بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على محمد وآله الطيبين الطاهرين سيما خليفة الله في الأرضين، واللعنة الدائمة على أعدائهم أجمعين، ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم
ملخص ما تقدم
كان البحث حول مطلبين:
الأول هو ان الاجتهاد في أصول الدين حقيقة مستنبطة شرعية وان الاجتهاد والتفقه قد اشترط فيه من قبل الشارع ان يكون بشرائط خاصة.
المطلب الثاني: هو ان العلم في أصول الدين أيضا اشترطت فيه شروط خاصة منها ان يكون عبر طرق خاصة، فلو حصل للمكلف القطع من غير الطرق التي أمضاها الشارع أو أسسها، فانه غير معذور لو أخطا ومعاقب، وذكرنا ان من الطرق التي لم تنلها يد الحجية والجعل بل: المردوع عنها، هو طريق الكشف والشهود، وذكرنا لذلك وجوها منها ان الكشف تتدخل في صناعته وإيجاده عوامل عديدة، أشرنا إلى عوامل تسعة، وسنبحث عن ثلاثة منها والبقية نتركها لفرصة أخرى أو لتحقيقكم.
وذكرنا ان الكشف والشهود قد يكون عامله وباعثه وموجده التدخل الشيطاني والشيطان، وقد يكون باعثه وموجده القوة المتوهمة، وقد يكون الموجد له هو المتخيلة، وقد يكون المسبقات الفكرية، وقد تكون الأمراض العقلية إلى اخر ما ذكرناه، وقد ذكرنا أحدها وهو الكشف الذي يصنعه الشيطان.
الأمراض العقلية قد تكون من عوامل إيجاد الكشف والشهود
العامل الثاني الذي لم أجد من أعطاه حقه من البحث، هو: عامل الأمراض العقلية، فان الكشف والشهود في الكثير من الأوقات يكون منشؤه المرض العقلي.
وهذا البحث من الأهمية بمكان إذ قد كثرت في هذا الزمن أقاويل الناس الذين يدعون الكشف والشهود بيقظةٍ أو منام؛ اما لنفسه أو لغيره، بدعوى مقامٍ أو بدعوى نهي الهي او بدعوى رؤية غيبية مستقبلية أو ماضوية أو غيرها، هذا أولا، وثانيا لأن منهج العرفاء كابن عربي بني على الكشف والشهود، وثالثا لأن منهج مثل صدر المتألهين بني أيضا على الكشف والشهود، فتحقيق العوامل التي يمكن أن توجد الكشف والشهود مهم إلى ابعد الحدود، والحاصل: ان من العوامل التدخل الشيطاني ومن العوامل المرض العقلي.
وسنبدأ بكلام بعض فقهائنا الكبار، ثم نستدل بكلامهم عليهم: أن الكشف قد يصنعه المرض العقلي والأمراض العقلية والتي منها ما يسمى في الطب القديم الماليخوليا وما يسمى بالطب الحديث بـ(الشيزوفرينيا) ثم بعد ذلك ننتقل إلى ما يقوله العلم الحديث.
كلام الشيخ المفيد: غلبه السوداء سبب تخيل مناجاة الملائكة و..
ينقل العلامة المجلسي في كتاب البحار عن الكراجكي في كنز الفوائد، انه وجد لشيخنا المفيد رضوان الله عليه في بعض كتبه كلاما طويلا ننقل منه ما ينفعنا في المقام من ان الكشف والشهود في اليقظة والمنام قد يكون منشؤه غلبة السوداء، وهذا معروف في الطب القديم ولا ينكره أمثال صدر المتألهين ولا ابن عربي بل ان صدر المتألهين في الأسفار يكرر الحديث عن وجود السوداء من جملة القوى الأربعة المعروفة. قال الشيخ المفيد: (وقد ترى تأثير الطبع الغالب في اليقظة والشاهد، حتى ان من غلب عليه الصفراء يصعب عليه الصعود إلى المكان العالي، بما يتخيل له من وقوعه منه، ويناله من الهلع والزمع ما لا ينال غيره) واما موطن الشاهد فهو قوله: (ومن غلبت عليه السوداء يتخيل له أنه قد صعد في الهواء وناجته الملائكة ويظن صحة ذلك حتى أنه ربما اعتقد في نفسه النبوة وان الوحي يأتيه من السماء وما أشبه ذلك)[1] وما درى هذا المسكين بانه مريض عقلي.
