بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على محمد وآله الطيبين الطاهرين سيما خليفة الله في الأرضين، واللعنة الدائمة على أعدائهم أجمعين، ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم
1- تصرف الشارع في (التفقه) أما صدقا أو كشفا أو حجيةً
النقطة الأولى: البحث يدور حول هذه العناوين الثلاثة، عنوان التفقه، وعنوان العلم، وعنوان العقل وحجيته، من حيث كونها موضوعات صرفة او كونها موضوعات مستنبطة قد تصرف فيها الشارع اما صدقا واما كشفا واما حجية، فان تصرف الشارع يتصور في هذه العناوين الثلاثة على وجوه ثلاثة.
الوجه الاول: انه تصرف في الصدق .
الوجه الثاني: انه لم يتصرف في الصدق الثبوتي بل تصرف في الإثبات والكاشفية .
الوجه الثالث: انه تصرف في الحجية وهو المحمول ولم يتصرف في الصدق ولا في الكشف،
الوجه الأول: ان يتصرف الشارع في الصدق، ففي عنوان (التفقه) قد يتصرف الشارع في (الصدق) اي في المفهوم لتكون نتيجة تصرفه ان هذا التفقه غير الحاصل من اسبابه التي أسسها او أمضاها ليس تفقها.
والحاصل: ان التصرف في الصدق يعني ان يكون للتفقه مفهوم عرفي فيتصرف الشارع في نفس المفهوم فيضيقه او يوسعه، هذا احتمال وتعيّنهُ يتبع ملاحظة الأدلة.
الوجه الثاني: ان لا يتصرف الشارع في الصدق اي في مرحلة الثبوت، بل يتصرف في الكشف اي ان الشارع يوافق العرف على ان مفهوم التفقه هو الاعم او الاخص، لكنه يكشف للعرف خطأه مصداقيا اي يقول ان هذا التفقه ليس مصداق التفقه – المتفق على مفهومه - فهذا الذي توهمته مصداقا ليس مصداقا، وفي مثال عرفي تارة يقول المولى هذا الحائط الخشبي لا اعتبره حائطا فهنا تصرف في مفهوم الحائط وتارة اخرى يقول اعتبره حائطا ولكن هذا الموجود هنا ليس بحائط وانما ورق.
والحاصل ان الوجه الثاني هو التصرف في الكشف أي ان يكشف للعرف خطأه في تطبيق المفهوم على المصداق.
الوجه الثالث: التصرف في الحجية: بمعنى ان الشارع لا يتصرف في المفهوم ولا في الكشف بل يتصرف في المحمول؛ فيقول هذا ليس بحجة كما في الظن (ان الظن لا يغني من الحق شيئا) فانه تصرف في الحجية لأنه ظن عرفا وشرعا ولم يتصرف الشارع في المفهوم ولا في المصداق لكنه تصرف في الحجية، أذن علينا ان نلاحظ الأدلة على ضوء هذا التقسيم الثلاثي، وانه ما الذي تريد ان تقوله لنا الأدلة, وهذه نقطة مهمة توضح بعض البحوث الماضية وتوضح البحوث المستقبلية أيضا.
أذن البحث تارة يدور حول (التفقه) وقد مضى بعض الحديث عنه وانه موضوع مستنبط، وتارة يدور حول (العلم) وثالثة يدور حول (العقل) وسيأتي الكلام حول الأخيرين بإذن الله تعالى.
2- (التصرف) إمكاناً وبالنظر إلى الحكمة، ووقوعاً
النقطة الثانية: ان الشارع له أن يتصرف في الثلاثة، أمكانا أولا وبالنظر للحكمة ثانيا وقد دل الدليل على التصرف ثالثا,أذن نتكلم في مراحل ثلاثة أولا انه ممكن وثانيا أن تصرفه حكمة ووضع للشيء في موضعه ثم أنه، بالأدلة، قد فعل.
أما إمكان التفقه، فلأن التفقه دليل ظني لأن التفقه يعني الإجتهاد وهو في حد ذاته ظني والحجية ليست ذاتية للظن كما هو واضح بل هي ذاتية للعلم فقط فلا يمكن جعلها له أو نزعها ورفعها عنه – أي عن العلم - والحجية هنا بمعنى الكاشفية أو المنجزية، لكن الظن ليست الحجية ذاتية له فيمكن أن يجعلها الشارع له ويمكن أن يرفعها والتفقه ظني فيمكن أن يمنحه الشارع الحجية تأسيسا, ويمكن أن يمضي الشارع الحجية أو لا كما صنع إذ قال القياس ليس بحجة والأحلام ليست بحجة، وقال التفقه حجة في الجملة أي بشروطه فلو توفرت الشروط فهو حجة، إذن لا مشكلة في تصرف الشارع في التفقه من حيث الإمكان.
وأما من حيث الحكمة فلأن الشارع هو الأعرف بالطرق الظنية وان أياً منها هو المصيب أو الأكثر اصابة، فان القياس طريق ظني والاجتهاد طريق ظني، والشارع هو الأعرف بهذه الطرق ومحيط بها وما هو الأقرب منها للإصابة، أّذن مقتضى الحكمة أن يتصرف الشارع في التفقه باعتباره طريقا ظنيا فيقيده بقيود لكي يحرز أكثرية المطابقة.
