بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على محمد وآله الطيبين الطاهرين سيما خليفة الله في الأرضين، واللعنة الدائمة على أعدائهم أجمعين، ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم
ملخص ما تقدم
كان البحث حول الاجتهاد وحول العلم في أصول الدين، وان الشارع قد ذكر لهما ضوابط كما تقدم، وحدد للعلم طرقا وللاجتهاد موازين وليس من الطرق: الكشف والشهود، وذكرنا من الأسباب ان الكشف والشهود قد يكون شيطانيا باعترافهم وقد يكون ناتجاً من مرض يسمى الماليخوليا وباعترافهم ايضا، وقد يكون وليد المعتقدات والمرتكزات الفكرية بتصريح بعضهم، كما نقلنا كلام ملا صدرا عن ذلك أيضا، كما انه قد يكون وليد القوة المتوهمة وقد يكون بفعل القوة المتخيلة، وقد يكون لغير ذلك، وتحدثنا عن نقاط ثلاثة من هذه العوامل ونترك تحقيق البقية عليكم كي لا يطول البحث.
لا ضابطة نوعية يرجع إليها لتمييز الخطأ في (الكشف) من الصواب
اما مبحث اليوم فهو ان مما ذكرنا من الإشكالات عليهم انه أ - لا ضابطة نوعية للكشف، يرجع إليها لمعرفة الخطأ من الصواب وتمييز الحق من الباطل ب- ولا ضابطة يحتكم إليها لتمييز الصحيح من الخطأ من أنواع الكشف، وذلك على العكس من سائر العلوم فان لها ضابطاً مرجعياً هو (المنطق) فان الشخص إذا شكل قياسا وأراد ان يرى صحته من سقمه فانه سيرجع إلى الضوابط المنطقية من الأشكال الأربعة أو عكس النقيض أو العكس المستوي أو غير ذلك، وكذلك في البناء يوجد مقياس اسمه (الشاقول) وهكذا في كل العلوم التكوينية التي ترتبط بالتكوين أو التي ترتبط بالتشريع فان لها مقاييس، ومنها: (الميزان) لوزن الأشياء و(المسطرة) لتحديد أطوال الخطوط، اذن كل شيء له مقياس، اما الكشف والشهود فلا مقياس مرجعي لهما على التحقيق.
لكنهم ذكروا بعض المقاييس وسوف نقتصر على أقواها ونترك تحقيق البقية عليكم؛ لأن هذا البحث يستدعي أشهرا ومقصودنا هنا مجرد إشارات وفتح الطريق لسائر المحققين، وإكمال تحقيق بعض المحققين.
(المرشد) هو أقوى ضابط ذكروه لتمييز الكشف الرحماني من الشيطاني
وأهم ضابط ذكروه والتزم به الصوفية والعرفاء على مر التاريخ بل يعتبرونه الضابط الأول والأساس، هو (المرشد) وقد بنوا عليه كشوفاتهم إذ اعتبروه المرجع في تحديد الكشف الصحيح من السقيم كما بنوا عليه حياتهم العملية في أورادهم، و من عباراتهم:
ما ذكره (القيصري) في شرح فصوص الحكم: (ما يرى في اليقظة) وليس ما يرى في المنام فقط (ينقسم إلى امور حقيقية محضة واقعة في نفس الامر، والى امور خيالية صرفة لا حقيقة لها، شيطانية، وقد يخلطها الشيطان بيسير من الأمور الحقيقية ليضل الرائي) إذن هذه معضلة حقيقية للكشف لا بد من حل مرجعي لها، فما هو المرجع؟ (لذلك يحتاج السالك إلى مرشد يرشده وينجيه من المهالك)[1] المهالك الفكرية والاعتقادية والكشفية الشيطانية وغيرها، نقول:
1- هذا الضابط ليس بضابط
أولا:هذا الضابط غير ضابط وهذا المقياس ليس بمقياس وهذا المرجع ليس بمرجع، لأن كل ما بالعرض ينبغي ان ينتهي إلى ما بالذات كي ينتج وإلا لبقي على حالته الأولية من كونه غير منتج، أو صفراً أو عدماً محضاً، توضيح ذلك: انه عند القول بان الظواهر حجة (مثل العام والمطلق وظهور اللفظ في المعنى الحقيقي دون المجاز) لا بد من الاستدلال على حجيتها بدليل، والدليل على حجية الظواهر لو لم يكن حجة للزم اما الدور أو التسلسل، فلو استدللت على حجية العام بعام اخر وبأصالة الحقيقة على أصالة حقيقة أخرى فانه دوري أو متسلسل أو منقطع غير منتج، لذا نجد ان الأصوليين لم يستندوا في حجية الظواهر إلى الظواهر بل إلى النصوص القطعية الدلالة أو إلى بناء العقلاء القطعي، إذ لو استندوا إلى الظواهر لورد الإشكال عليهم، وكذلك الحال في حجية رأي المجتهد فانه لا يصح ان نحتج على حجيته برأي مجتهد اخر؛ إنما نحتج بالكتاب (كـ: (فَاسْأَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ)، (لِيَتَفَقَّهُوا فِي الدِّينِ)) لأن الكتاب حجيته ذاتية لأنه ثبت بالإعجاز انه من الله، ونرجع إلى الروايات الصريحة الدلالة المتواترة او الصحيحة السند، أو بناء العقلاء القطعي على الرجوع إلى اهل الخبرة في كل حقل.