أنموذج لتطبيق كلام الشيخ المفيد: مكاشفة ينقلها ابن عربي: شاهد ذاته في العرش!
وهذه مكاشفة ينقلها ابن عربي في الفتوحات المكية، قد تضحك الثكلى وتبكي المؤمن، حيث ينقل عن نفسه انه حدثت له عدة مرات حالة الغيبوبة عن الذات يقول: (ولقد ذقت هذا المقام... وأنا في هذا كله لا علم لي بذلك لا بالجماعة ولا بالمحل ولا بالحال ولا بشيء من عالم الحسن لشهود غلب علي، غبت فيه عني وعن غيري...) إلى ان يقول نقلا عن الجنيد عن هذه الحالة من المكاشفة (قال – الجنيد -... : ألا أني كنت في أوقاتٍ في حال غيبتي) أي غيبتي عن ذاتي إذ يخرج عن طوره وعن عالم الحس (أشاهد ذاتي في النور الأعم والتجلي الأعظم بالعرش العظيم) فقد شاهد نفسه إذن في العرش العظيم! (يصلي بها) و لا يقول أصلي، بل انه يشاهد ذاته كأنها صارت متعددة، فوحدة في انفصال وانفصال في اتصال! (وأنا عري عن الحركة) وظاهره انه يركع ويسجد بلا حركة! (بمعزل عن نفسي) وهذا مرض عقلي في إحدى تفسيراته وتدخل شيطاني في إحدى احتمالاته (وأشاهدها بين يديه) أي الله (راكعة ساجدة وانا أعلم اني ذلك الراكع والساجد كرؤية النائم واليد في ناصيتي، وكنت أتعجب من ذلك وأعلم أن ذلك ليس غيري ولا هو أنا) وهذا ما يعبر عنه في العلم الحديث بحالة فصام أو انفصام الشخصية. (ومن هناك عرفت المكلف والتكليف والمكلف أسم فاعل واسم مفعول)[2]
كلام شارح فصوص الحكم
وهذا نوع من أنواع الكشف والشهود التي ملأ بها ابن عربي كتابه، ثم انهم حيث قد لا يقبلون كلام مثل الشيخ المفيد، نقول: إليكم شرح فصوص الحكم للقيصري في شرحه لكلام ابن عربي في (الفصوص) يقول في مبحث ما يتعلق بالعالم المثالي[3](والسالك اذا اتصل في سيره إلى المثال المطلق بعبوره عن خياله المقيد، يصيب في جميع ما يشاهده... واذا شاهد امرا في خياله المقيد يصيب تارة ويخطئ أخرى... وللإصابة أسباب... وأسباب الخطأ – أي في المكاشفات - ما يخالف ذلك: منها سوء مزاج الدماغ) اذن المخ تارة يكون فيه خلل فيتصور انه قد شاهد أي انه بالفعل يرى نفسه في العرش راكعاً ساجداً لكنه لا يعلم ان سببه هو سوء مزاج الدماغ (واشتغال النفس باللذات الدنيوية واستعمال القوة المتخيلة في التخيلات الفاسدة) فهذه ثلاث عوامل يذكرها إضافة إلى عوامل أخرى عديدة.
الأسفار: كثرة التفكير قد تولد الماليخوليا!
اما (الأسفار)[4] فله كلام مؤسف ومحزن لكل مؤمن غيور، إذ كلامه يتضمن ترغيباً بواحد من أقبح المحرمات في الشريعة لكن شاهدنا الآن في موطن اخر لذا لا نتوقف عند هذا. والحاصل انه يقول ان كثرة التفكير توجب مرض الماليخوليا ولنلاحظ نص[5] كلامه: (ان من كان دائم الفكر والتأمل في أمر باطني كثير الاهتمام والاستغراق فيه، انصرفت القوى البدنية إلى جانب الدماغ، وينبعث من كثرة الحركات الدماغية حرارة شديدة تحرق الاخلاط الرطبة وتفني الكيموسات الصالحة، فيستولي اليبس والجفاف على الأعضاء ويستحيل الدم إلى السوداء، وربما يتولد منه الماليخوليا) وهي كما يعرفه هو في مكان اخر – وهي في الطب القديم معروفه - : غلبة السوداء على الدم بحيث يختل اعتدال مزاج الدماغ فيحتاج إلى علاج، كما ان الماليخوليا هي قسم من أقسام الجنون.
