بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على محمد وآله الطيبين الطاهرين سيما خليفة الله في الأرضين، واللعنة الدائمة على أعدائهم أجمعين، ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم
ملخص ما تقدم
كان البحث حول ان الكشف والشهود ليس من الطرق الممضاة شرعا في أصول الدين ولا حجية له بما مضى من الأدلة، إلى ان وصلنا إلى المثل النورية التي آمن بها صدر المتألهين تبعا لما نسبه إلى أفلاطون، وهي غير تامة كما سبق.
تلخيص وتتمة البحث السابق
ونعيد بشكل موجز صياغة الإشكالات مع بعض الإضافة, فنقول:
أولاً: المثل الأفلاطونية أو المثل النورية او أرباب الأنواع، لا دليل على ان أفلاطون وصحبه قد قالوا بها؛ اذ الترجمات غير مأمونة[1].
ثانيا: انه لو فرض ان أفلاطون قد قال بها مع جمع فإن هؤلاء معدودون لا يتجاوزون أصابع اليدين وهم الذين ادعى اتفاقهم، والإجماع ليس حجة في الشرعيات إن كان مستنداً أو محتمل الاستناد، على ما لعله المشهور، أما في العقليات فليس بحجة، ثم انه حجة لو اجمع القوم بالفعل لا ان الأقلية بل الأقلية من الأقلية ذهبوا إلى شيء.
ثالثا: ان هذا الاتفاق على فرضه، مخالف للوجدان اذ اننا بالوجدان وبالضرورة والبداهة ندرك اننا شيء واحد ولسنا وجودات ثلاثة .
رابعا:وهو مفتاح لبحث جديد نشير له ونرجعكم للمصادر,فنقول انه من الثابت علميا والمصرح به في كلامهم: ان النفس اذا كانت قوية فأنها تكون قادرة على انشاء الصور وعلى انشاء الحقائق، وهذا ما نلزمه إياهم بكلامهم.
ملا صدرا عن ابن عربي: ان العارف يخلق بالهمة أشياء واقعية...
ويدل عليه: ان صدر المتألهين يقول في الأسفار[2] نقلا عن ابن عربي ثم يرتضي قوله: (بان العارف يخلق بالهمة) أي بعلو همته (ما يكون له وجود من خارج محل الهمة) أي أنه يخلق بسبب همته – وقدرته – أشياء يكون لها وجود واقعي خارج محل الهمة أي خارج الخيال الذي لنفسه احترازا عن أصحاب السيمياء والشعبذة.
كما ان صدر المتألهين في كتاب (المبدأ والمعاد) يصرح[3] بأن النفس قادرة على اختراع الصور والموجودات الخارجية ثم يقسم خلق النفس إلى ثلاثة اقسام فأن كان ما تخلقه مطابقا للمبادئ العالية فحق ووحي صريح وان كان مختلفاً عنه بعض الاختلاف اي فيه نوع من التشويه أي تصرف النفس فيحتاج إلى تعبير، والصورة االثالثة ان تخلق شيئا خارجيا لا يطابق ما في العلم العلوي بالمرة اي شيئا مختلقا أي كاذبا (فيكون من دعابة النفس بواسطة قوتها وعدم استقامتها)، اذن هم يعترفون بان النفوس القوية تخلق أشياء فإذا كان كذلك فان عقدة كثير من المنامات والكشوفات تنحل ومنها كشوفات العرفاء والفلاسفة فإن من ادعى منهم مشاهدة المثل النورية فانه ربما كان من كثرة تفكيره بالمثل النورية فتجسد أمامه مثال نوري تصوره هو رب النوع، لكن واقع الأمر حسب التحليل السابق ان هذا صنع القوة المتخيلة اذا كان صورة او المتوهمة اذا كان معنى، حسب تفريقهم, لكن الوجه الجديد يوصلنا إلى ان النفس قد خلقت بالفعل شيئا نوريا معلقا في السماء مثلاً فيتصوره رب النوع ولا يدري انه هو الذي خلقه. وههنا كلام مفصل لكن نكتفي ههنا بهذا المقدار ولعله اذا عدنا إلى بحث حجية المنامات نتوقف عنده اكثر.
