بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على محمد وآله الطيبين الطاهرين سيما خليفة الله في الأرضين، واللعنة الدائمة على أعدائهم أجمعين، ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم
ملخص ما تقدم
كان البحث حول الاجتهاد في اصول الدين وذكرنا ان اصول الدين مصطلح ورد في الروايات، لكن المشكلة ان الروايات فيما وجدنا لم تذكر تعريفا بحد او رسم ناقصين او تامين لأصول الدين بل انتهجت منهج التعريف بالمصاديق، وعندما نلاحظ الروايات نجد ان المصاديق المذكورة من حيث جامعها وطوائفها مختلفة وقد اشرنا إلى ذلك في ما تقدم.
طوائف الروايات التي نقلها الشيخ الأنصاري في الرسائل[1]
اما مبحث اليوم فنوسع دائرة الاشكال الظاهري اولا, ثم نبحث عن الحل باذنه تعالى، وسنقتصر هذا اليوم على الروايات المذكورة في (الرسائل)
أ - (أدنى ما يكون به العبد مؤمنا)
إذ ينقل الشيخ الانصاري أولاً ما تضمن مصطلح (ان أدنى...) وهي رواية سليم بن قيس عن امير المؤمنين (عليه السلام) حيث يقول (ان ادنى ما يكون به العبد مؤمنا) وذكرنا ان هنا بحثا حول ان هذا المصطلح هل يساوي مصطلح اصول الدين، ام النسبة بينهما من وجه ام هي عموم وخصوص مطلق، هذا بحث، ونضيف: ان هذه المصطلحات الثانية ايضا، ظاهرا، مختلفة من حيث طوائف المصاديق التي تذكرها.
(ان يعرِّفه الله تبارك وتعالى اياه فيقر له بالطاعة، فيعرِّفه نبيه فيقر له بالطاعة، فيعرّفه امامه وحجته في ارضه وشاهده على خلقه فيقر له بالطاعة، فقلت يا امير المؤمنين وان جهل جميع الاشياء الا ما وصفت؟ قال: نعم) اذن (المطلع) فيه شاهد: (ان ادنى ما يكون به العبد مؤمنا) و(المنتهى) فيه شاهد اخر: انه لو لم يعلم اي شيء غير هذه الثلاثة فانه رغم ذلك مؤمن، فهل هذه اخص من اصول الدين او نسبتها من وجه كما هو المحتمل وهذا بحث يحقق لاحقا, وهنا كلام كثير حول هذه الرواية نقتبس من ذاك الكلام كلمة وهي؛ ان ظاهر الرواية ارادة اصول المذهب وليس اصول الدين ان قلنا ان اصول المذهب اخص مطلقا من اصول الدين[2] اما لو قلنا كما قال البعض بالتساوي بينهما (ومنهم االعلامة المجلسي ومنهم جملة كبيرة من الاعاظم وفي الجواهر يحكي الاجماع على ان منكر الولاية كافر[3]) وان اصول المذهب ومنها الولاية هي اصول الدين, فالمهم الآن ان هذه الرواية تتحدث عن هذه الاصول وان قوام الدين بها، ولعل ظاهرها اصول المذهب وانها هي اصول الدين، بقرينة ذيلها. فتأمل
ب – (دعائم الإسلام)
الروايات الأخرى التي نقلها الشيخ هي المتضمنة لمصطلح (دعائم الاسلام) ومنها صحيحة ابي اليسع المتضمنة لمفردة دعائم الاسلام
ج – (ما لا يسعهم جهله...)