وهنا نقول لهذا الذي يدعي الكشف والشهود - وما أكثرهم ومنهم هؤلاء العرفاء -، من أين عرفت بان هذا الكشف ليس كشفا شيطانيا؟ ومن أين علمت ان هذا الكشف والشهود ليس من اختلال الدماغ وليس مرضا عقلي؟ ذلك ان المبتلى بالماليخوليا قاطع ولا يقبل من أحد دعوى انه مريض، ولا يشك في صحة ما يرى، فمن أين علمت ان هذا الكشف الذي تنقله ليس من قبيل المرض العقلي؟ وأية حجية بعد ذلك تبقى لهذه الكشوفات المدعات؟
العلم الحديث: الهلوسة!
واما في العلم الحديث فان ذلك له تسميات، ومنها تسميته بمرض الهلوسة وهو مرض يرى المصاب به ما لا واقع له، وهو ناتج من اختلال في الإفرازات الكيماوية للدماغ إذ توجد في الدماغ نواقل عصبية هي عبارة عن مواد كيماوية هي الوسيط في ايصال الرسائل عبر ما يسمى بالعَصَبونات، فإذا ازدادت بعض الإفرازات الكيماوية (كمادة الدوبامين ومادة السروتونين) فانه سيرى شيئاً غير موجود ويسمع اصواتاً غير موجودة، إلى غير ذلك.
ولننقل بعض العبارات في هذا الحقل[6]، (الهلوسة حالة عقلية تجعل المصاب بها يتخيل انه يرى او يسمع او يتذوق او يشعر بأشياء لا وجود لها، وقد تشير الهلوسة إلى وجود خلل عقلي او جسماني، وقد يسمع الشخص الطبيعي اصواتا) وان لم يكن مريضا (او يرى تصورات عند حرمانه من المحفزات، في حالات الحبس الانفرادي او تحت تاثير بعض انواع العقاقير)[7] هذا نوع.
مرض الشيزوفرينيا
اما النوع الثاني المسمى بالشيزوفرينيا (وكثير من مرضى الشيزوفرينيا يظهر عليهم الوهم ويتصرفون كما لو كانوا يعيشون في عالم خيالي، فقد يسمعون اصواتا لا يسمعها الآخرون وقد يعتقدون ان هذه الاصوات تحمل رسائل من أشخاص مهمين... إلى ان يقول: وتؤدي كيمياء الدماغ الشاذة دورا ايضا، فقد لوحظ ان نسبة بعض المواد الكيماوية التي تسمى الناقلات العصبية والتي تسمح للخلايا العصبية باتصال بعضها ببعض لوحظ انها مرتفعة عند بعض المصابين بالشيزوفرينيا)[8] إلى آخر كلامه.
كما ان التغيرات العضوية في البنيان الدماغي اما بسبب الالتهابات الجرثومية او التهاب السحايا او غير ذلك قد تولد الهلوسة وشبهها.