الاجتهاد الفلسفي والعرفاني يؤدي الى مخالفة الفطرة والوجدان والعقل وكافة الأديان
في ختام البحث نقول:ان الاجتهاد الفلسفي والعرفاني انتهى وينتهي في الكثير من الأحيان إلى ما أ- يخالف الأديان كافة ب - ما يخالف الوجدان وج- ما يخالف الفطرة ود- ما يخالف صريح العقل وحتى هـ - ما يخالف الكشف بنفسه في الجملة، فلا يمكن والحال هذه الاعتماد عليه، فهو كالقياس بل أسوء لأن القياس يخالف الشرع لكنه بالنظرة المبدئية لا يخالف العقل وان كان العقل عندما يعود للشرع يجد ان القياس لا يمكن الاعتماد عليه لأن ملاكات الشارع ليست بأيدينا، اما الكشف والشهود والاجتهاد الفلسفي والعرفاني فهو مما يؤدي إلى ما يخالف ضرورة الأديان والوجدان والعقل والفطرة فكيف والحال هذه، يعتمد عليه؟.
كلام ابن عربي والقيصري عن ( وحدة الوجود والموجود( وان عبادة (العجل) هي عبادة الله!
ولننقل عبارة لأبن عربي ينقلها القيصري في شرح الفصوص ثم يشرحها[4], ومحور البحث هو ان موسى أخذ بلحية هارون – كما في الآية الشريفة - وأخذ يجره إليه احتجاجا عليه: انه لِمَ لَمْ تردع قومك عن عبادة العجل، فيقول ابن عربي (وكان موسى اعلم بالأمر من هارون لأنه علم ما عبده أصحاب العجل) فيشرح القيصري (أي علم موسى ما الذي عبده اصحاب العجل في الحقيقة) فانهم عبدوا الله! نظراً للقول بوحدة الوجود بل الموجود! فحسب كلامه - كما سيأتي تصريح أوضح منه - ان من يعبد البقر فهو عابد لله، ومن يعبد الحجر فهو عابد لله، والحاصل: ان قوم موسى (جماعة هارون) عبدوا الله المتجسد بشكل العجل، والعياذ بالله، فيقول ابن عربي (لعلمه بان الله قضى ان لا يعبد إلا إياه) ولاحظ التفسير بالرأي والتحريف في تفسير الآية الشريفة فان الاية في مقام الحكم والقضاء التشريعي فحملها على القضاء التكويني!, والآية تعني ان الله حَكَم تشريعاً بانه لا يجوز لكم شرعا عبادة غيره اما ابن عربي فيقول هذا قضاء تكويني وهذا يعني انه اجبر وألزم تكوينا فلا يمكن لأحد ان يعبد غير الله!، فلا يقال هؤلاء عبدوا العجل؟، إذ يقول ابن عربي: العجل هو نفس الله!، لأن الكل مجبر تكوينا بطاعة الله، فكل من يعبد أي شيء فهو عابد لله ولا يعقل ذلك إلا لو كان كل معبود (من بقر وعجل وحجر وصنم) هو عين الله!، ونص عبارته (لعلمه بان الله قد قضى ان لا يُعبد الا اياه كما قال تعالى: (وَقَضَى رَبُّكَ أَلاَّ تَعْبُدُوا إِلاَّ إِيَّاهُ) وما حكم الله بشيء الا وقع) إذن هو يراه حكماً تكوينياً لا تشريعياً, وهنا قد يسأل: اذن لماذا عتب موسى على هارون؟ فيقول(فكان عتب موسى اخاه هارون لمـّا وقع الامر، في انكاره) اي يعتب على هارون لأنه انكر عليهم عبادتهم للعجل! سبحان الله وتنزه، أنظروا كيف يقلب الأمر تماما وأن موسى يعتب على هارون بـ: لماذا أنكرت عليهم عبادة العجل ولم يتسع صدرك لعبادتهم العجل؟, وهذه عبارة الفصوص، والشارح يؤكد ذلك: (أي كان عتب موسى أخاه لأجل إنكاره عبادة العجل) وماذا يعني قلب الحقائق غير ذلك؟ وان الليل هو نهار والأسود هو ابيض فهذا هو العلم المسمى بالعرفان! فهل هذا العلم الذي يناقض البداهة والضرورة ويقلب الحقائق بوقاحة يصلح ان يروج له؟ بل هل يجوز ان يروج له؟ (وعدم اتساعه) أي عدم اتساع قلب هارون لعبادة هؤلاء للعجل! ثم يؤكد ابن عربي (فان العارف من يرى الحق في كل شيء) فيرى الله في البقر والحجر وفي أصنام مكة التي حطمها رسول الله صلى الله عليه واله (بل يراه عين كل شيء) وهذه عبارة صريحة وأكثر من صريحة، وهي عبارات يتلو بعضها بعضا ويؤكد بعضها بعضاً (بل يراه عين كل شيء) فالله – ونستغفر الله حتى من نقل كلامهم - عين الحائط وعين هذا البشر.