والحاصل: ان من البديهي ان ما بالعرض لابد ان يرجع إلى ما بالذات، ونحن نسأل: العارف الذي يعترف بان هذا السالك أمامه طريقان ونوعان من الكشف: (كشف شيطاني ورحماني) فنقول: ان من حصل له الكشف فانه قاطع في الصورتين لأنه كشف له الغطاء بزعمه، فأرجعته كضابط مرجعي إلى (المرشد) لكن الكلام الكلام إذ ما هو وجه حجية كشف المرشِد وقوله؟ فيتسلسل أو يدور أو ينقطع فلا حجية له. بعبارة أخرى: نسأل هذا المرشد هل هو معصوم؟ فإن أقمتم دليلاً على ان ابن عربي او المرشد الصوفي في أي بلد كان، معصوم، بالإعجاز أو بنص النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) على عصمته فالأمر صحيح، لكن الفرض انه ليس بمعصوم وانه لا دليل على عصمته بل الدليل على العدم فإذا لم يكن معصوما فالكلام فيه الكلام في المرشَد، فان المرجع ونفس الراجع اليه سيان إذ من أين ان هذا المرشِد كشفُه رحماني فلعله من الشيطان لاستدراجه؟.
اذن هذا الضابط ليس بضابط إلا أن تعيده لذاتي وهو إثبات العصمة لمتصوفتكم أو نص المعصوم على عصمتهم فنقول ما الدليل؟ هذا أولاً[2].
2- إذا كان إبراهيم النبي يخطئ في كشفه بزعمهم فما بالك بالمرشد؟
ثانيا: وهذا أعظم، فإنهم يقولون ان أنبياء الله العظام، كالنبي إبراهيم عليه وعلى نبينا واله الصلاة والسلام مثلا قد يخطأ في كشفه، فكيف بابن عربي وأشباه ابن عربي، فأي ضابط هذا؟، وسننقل كلام ابن عربي والقيصري الذي يصرح فيه بان النبي إبراهيم على عظمته بنفسه قد اخطأ في كشفه، فأية مرجعية تبقى للمرشد وهو ليس بنبي؟ وخلاصة كلامه ان الأنبياء والكمل كشفهم قد يكون عبر اشراق نفس العارف على عالم المثال المطلق فكشفه يكون عندئذٍ صحيحاً، تارة كشفه يكون عبر إشرافه على العالم المقيد) ومن هنا ينشأ الخطأ، وهذا منشأ اخر لخطأ الكشف والشهود، لكن النبي إبراهيم (عليه السلام) - بزعمهِ - اختلط عليه الأمر، فعندما (إِنِّي أَرَى فِي الْمَنَامِ أَنِّي أَذْبَحُكَ) فان إبراهيم توهم – بزعم ابن عربي - انه رأى ذلك في عالم المثال المطلق فتصور ان الصورة هي طبق الواقع وتعكسه تماما ولا تغيير فيها أو تحريف، لكن واقع الأمر – حسب رأي ابن عربي والقيصري -: ان إبراهيم شاهد ذلك (أي انه يذبح ابنه) في عالم المثال المقيد، وهنا: الصور لا تطابق الواقع والمتصور، فمن هنا اخطأ إبراهيم ونقول: إذا كان إبراهيم النبي يخطئ في كشفه فكيف يصح كون (المرشد) هو الضابط؟ فكيف بابن عربي؟ قال القيصري في شرح فصوص الحكم[3] (لأن الأنبياء والكمل أكثر) لاحظوا انه لا يقول دائما (ما يشاهدون الأمور في العالم المثالي المطلق، وكل ما يرى فيه لابد ان يكون حقا مطابقا للواقع فظن) أي إبراهيم (انه شاهد اني أذبحك في عالم المثال المطلق فلم يعبر رؤياه) أي لم يفسر الرؤيا بل أبقاها على ظاهرها من ذبح ابنه حقيقة، وذلك لأن الرؤيا ينبغي ان تفسر على خلاف ظاهرها،[4] أي التعبير يعني ان تعبر من هذه الصورة إلى واقع اخر، فعلى زعمه فان إبراهيم اختلط عليه الأمر في كشفه فظن انه شاهد في العالم المطلق فأبقاها على ظاهرها ولم يعبرها (أو ظن ان الحق أمره بذلك) ثم يقول بعد ذلك (فظهر له في صورة إسحاق) وهذا إشكال ثاني إذ ظاهر القرآن الكريم ان الذبيح هو إسماعيل، والتاريخ يشهد ان إسماعيل هو الذي جاء مكة وان إسحاق تاريخيا لم يأت مكة، لكن ابن عربي (كشف) له أن الذبيح إسحاق!