد بالاجتهاد والتفقه وتشخيص ماهيته وتعيين حدوده سعة وضيقا عمقا وسطحيةً، وأسبابه ومسبباته، يبتني على تحقيق أن الموضوع صرف أو مستنبط.
فهذه اذن مسألة جديدة مستقلة وان ضمناها في ثنايا ثمرات المباحث الماضية، كما انها ثمرة في الوقت نفسه لكن افرزناها بعنوان مسألة جديدة لكي لا تختلط البحوث ولتفرز بشكل أوضح في عين اتصالها.
والكلام نفسه يأتي في كلمة (الأُصول) وكلمة (الدين) وأن المرجع في تحقيقهما من هو؟ فان كان موضوعا مستنبطا فالشرع وإلا [1]فالعرف[2], فما الجواب؟
التفصيل بين كون الدليل العقل او النقل فإن كان)العقل ) فالمدار على احتمال الضرر ونظائره ، ولا معنى عندئذٍ لتحقيق كونه صرفاً او مستنبطاً
والجواب على هذا السؤال وانه هل الاجتهاد في أصول الدين موضوع مستنبط فلابد ان يرجع في ماهيته وأسبابه ومسببَّاته إلى الشرع، أو موضوع صرف فيكتفى فيه بنظر العرف، هو: علينا ان نلاحظ الأدلة التي يستدل بها على وجوب الاجتهاد في أصول الدين فأن كانت عقلية فهذا البحث منتف من أصله، ولا معنى لطرح ان الموضوع مستنبط أو موضوع صرف[3] وان قلنا ان المتكفل بوجوب الاجتهاد في أصول الدين هو الأدلة النقلية فهذا البحث مجاله واسع عندئذ بل سيكون ضرورياً، والسبب في ذلك هو: انه اذا كان دليلنا على وجوب الاجتهاد في أصول الدين هو العقل بأدلته الأربعة السابقة (ومنها: دفع الضرر المحتمل وانه يجب الاجتهاد لدفع الضرر المحتمل ومنها: وجوب شكر النعمة الجسيمة ومنها: وجوب المنفعة البالغة ومنها: الاستحقاق, وسنتوقف الآن عند الأول) فإذا قلنا ان وجوب الاجتهاد في أصول الدين إنما كان دفعا للضرر البالغ المحتمل، فان الحكم في تحقيق وتحديد ماهية الاجتهاد وان الاجتهاد السطحي يكفي أو لابد من الاجتهاد المعمق؟ وانه هل يوجد طريق خاص أم مطلق الطرق كافية؟ وانه هل المورث للعلم فقط لازم ام ان المورث للظن أيضاً كاف؟, فلو قلنا ان الدليل هو العقل من باب وجوب دفع الضرر المحتمل فان الأمر سيدور مدار الاحتمال العقلي للضرر ولا ربط له بان الموضوع مستنبط أو صرف، لأن موضوع الحكم العقلي ليس لفظاً خاصاً باسم الاجتهاد حتى نحقق ان الاجتهاد السطحي مصداقه أو لا؟ أو أن هذا المورث للظن هل هو مصداق الاجتهاد أم ليس مصداقه؟ بل حكم العقل يدور مدار احتمال الضرر فكلما كان هناك احتمال للضرر وجب، واحتمال الضرر يرشدنا للأخص ويرشدنا للأصعب ويرشدنا للاحتياط لأن الإنسان إذا اجتهد اجتهادا سطحيا فأنه لا يزال يحتمل الضرر وان هذا الاجتهاد السطحي في أصول الدين غير المستند إلى أسس متينة بحيث يتزعزع بالشبهات لم يدفع عنه وجدانا احتمال الضرر؟ إذ العقل يرى انه غير دافع، وكذا الحال في الاجتهاد من هذا الطريق غير الطريق الذي ارشد إليه الشارع (ولا نقول عيّنه الشارع وأمر به لأنا في مرحلة البحث الأولي الآن بل الشارع على أقل الفرض مرشد ولا نعلم هل هو مرتبط بالسماء فإرشاده صحيح ودقيق ويجب ان يتبع ام ليس بمرتبط بالسماء فطريقه طريق من سائر الطرق) فقاعدة دوران الأمر بين التعيين والتخيير العقلية تجري هنا ولا يدفع احتمال الضرر إلا سلوك ذلك الطريق العقلائي الذي أمضاه من يحتمل انه مربوط بالسماء,كذلك لا يدفع الضرر الا بالاجتهاد الموجب للعلم؛ اذ لو اجتهدنا اجتهادا موجباً للظن فانه يبقى وجدانا احتمال الضرر.