نقول: اذن ما الذي أنكرناه على المسيحيين؟ بل هم أهون حالا من هؤلاء؛ فالمسيحي يقول هناك ثلاثة آلهة: الله الأب، والابن، وروح القدس، ويرونها واحدة في ثلاثة فهذا هو التناقض الذي نستشكله عليهم فانهم يقولون بـ(الوحدة في عين الكثرة والكثرة في عين الوحدة) فهذا ما يقوله المسيحي، ونحن ننقم عليهم لذلك والله تعالى وصفهم بالمشركين لأنه قالوا واحد يعني ثلاثة وثلاثة تعني واحداً، ولكن هذا الرجل – ابن عربي – يقول: الواحد يعني المليارات والمليارات تعني الواحد فعنده كل شيء هو الله, والله في كل شيء بل عين كل شيء، فأين المسيحي المسكين من ابن عربي المستكين إلى كلام الشيطان وإبليس؟
بل لعل إبليس حتى في المنام لم يكن يرى هذا الوجه الغريب من تزوير الحقائق وإلباسها هذا اللباس ببيان ملوّن مزوّق مطوّر.
تصريح ملا صدرا بوحدة الوجود والموجود
اذن الأمر واضح كالشمس في رابعة النهار، وقد نقلنا بعض العبارات فقط، والعبارات مثلها بالعشرات وهنا نقول: حسنا كبار العرفاء كابن عربي والقيصري والجامي والقاساني هذا هو مشربهم، لكن هل ملا صدرا أيضا كذلك؟ الجواب نعم، فانه في الأسفار يلتزم بذلك لكن بعبارة معقدة أكثر، حسب كلام بعض أهل الخبرة فان الفلاسفة والعرفاء من كان منهم شجاعا فانه يصرح بباطله، ومن لم يكن شجاعا فانه يلف ويدور أي يذكر مطالبه في استار، ومنهم صدر المتألهين حيث يقول في موارد عديدة من الأسفار وغيره: ان المعاني الدقيقة يسربلها بأستار كي لا تنفر منها النفوس! فاذا اعترض عليه أحد يقول ليس مقصودي هذا بل شيء اخر، لكن مع ذلك فالعبارات صريحة يقول[5] (فكما وفقني الله تعالى بفضله) أعظم التوفيق بان اكتشف ان كل شيء هو عين الله! (ورحمته الاطلاع على الهلاك السرمدي والبطلان الأزلي للماهيات الامكانية والاعيان الجوازية، فكذلك هداني بالبرهان النيّر العرشي إلى صراط مستقيم من كون الموجود) أنا وأنت والحائط و... (والوجود) إذن هو وحدة موجودي وليست وحدة وجودي فقط (منحصراً في حقيقة واحدة شخصية) وما أصرح هذه العبارة؟ لأن الوحدة اما جنسية اي بالجنس كالحيوان كزيد وهذا البقر فان جنسهما واحد، وقد تكون الوحدة نوعية كزيد وعمر فوحدتهما بالنوع، اما الوحدة الشخصية فانني انا مثلاً واحد بالشخص، فملا صدرا لكي يقطع توهُّم ارادتِهِ الوحدة المفهومية او الوحدة الجنسية، يقول الموجود والوجود منحصر في حقيقة واحدة شخصية! وهذا هو الكفر الصريح المحض الذي يدرس في بعض الأماكن ويتبجح به، ثم يكمل (لا شريك له) وهذا تأكيد بعد تأكيد (في الموجودية الحقيقية، ولا ثاني له في العين) بل وجود واحد طبّق الأفاق (وليس في دار الوجود غيره ديار) فهناك وجود واحد شخصي وهو الساكن في الكون