واما الطائفة الأخرى مما نقله الشيخ فهي ما تضمن مصطلح (ما لا يسعهم جهله ولا يقبل منهم غيره) ففي رواية ابي بصير عن ابي عبد الله عليه السلام قال: جعلت فداك أخبرني عن الدين الذي افترضه الله على العباد ما لا يسعهم جهله ولا يقبل منهم غيره؟) وظاهر هذا انه سؤال عن أصول الدين لأن هذه هي خاصيتها فقال اعد علي؟) لعل وجه طلب الامام عليه السلام اعادة السؤال ليتركز ويترسخ الجواب في ذهن السائل والسامعين وهو نوع من الإلفات المقصود في البلاغة، في غير الغافل (فقال: شهادة ان لا اله الا الله وان محمداً رسول الله واقام الصلاة) وهنا نلاحظ انه (عليه السلام) أضاف في هذه الرواية فرعاً من فروع الدين في ما ظاهره الحديث عن أصول الدين هو (ما لا يسعهم جهله ولا يقبل منهم غيره) (واقام الصلاة وايتاء الزكاة وحج البيت من استطاع اليه سبيلا وصوم شهر رمضان، ثم سكت قليلا ثم قال والولاية) وهذا إلفات آخر، ويبدو ان الإمام كان يرى ضرورة ان يلفت أكثر، لذا هناك قال اعد علي وهنا سكت قليلا ثم قال (والولاية والولاية، ثم قال :هذا الذي فرض الله عز وجل على العباد لا يسأل الرب عن العباد يوم القيامة فيقول الا زدتني على ما افترضت عليك ولكن من زاد زاده الله...) وهنا كلمات حول الرواية:
كلمات حول الرواية
الكلمة الاولى: ان في هذه الرواية اضيفت بعض فروع الدين .
الكلمة الثانية: ان هذه الروايات التي ينقلها الشيخ باجمعها وروايات اخرى لم ينقلها الشيخ، فان الولاية عدت ركنا اساسيا في مختلف المصطلحات التي تساوي (أو هي اعم من وجه او اخص مطلقا) اصول الدين، اذن الولاية جامع مشترك مذكور في كلها.
الكلمة الثالثة: تتضمن الإشارة إلى مطلع جوابٍ ثم نفصل في الجواب لاحقاً بإذن الله تعالى، وهو ان ظاهر هذه الرواية هو الحديث عن اصول الشريعة وظاهر تلك الرواية هو الحديث عن اصول العقيدة، فهما امران وسيأتي مزيد توضيح.
د – هل أسلَمَ؟... قال لا، إلا المستضعفين
الرواية الاخرى التي نقلها الشيخ ما رواه اسماعيل إذ قال (سألت ابا جعفر (عليه السلام) عن الدين الذي لا يسع العباد جهله...): فقلت جعلت فداك أما احدثك بديني الذي أنا عليه؟ فقال: بلى. قلت: اشهد ان لا اله الا الله وان محمداً عبده ورسوله، والاقرار بما جاء به من عند الله، واتولاكم وابرء من عدوكم ومن ركب رقابكم وتأمر عليكم وظلمكم حقكم) فقال الامام الباقر (عليه السلام) (ما جهلت شيئا هو والله الذي نحن عليه) والشاهد ليس هنا (فقلت فهل اسلم احد لا يعرف هذا الامر) اي التشيع اي الولاية والبراءة إذ الحديث كان عن البراءة بالذات والولاية تسبقه (واتولاكم) وهنا بيت الشاهد (قال: لا إلا المستضعفين فقلت من هم؟...) إلى اخر كلام الامام فليراجع في الرسائل نقلاً عن الكافي والتهذيب ومن لا يحضره الفقيه.
وهنا سؤال مهم ايضا ونترك الجواب إلى الغد كي نجيب أولاً على الاسئلة السابقة عليه رتبة، وهو ان الركن ركن والمقوم مقوم فاذا كان عدم التبري من اعدائهم سببا لعدم كون الشخص مسلما واذا كان التبري ركنا اي مقوما للإسلام (فقلت: فهل اسلم... قال لا، إلا...) فكيف يكون الطرف مسلما في بعض الاحيان رغم انتفاء هذا الركن لمجرد كونه مستضعفا؟، مثلا الصلاة فاركانها المذكورة في حديث لا تعاد خمسة فالركوع ركن فمتى انتفى انتفت الصلاة سواء اكان عن قصور او تقصير عالما عامدا او جاهلا ساهيا غافلا، فلا فرق إذ الركن ركن والمقوم الماهوي مقوم تنتفي الماهية بانتفائه، فكيف يفصّل الامام (عليه السلام) وان المستضعف مسلم وليست البراءة من اعدائهم ركنا لإسلامه, واما غير المستضعف وهو من كان الطريق مفتوحاً له للمعرفة فقصر فهو كافر, فليتدبر فيه إلى ان ياتي جوابه.