أما من حيث الوقوع فقد فعل الشارع ذلك في أماكن عديدة
منها ما أشرنا أليه في القياس فانه دليل ظني وهو نوع من التفقه إذ هو طلب للفقه عبر محاولة اكتشاف المناط والملاك، لكن الشارع ردع عنه، ولكن هل ردعه عنه هو من حيث الصدق أو من حيث الكشف أو من حيث الحجية ؟ فالشارع عندما نهانا عن العمل بالقياس ما الذي أراد أن يقوله؟ فهل تصرف في القياس صدقا ام كشفا ام حجية؟
الظاهر أنه لم يتصرف في القياس بالنحو الأول أي من حيث مفهوم القياس، فلم يوسع أو يضيق فيه ليخترع مصطلحا شرعيا جديدا في القياس فيكون موضوعا مستنبطا، انما تصرف في كلا الأمرين الثاني والثالث فقد تصرف فيه كشفا بان أوضح ان القياس ليس بأغلبي الإصابة ؛بل ليس بغالب الإصابة بل ليس بمساوي الإصابة، فأوضح خطأ توهم العرف ان القياس كاشف نوعي عن الواقع فقال له ان القياس ليس كاشفاً نوعياً عن مرادات الشارع لأن مراداته ومناط أحكامه لا يعلمها الإنسان، فأذن الشارع تصرف في الثاني ويتبعه الثالث حيث تصرف في الكشف فلا حجية للقياس عندئذ.
ومنها: - أي مما تصرف فيه الشارع[1]- :هو تصرفه في المنع من التفقه عبر الكتاب وحده، فمنع الشارع عن الاجتهاد استنادا للقرآن بمفرده، بل اشترط في التفقه ان تُضم إلى الكتابِ الرواياتُ، والأدلة على ذلك كثيرة، منها قوله (صلى الله عليه وآله وسلم) (اني تارك فيكم كتاب الله وعترتي ما ان تمسكتم بهما لن تضلوا أبدا) وهذا يعني انه إن تمسكتم بالكتاب وحده ضللتم عقيدة وضللتم سلوكا.
ومنها قول أمير المؤمنين (عليه السلام) (ان في القرآن عاما وخاصا ومطلقا ومقيدا وناسخا ومنسوخا) وغير ذلك وهذه لا تعلم اغلبها إلا بالسنة.
والكلام ليس في الآيات المحكمات بل المبهمات والمجملات والمتشابهات وهي التي تأخذ اكبر مساحة من الأحكام، والأدلة كثيرة جدا في هذا الحقل وهذه مجرد اشارات.
اذن: التمسك بالكتاب وحده ليس تفقها شرعا لكن هل انه ليس تفقها صِدقا اي لا يعتبره الشارع تفقها بالمرة اي انه موضوعا لا يراه تفقها؟ أم لا يراه كشفا؟ أم لا يراه حجية؟ والحاصل: انه هل هو تفقه عرفا لكنه ليس بتفقه شرعا وليس بكاشف اذا انفرد به، او ليس بتفقه حتى عرفاً؟
الظاهر انه ليس بتفقه لأن السنة مبينة للمرادات الجدية للشارع، وذلك كمتكلم يعطي كتابين متكاملين في وقت واحد وقد ذكر المطلقات هنا والمقيدات هناك فانه لو رجع المكلف إلى احدهما فليس هذا بتفقه حقيقة لأن التفقه يعني ان يطلب الإنسان فقه كلام المتكلم في مراداته الجدية، ومراداته الجدية تكون اذا لاحظ الإنسان مختلف كلماته الكاشفة عن مراده الجدي، وأما اذا لاحظ العام ولم يلاحظ الخاص فانه ليس تفقها حتى عرفا[2] وذلك مثل من يلاحظ الكتب الطبية فيلاحظ الشطر الأول دون الثاني او يقرأ علامة دون علامة ثانية.
ومنها: ردع الشارع عن مطالعة ومدارسة كتب الضلال وان لا تكون كتب الضلال طريقا لتفقهك، فهل هذا تصرف صدقا او كشفا او حجية؟
ومنها: ردع الشارع عن اتباع الصوفية في الفقه الأكبر والفقه الأصغر وكذلك ردع الشارع عن اتباع الفلاسفة في الفقه الأكبر فانهم عادة حديثهم يدور في شؤون العقائد, اما الصوفية فيتحدثون في العقائد وفي السلوك أيضا.
رواية الإمام الرضا (عليه السلام) عن الصوفية: انهم أعداؤنا...