أي هو الكون كله أي هو كل الوجود وكل الموجود... ويقول بعد صفحتين (فكل ما ندركه) السموات, السحب، البحار, الأسماك والبشر و... (فهو وجود الحق في أعيان الممكنات فمن حيث هوية الحق هو وجوده، ومن حيث اختلاف المعاني والأحوال المفهومة منها المنتزعة عنها، بحسب العقل الفكري والقوة الحسية، فهو أعيان الممكنات الباطلة الذوات) إذن الاختلاف مفهومي فقط! أما المصداق – وهو المساوق للوجود والوحدة والتشخص – فواحد!) إلى ان يقول (واذا كان الأمر على ما ذكرته لك فالعالم متوهّم) فما نراه خيال والواقع هو الله فقط ويقول في الأسفار[6]" كل ما في الكون وهم أو خيال أو عكوس في المرايا أو ظلال" (فالعالم متوهم ما له وجود حقيقي، فهذا حكاية ما ذهبت إليه العرفاء الإلهيون والأولياء المحققون)! ومن ذلك كله – وغيره مما هو أكثر منه – نعرف ان الاجتهاد الفلسفي والاجتهاد العرفاني مما يوقع في العظائم واشد الجرائر والجرائم، فكيف والحال هذه يرضى عقل الإنسان وضميره وكيف تطيب نفسه بان تعتبر هذه الكتب او هذه الشخصيات محورية ذات قيمة في سماء العلم والعرفان، وهم يقولون ما يقولون سبحانك هذا بهتان عظيم.
كلمات أخرى لهم
والحديث مطول وفي القلب جراحات وآهات من كلمات هؤلاء حيث يطعنون في أقدس المقدسات وهو الله جل وعلا
ولنختم بذكر ما يقوله في الفتوحات[7] (أما وصفه)أي الله(بالغني عن العالم، إنما هو لمن توهم ان الله تعالى ليس عين العالم) اي هذه العبارة لا يطلقها إلا الناس الجهلة وهم الذين لا يعلمون ان الله عين العالم، اما من يعرف ان الله عين العالم فلا يصح هذا الوصف منه! وهناك عبارات أخرى كثيرة منها ما يقوله القيصري (انا واعيان العالم عين الله)
نسأل الله سبحانه وتعالى لنا ولكم ان يجعلنا من المحامين عن الفطرة ( فِطْرَةَ اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا) وعن العقل الصريح المحض، وعن الوجدان والضمير الحي اليقظ، وعن شرائع الأنبياء والمرسلين خاصة شريعة سيد الأنبياء المقربين المصطفى محمد صلى الله عليه واله وسلم.
وصلى الله على محمد واله الطيبين الطاهرين
[1] - إضافة إلى ما سبق من ان ملا صدرا ثبت انه أحياناً لا يراعي الأمانة العلمية والموضوعية في نقله، كما شهد بذلك الشيخ المطهري.
[2]- الاسفار ج1 ص267
[3]- المبدأ والمعاد الفن الثاني/ المقالة الرابعة/ فصل 3 في معرفة سبب العلم بالمغيبات في اليقظة ص791- 792.
[4] - شرح فصوص الحكم / فص حكمة إمامية في كلمة هارونية ص1230.
[5]- الأسفار ج2 طبعة دار احياء الكتاب العربي في فصل25 في تتمة الكلام في العلة والمعلول وإظهار شيء من الخبايا ص292.
[6]- الأسفار ج1 ص 47.
[7]- الفتوحات الباب 470 ج4 ص102 |