، ثم يقول (ففداه ربه من وهم إبراهيم بالذبح العظيم الذي هو تعبير رؤياه عند الله وهو لا يشعر أي أظهر ربه ما كان المراد عنده، هو الذبح العظيم الذي صوّره خياله بمشاركة الوهم بصورة إسحاق) اذن (الوهم) تدخل في كشف إبراهيم، (وإبراهيم لا يشعر بان المراد ما هو) إلى أن يقول: (فمن عرف المناسبات بين الصور ومعانيها وعرف مراتب النفوس... يعلم علم التعبير كما ينبغي) وإبراهيم إذن لم يكن يعرف المناسبات ولا مراتب النفوس لذا لم يعلم علم التعبير كما ينبغي!، إلى ان يقول (وصوّر الخيال ابن إبراهيم لأن المراد في الصورة الخيالية ما يظهر بها من المعاني لا بتلك الصور) ثم يؤكد للمرة الرابعة أو الخامسة حتى لا يقال انها غلطة مطبعية! (لأن الحق يعلم ان موطن الخيال يطلب التعبير فغفل أي إبراهيم فما وفى الموطن حقه وصدق الرؤيا لهذا السبب!) إلى اخر كلامه.
فاذا كان إبراهيم وهو من أعظم الأنبياء قد يتدخل الوهم في كشوفاتهم وقد يغفلون عن خطأهم فكيف يكون المرشد مرجعا وضابطاً؟.
إبراهيم النبي يخطئ أما ابن عربي فلا يخطئ!
والغريب: ان هؤلاء يقدسون عرفاءهم أكثر مما يقدسون الأنبياء (إذ ان ابن عربي والقيصري يصرحان بان إبراهيم غفل وتوهم في كشفه لكن ابن عربي – بتصريح بعض أكابرهم - لا يخطئ في كشفه ولا في كلامه الوارد في كتابه أبداً؟ فلا ابن عربي يخطئ ولا عمر يخطئ لأن عمر معصوم حسب صريح كلام ابن عربي في الفتوحات[5] وهذا – عصمة عمر - ما لا يقوله علماء المخالفين! لكن إبراهيم النبي يخطئ!
ولنقرأ الآن تصريح (الجامي) وهو من أكبر العرفاء، في تقديسه المطلق لابن عربي حتى إيصاله لمرتبة العصمة! وذلك ان بعض الأفاضل في تعليقته على كلام ابن عربي قال: (حاشا من اعطي الخلة) لأن إبراهيم خليل الرحمن (عن مثل هذا الخطأ) فهذا الفاضل يدافع عن إبراهيم بما دافع به الشيخ الطوسي في التبيان إذ يقول ان (أرى في المنام أني أذبحك) فيها وجوه الوجه الأول انه رأى مقدمات الذبح فامتثل ولم ير نفس الذبح، وهذا الفاضل يتبنى نفس الرأي ويدافع عن إبراهيم وانه لم يخطئ في كشفه بل انه رأى مقدمات الذبح من وضع السكين على عنقه وشبهه ثم انتظر امر الله، ولم ير أكثر من ذلك، ولكن الجامي – وتبعه صائن الدين - وهو من أكابر العرفاء يعترض على هذا الفاضل ويقول له أنت تخطِّئ ابن عربي مع ان لأبن عربي من المقامات ما له؟، فان يكون إبراهيم مخطأً لا مشكلة لكن أن يخطئ ابن عربي، حاشا وكلا! (قال مولانا الجامي: العجب من هذا الفاضل بل من كل معترض على الشيخ في هذا الكتاب فان ما ذكره الشيخ في مفتتح كتابه من مبشرة أُرِيَها) لأن ابن عربي ادعى انه في المنام رأى الرسول فسلمه الكتاب فكل ما فيه حجة بقول مطلق، اما إبراهيم فكشفه قد يكون مخطئاً؟ وهذا هو الجامي وهو من اكبر علماء الصوفية وهذا احتجاجه! (وان ما أورده في هذا الكتاب هو ما حده له رسول الله من غير زيادة ولا نقصان)، إن كان مسلّماً عنده فلا مجال للاعتراض عليه) وليس له تخطئة ابن عربي وإن خطّأ ابن عربي إبراهيم النبي!