عدم وفاء (تعدد الاطلاقات) بحل المعضلة
واما الجواب عن السؤال المطروح في روايتنا المتضمنة لمصطلح اصول الدين وفي هذه الروايات المتضمنة لمفردة دعائم الدين وغيرها، فنقول: هناك جواب معهود يطرح في اماكن اخرى لكن هذا الجواب غير كاف وغير واف بدفع الاشكال ههنا بل نحتاج إلى اجابة ادق او مكملة، والجواب المعهود هو تعدد الاطلاقات وهذا جواب معهود لحل سلسلة من الإعضالات، مثل ما في بحث العدالة وان لها اطلاقات فعدالة مرجع التقليد امر وعدالة الشاهد امر اخر وعدالة إمام الجماعة امر اخف وهكذا وكذا لفظة الإسلام ففيها عدة اطلاقات، وكذلك الايمان فان له عدة اطلاقات، اما نظرا للمشككية والمراتب والدرجات او لغير ذلك مما سيأتي.
لكن هذا الجواب لا يكفي في المقام ولا يحل الاعضال لأن الكلام حول (أصول الدين) وكيف يُعلَّل ان يذكر الإمام مستحبا في الرواية المتقدمة ويعتبره من اصول الدين، كالعقيقة وكالاجتهاد في الطاعة وصيام ثلاثة ايام في الشهر وغيرها فقطعا[4] هذه ليست من اصول الدين باي معنى من المعاني, بل حتى الاحكام التي ذكرها الامام (عليه السلام) في رواية تحف العقول فانها احكام متعددة والكثير منها ليس من اصول الدين.
والحاصل: ان تعدد الاطلاقات كبرى كلية تنفع في مقامات اخرى لا في خصوص مصطلح (اصل) فانه مصطلح قوي جداً: (اصل الدين) نعم إطلاقه على الصلاة ممكن، ففي شأن العقيدة (التوحيد) مثلاً أصل الدين وفي شأن الفروع والشريعة (الصلاة) أصل إذ الصلاة عمود الدين اما الأحكام الفقهية – أو السنن فإن إطلاق اصول الدين عليها مشكل، حتى مجازا، فهذا المخرج – تعدد الإطلاقات - حتى الان ليس بمجدٍ ظاهرا.
الحل في تحليل معنى (الدين)
لكن هناك متمم به سيكون المخرج واضحا وبيّنا وهو ان ندرس معنى كلمة (الدين) فانه مفتاح الحل لأن اصول اضيفت إلى الدين فلنر ما المراد من الدين لكي نعرف ما المراد بالاصل وعندئذ سنجد صحة إطلاق الروايات السابقة لأصول الدين على الأحكام والسنن، فنقول: (الدين) له معاني متعددة،
معاني (الدين) السبعة
ولنبدأ لغويا بذكر معاني سبعة ثم نختصرها ونضغطها في معاني ثلاث هي بيت القصيد، فالدين حسب كتب اللغة له معاني كثيرة:
المعنى الأول: (ما يتدين به الرجل) اي ما يلتزم به، واضيف توضيحا لكلامهم وتكميلا: ما يتدين به الرجل في العقيدة فهو دين، وما يتدين به الرجل في بعد الشريعة فهو دين وسيأتي مزيد توضيح، فما يتدين به الرجل عقيدةً وشريعةً، او عقيدة فقط هذا دين، لأن بعض الاديان هي مجرد عقيدة وليست ذات شريعة مثل البوذية فهي عقيدة وليست شريعة إذ لم تسنّ احكاما لأفعال المكلفين[5] وانما هي عبار عن بعض العقائد البسيطة الاولية وبعضها بديهي البطلان مثل التناسخ التي تقول به البوذية.
المعنى الثاني للدين هو (الورع)، فهل اصول الدين في بعض هذه الروايات يراد بها هذا المعنى اي (اصول الورع)؟.