وهنا نتوقف قليلا ونقول ان الروايات الدالة على ذلك كثيرة وهذه الروايات حسب تصريح العديد من المحققين، وهو المنصور، متواترة فلسنا بحاجة لدراسة سندها؛ على ان اسناد بعضها صحيح، وننقل رواية او روايتين: الرواية الأولى ينقلها المحقق المحدث النوري في مستدرك الوسائل عن كتاب حديقة الشيعة للمقدس الأردبيلي حيث يعبر عنها بالصحيحة فيقول(في الصحيح عن احمد بن محمد ابن ابي نصر البزنطي عن الإمام الرضا (عليه السلام) انه قال: قال رجل من أصحابنا للصادق جعفر بن محمد عليه السلام: قد ظهر في هذا الزمان قوم يقال لهم الصوفية فما تقول فيهم؟ قال انهم اعداؤنا فمن مال إليهم فهو منهم ويحشر معهم وسيكون أقوام يدّعون حبنا[3] ويميلون اليهم ويتشبهون بهم ويلقبون أنفسهم[4] ويأولون أقوالهم) لأن التصوف مبني على التأويل كما سيأتي فيؤولون أقوالهم الباطلة كقول الحلاج (انا الحق) وقول بعضهم (ليس في جبتي سوى الله) ثم نجد ان صدر المتألهين يوجه أمثال هذه الكلمة إذ ينقل مجموعة من كلمات الصوفية التي تصرح بانهم هم الله وكل شيء هو الله كما في بعض كتبه[5] ثم يوجهها كما سيأتي (ويأولون أقوالهم، ألا فمن مال إليهم فليس منا، وانا منهم براء، ومن أنكرهم ورد عليهم كان كمن جاهد الكفار بين يدي رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم))[6] وذلك لأن جهاده كان جهاد العقيدة لإثبات ان الله واحد احد فرد صمد ليس له شريك ولا ضد ولا ند ولا عديل ولا مثيل، لكن الصوفية يقولون نحن الله، وللمحدث النوري في خاتمة المستدرك بحث مهم عن كتاب (حديقة الشيعة) للمقدس الأردبيلي لا بأس ان يلاحظ.
تأويل ملا صدرا لكلام الصوفية
ولنذكر مثالا تطبيقيا عن كلمة (يؤولون أقواله) الواردة في الحديث، ونقتصر على ذكر نموذج واحد عن الأسفار لصدر المتألهين وكيف يؤول أقوال الصوفية، يقول[7] (وأما ما نقل عن هؤلاء الأعلام من الصوفية فيرد على ظاهره ما يرد على مذهب المعتزلة) حول بحث علم الله سبحانه إذ كلامهم كلام غريب وصدر المتألهين يذكره فيرد على الصوفية في ما التزموه عن علم الله كما يرد على المعتزلة لكنه يقول (لكن لحسن ظننا بهذه الأكابر) من الصوفية لذا ننزههم عن ظاهر كلامهم ونقول ان مقصدهم شيء آخر! (لما نظرنا في كتبهم ووجدنا منهم تحقيقات شريفة ومكاشفات لطيفة وعلوماً غامضة مطابقة لما أفاضه الله على قلوبنا وافهمنا به مما لا نشك فيه ونشك بوجود الشمس في رابعة النهار) اي نشك بوجود الشمس ولا نشك بهذه المكاشفات والعلوم! (حملنا ما قالوه ووجّهنا ما ذكروه حملا صحيحا ووجها وجيها في غاية الشرف والإحكام) ووجه كلامه بنفسه محل تأمل لكن المهم الآن أن نقارن كلامه بما يقوله الإمام عليه السلام (وسيكون أقوام يدعون حبنا ويميلون اليهم ويتشبهون بهم ويلقبون انفسهم ويؤولون أقوالهم) وصدر المتألهين يصرح بانه يؤول أقوالهم وانها خلاف الظاهر لكنه يحسن الظن بهم! والحديث طويل في هذا الحقل وإجماله هي ان التفقه عن طريق التصوف الذي مشى عليه المتصوفة والفلاسفة أبطله الشارع اما بالنحو الأول او الثاني او الثالث، اما النحو الثالث وهو الحجية فلا كلام فيه، وأما النحو الثانية الكشف فكذلك أيضا لا كلام، إنما الكلام في النحو الأول، وللحديث صلة.
وصلى الله على محمد واله الطيبين الطاهرين
[1]- بحثنا اليوم تطبيقي لاستثمار المباحث السابقة والثمرة العملية.
[2]- هل يمكن القول ان العرف يرى ذلك تفقها وكذلك في اللغة لكن الشارع بين وكشف ان هذا غير مراد بالأدلة أذن هو ليس بحجة فأذن تصرفه في الكاشفية والحجية فقط – المقرر. الجواب: العرف يتفق مع الشارع في ان ملاحظة مطلقات كلام أي متكلم دون مقيداتها – مع علمه بوجودها أو احتماله، ولم يفحص – ليس تفقهاً بل هو صورةً تفقه وبنحو المجاز لا غير.
[3]- لأن الصوفية عادة كانوا من المخالفين لكن سرت موجة الصوفية للشيعة أيضاً.
[4]- ألعارف مثلا أو القطب.
[5] - وسيأتي نقل بعضها.
[6]- مستدرك الوسائل ج12ص323نقلا عن حديقة الشيعة للمقدس الاردبيلي ص562
[7]- الاسفار ج 6 ص183
|