وهذا البحث، للأسف مع شدة الابتلاء به، لم يبحث بشكل جيد لكي يُعرف ان دعاوى الكشف والشهود بإجماع الأطباء المتقدمين والجدد واجماع المتكلم والعارف والفيلسوف، قد يكون منشؤها مرضياً كغلبة السوداء في اصطلاح أولئك والإفرازات الكيماوية في اصطلاح هؤلاء، فأية حجية تبقى بعد ذلك لما يسمى بالكشف والشهود؟ وهذا مختصر القول في ذلك.[9]
ابن عربي يحتج بكلام المعتوه
ولنختم بما ينقله ابن عربي عن أحد المعتوهين والبهاليل: (وقد لقينا جماعة منهم وعاشرناهم واقتبسنا من فوائدهم) أي المجانين ثم ينقل عن احد المعتوهين - وحسب تعبيره أخيراً: المجانين الإلهيين – الذي كان في المسجد والناس من حوله وهو يقول للناس (يا مساكين انتم عمي ما تبصرون الذي أبصره انا، تقولون سقف هذا المسجد ما يمسكه الا هذه الاسطوانات، انتم تبصرونها اسطوانات من رخام وأنا أبصرها رجالا يذكرون الله ويمجدونه! بالرجال تقوم السموات فكيف هذا المسجد؟، ما ادري اما انا هو الأعمى لا أبصر الاسطوانات حجارة واما انتم العمي لا تبصرون هذه الاسطوانات رجالا... ثم استشهدني) اي استشهد ابن عربي (فقال يا شاب ألست أقول الحق؟ قلت بلى ثم جلست إلى جانبه فجعل يضحك وقال يا ناس) واستخدم ابن عربي هنا نقلاً عنه كلمة قبيحة من اقبح الكلمات ويمكن ان تطالعوها في المصدر (كذا المنتنة تصفر بعضها لبعض، وهذا الشاب منتن مثلي، وهذه المناسبة جعلته يجلس إلى جانبي ويصدقني) إلى ان يقول ابن عربي (وهو اكبر من لقيته من المعتوهين) والغريب ان هذا الكلام في كتابٍ يعده البعض حجة ويروّج له بل ويدرس الان في بعض المدارس! (كنت اذا سألته ما الذي ذهب بعقلك يقول لي انت هو المجنون حقا ولو كان لي عقل كنت تقول لي ما الذي ذهب بعقلك؟ اين عقلي حتى يخاطبك؟ قد اخذه مني) أي الله (ما ادري ما يفعل بي) ثم يقول ابن عربي ان هؤلاء المجانين قد جمع الله لهم الراحتين فلا تكليف عليهم من جهة ومن جهة ثانية هم يأكلون ويتنعمون! ويصرح بذلك فراجع، وأخيراً يقول (فقد ابنت لك حال المأخوذين عنهم من المجانين الإلهيين ابانة ذائق بشهود حاصل)[10]
وكتابه تتكرر فيه نظائر ذلك، لكن الحديث مؤلم بل ان الإنسان يشعر بان التطرق لمثل ذلك ونقل نصوص كلماتهم بألفاظها مما قد يخل بالمروة، لكن الضرورة لها أحكامها، وان هذه الكتب كالفتوحات وفصوص الحكم اذا انقل لكم ما وجدت فيهما من العجائب والغرائب، فستجدون انه من الجدير ان يشيب الإنسان إذ يسمع مع ذلك ان البعض يدعو له ويروج له، وللحديث صلة.
وصلى الله على محمد واله الطاهرين
[1] - بحار الأنوار ج58 ص209 كتاب السماء والعالم -
[2] الفتوحات المكية ج1 ص303آخر الباب الرابع والأربعين
[3] شرح فصوص الحكم ج1ص121
[4]- الأسفار الجزء الثاني من السفر الثالث ج7ص176 الفصل 19في ذكر عشق الظرفاء والفتيان للأوجه الحسان
[5] - كما تظهر صراحة ذلك من حاشية السبزواري أيضاً على هذا الموضع من الأسفار فلاحظ وتدبر.
[6]- وهذه الأمور تعد من مسلمات الطب الحديث كما هي من مسلمات الطب القديم بالإضافة إلى ان الفيلسوف والعارف يعترف بها والمتكلم أيضاً.
[7] - الموسوعة العربية العالمية ج26 ص115.
[8] - الموسوعة العربية العالمية ج14 ص305.
[9]- والمرض لا يعرف المفكر وغيره، وقد نقلت كلمات لعارف وفيلسوف ومتكلم وأطباء، ونفس ملا صدرا يذكر ذلك: ان كثرة التفكير قد تورث هذا المرض فكيف نعتمد على كشفه, نعم نقارعه الحجة بالحجة إذا استدل ببحث، عقلي أما ان يبني الحكمة المتعالية على الكشف والشهود فهذا امر غريب!
[10] - الفتوحات المكية ج1 ص301 – 302.
|