المعنى الثالث للدين هو (الطاعة) فهل يراد اصول الطاعة؟ والطاعة على قسمين الواجبة فلها اصول والمستحبة فلها اصول ايضا، ومن الامثلة التي ذكرها البعض لهذا المعنى قوله تعالى (وَلَهُ الدِّينُ وَاصِباً) اي دائما ففسر الدين بالطاعة اي وله الطاعة دائما.
المعنى الرابع للدين هو (العبادة) فهل اصول الدين في بعض هذه الروايات يراد بها أصول العبادة؟.
المعنى الخامس للدين هو (الجزاء) مثل (مَالِكِ يَوْمِ الدِّينِ) اي مالك يوم الجزاء، وهذا غير مراد ههنا بشكل واضح.
المعنى السادس للدين هو (الخدمة والإحسان) وهذا ممكن لكنه خلاف الظاهر اي: أصول خدمة الرب والإحسان إلى العبيد.
المعنى السابع للدين هو (الشريعة).
علماً ان بعض كتب اللغة ذكر بعض المعاني ولم يستفرغ المؤلف الوسع في استقصائها كمجمع البحرين لكن كتباً أخرى كـ(لسان العرب) تتبعت أكثر واستقرأت أكثر.
اذن مفتاح الحل يكمن في (الدين) والآن لنبحث عن معنى أصول الدين بعد اتضاح اطلاقات الدين.
المحتملات في (الدين) التي دل عليها الدليل، ثلاثة
فنقول ان المحتملات المبدئية في (الدين) ثلاثة بل هي التي يدل عليها الدليل:
المعنى الاول: ان يراد بالدين العقيدة، فاصول الدين تعني اصول العقيدة، وبعض الروايات ناظر لهذا المعنى ولذا لم تذكر مثل الصلاة لأنها ليست من اصول العقيدة بل هي من اصول الشريعة.
المعنى الثاني للدين :الشريعة بالمعنى الأخص الشامل لأحكام أفعال المكلفين لا غير.
المعنى الثالث للدين: الشريعة بالمعنى الأعم الشامل للأحكام والآداب والسنن.
وهذه المعاني الثلاث تحل مشكلتنا بأكملها في سياق البحث الذي طرحناه، إذ ان بعض الروايات كان المقصود من الدين فيها هو العقيدة فتحدثت عن أصول العقيدة فحصرتها بغير الفروع، وبعضها تتحدث عن أصول العقيدة والشريعة أي أصول الشريعة بالمعنى الأخص لذا ذكرت الصلاة والزكاة وما اشبه ولم تذكر السنن، اما الطائفة الثالثة من الروايات التي ذكرت السنن أيضا، فان الدين فيها جرى على المصطلح الثالث وهو الشريعة بالمعنى الأعم فان المذكورة فيها - كما في رواية تحف العقول - أصول الشريعة بالمعنى الأعم، فما ذكر فيها من المستحبات فهو مفتاح ووجه المفتاحية جهات عديدة وله بحث ولكل مفردة كلام وانه كيف ان هذه المفردة مفتاح للمستحبات الأخرى أو لسلسلة من المستحبات، لكن إجمال الجواب هو ان الطائفة الثالثة التي ذكرت السنن اقتصرت على أصول السنن ومفاتيحها، ومن الوجوه: انها هي ما لو التزم بها الشخص لوفقه الله تعالى لكي يمشي ويسعى ويلتزم بسائر السنن، في إحدى التفسيرات.
اذن بهذا البيان ينحل الاعضال الأول، لكن يبقى الاعضال الثاني حول حقيقة المركب, وللحديث صلة.
وصلى الله على محمد واله الطيبين الطاهرين
[1] - ذكرها الشيخ تباعاً، ولم يصرح انها طوائف، وقد قسمناها إلى طوائف لاختلافها مصطلحاً وبلحاظ اختلاف المصاديق المذكورة فيها، بل ولاختلاف الآثار ايضاً في الجملة
[2] - المقصود ان دائرتها أضيق.
[3] - الجواهر ج6 ص62 قال (والمخالف لأهل الحق كافر بلا خلاف بيننا)
-[4] في سياق البحث نقول قطعا إلى ان نرى المخرج
[5] - إلا النادر، وفيه خلاف أيضاً بينهم.
|