اذن لو كان المدار في دليلنا هو الأدلة العقلية فان الأدلة العقلية تدور مدار احتمال الضرر، نعم إذا استقل عقل المكلف بان احتمال الضرر يندفع بهذا المقدار من الاجتهاد فلا بأس, إذن البحث بناء على مرجعية الدليل العقلي غير مرتهن بان الاجتهاد موضوعُه صرف او مستنبط، بل الأمر يدور مدار الدليل حصرا,هذا هو الوجه الأول وله توضيح أكثر نتركه إلى الغد ان شاء الله.
وصلى الله على محمد واله الطيبين الطاهرين
________________________________________
[1]- بأن كان صرفا, فالفقيه يستخدم ذهنه العرفي كمرآة للعرف، ورأيه على هذا سوف يكون أحد الآراء ولا حجية له على سائر أفراد العرف من حيث هو فقيه, فرأيه نظير رأي أي شخص آخر عادي, أما إذا قلنا انه (مستنبط) والفقيه بما هو فقيه حيث انه مضطلع بالروايات عليه ان يحلل فليس له ان يستخدم ذهنه العرفي بل عليه ان يستخدم ذهنه الشرعي ولو استخدمه لكان حجة على المكلفين فالفرق كبير اذن.
[2]- وموجز البحث ببيان آخر مع بعض الإضافة انا شققنا البحث إلى ثلاث صور الأول حقيقة الاجتهاد وهل يتحقق بالاجتهاد السطحي او لا؟ والثاني مخرجات الاجتهاد اي نتائج الاجتهاد ومسبباته اي خصوص ما يوصل للعلم او يكفي ان يوصل للظن او الاطمئنان, والثالث حول أسباب الاجتهاد وانه أي الطرق المستدَل بها هي حجة شرعا أو ليست بحجة شرعا، فان قلنا ان الاجتهاد موضوع صرف فالمرجعية للعرف فإذا قال العرف ان القياس مثلاً في اصول الدين يكفي فهو حجة اما إذا قلنا ان الحجج تؤخذ من الشرع لأن الاجتهاد موضوع مستنبط فلابد في الحجج عليه من أن تؤخذ من الشرع فاذا احالنا – أي حوّلنا - الشرع إلى الناس اكتفينا والا فلا,اذن البحث جوهري في كل أبعاده.
والغرض من هذا البحث هو ان نطبق الكبرى المتقدمة على الصغرى فهل الاجتهاد في اصول الدين موضوع مستنبط أم صرف أي هل تصرف فيه الشارع او لا؟ فان مجرد ذكر الضابطة الكلية لا يكفي لتحقيق حال المصداق فعندما نقول: العالم متغير ثم نقول كل متغير حادث فان كل متغير حادث ليس هو الذي تكفل بان العالم متغير بل أدلة العالم متغير أدلة أخرى وهي المشاهدة مثلا فهذه الصغرى دليلنا عليها المشاهدة الوجدانية ثم نقول هذا الذي شاهدناه بالحس انه متغير كبراه ان كل متغير حادث ,اذن الصغرى تحرز بادلتها والكبرى تحرز بادلتها ومن ضمهما إلى بعض تخرج النتيجة ,لا ان الكبرى تحرِز الصغرى والحاصل: ان الضابطة لا تحرز المصداق.
[3]- وهنا لفتة دقيقة تحتاج للتدقيق |