، وهذا هو التقديس الأعمى المطلق الذي من عادة الصوفية والعرفاء البناء عليه (فان ذلك يعود إلى النبي) اي تخطئة إبراهيم النبي، فان مخطِّئه – على هذا – لدى التحقيق هو نفس النبي (صلى الله عليه وآله وسلم)! (وان لم يكن مسلما عنده) رؤيا ابن عربي وكشفه (بل اعتقد ان ذلك افتراء وكذب أو سهو وخطأ فالاعتراض عليه ذلك لا هذا، وكيف لا يسلم[6] من اطلع على أحواله ومقاماته ومكاشفاته مما أدرجه[7] في هذا الكتاب وسائر مصنفاته)، اذن كلام ابن عربي وكشوفاته المذكورة في (الفتوحات) أو (الفصوص) كلها صحيحة مائة بالمائة وقد تضمنت تخطئة إبراهيم النبي في كشفه، فإبراهيم إذن مخطئ غافل متوهم اما ابن عربي فمعصوم – في كتابه هذا على الأقل - بقول مطلق، وللحديث صلة.
وصلى الله على محمد واله الطيبين الطاهرين
[1] - شرح فصوص الحكم للقيصري ج1 ص123.
-[2] توضيح من السيد الأستاذ دام ظله: قالوا ان السالك الذي يُحتمل واقعاً ضلاله وان ما شاهده هل هو كشف رحماني او شيطاني، عليه ان يرجع في تمييز ذلك إلى مرشده، ونقول هل المرشِد بنفسه معصوم او لديه نص من المعصوم على ان كشفك هذا رحماني؟ فليس عند السالك ضابط نوعي بل المرجع هو المرشد، فإذا كان المرشد معصوما فنقبل به, لكن ما الدليل؟ لا دليل، نعم لو دلت الآيات أو الروايات اما بالعموم على ان الكشف حجة ولو كان حجة لما لزم رجوع المنكشف له إلى مرشِد او بالخصوص على ان كشف ابن عربي حجة فنقبل كما نصت الآية على نبي الله إبراهيم ( وَكَذَلِكَ نُرِي إِبْرَاهِيمَ مَلَكُوتَ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ وَلِيَكُونَ مِنْ الْمُوقِنِينَ).
والحاصل انهم يقبلون ان كلي الكشف على أنواع فمنه رحماني ومنه شيطاني لكن كيف نميز ونحدد المصداق؟ انتم تقولون المرجع هو الشخص (أي شخص المرشِد) فيرجع الكلام إليه وانه هل هو معصوم فنقبله لكن لا دليل على عصمته بل الدليل على العدم، فهذا الشخص الذي يشخص المصداق وانه يندرج في أي كلي: شيطاني او رحماني إذا كان قد منح الحصانة من المعصوم - كما نص الرسول (صلى الله عليه وآله وسلم) على عصمة الأئمة عليهم السلام - فنقبل وإلا فلا فرق بين السالك والمرشِد
ان قلت ان الضابط هو القطع قلت: هذا ضابط اخر وليس محل الكلام الآن وهو ليس بضابط إذ ان عابد البقر أيضاً قاطع والملحد قد يكون قاطعاً وكذا المسيحي واليهودي كما ان السالك قاطع والمرشد قاطع باعتبار ان الكشف هو حضور او الهام فلا يحتمل كونه مخطئاً, وسيأتي تفصيله.
[3] - شرح فصوص الحكم ج1 565 – 571 مبحث فص حكمة حقية في كلمة اسحاقية
[4]- كما ينقل ان شخصا سأل ابن سيرين: انه رأى نفسه في المنام واقفاً في طريق ضيق وهو يمنع الناس من المرور والدخول فما تفسير ذلك؟ فقال له انتظر وبعث شخصا ليأتي بالشرطة واخبرهم انه قاتل الاطفال – إذ تكرر خنق أطفال عديدين في ذلك البلد وكان القاتل مجهولاً - ففي الواقع عبّر وقوفه في الطريق ومنع الناس من المرور بمنع مجرى النفس في الأطفال. وكان كذلك
[5] - الفتوحات المكية ج1 ص246.
[6] - أي كيف لا يسلِّم بصدق ابن عربي.
[7] - وأية حجية لدعوى الشخص نفسه، بكرامات له! وقد ملأ ابن عربي فتوحاته بالكثير من كراماته!
|