بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على محمد وآله الطيبين الطاهرين سيما خليفة الله في الأرضين، واللعنة الدائمة على أعدائهم أجمعين، ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم
ملخص ما تقدم
كان البحث حول الادلة التي سيقت وقيلت او التي يمكن ان تساق وتقال على حجية المنامات والاحلام، اولها (العقل) بوجهين: احدهما: ما استدل به الكثيرون من كون الاحلام قد تورث القطع والقطع حجيته ذاتية والذاتي غير قابل للجعل ولا للرفع لأنه:
ذاتيُّ شيء لم يكن معللا
وكان ما يسبقه تعقلا
وكان أيضاً بيّن الثبوت له
وعرضيّه اعرفن مقابله
فالذاتي لا يختلف ولا يتخلف كما هو مقرر في محله, فاذا كانت المنامات قد توجب االقطع احيانا كثيرة فأنها اذن حجيتها في هذه الصورة ذاتية؟
اجبنا عن ذلك بجوابين اما الجوالب الثالث فنقول:
3- خلط بين ما بالعرض وما بالذات
ان هذا من مصاديق خلط ما بالعرض بما بالذات، وقبل توضيح ذلك نقرأ عبارة صاحب الفصول، لأنه وقع كما يبدو في الجملة في هذا المطب اي خلط بين ما بالعرض وما بالذات حيث يقول[1](واما تنظير ذلك) مقصوده من ذلك هو ما سبق من اتباع القطع او الظن الناشئ من قول المعصوم عليه السلام او فعله او تقريره، فان البعض اشكل بان قول المعصوم عليه السلام وان افاد القطع او الظن ليس بحجة ودليلهم تنظيره المنامات وانها ان افادت الظن فليست بحجة كما انها لو افادت القطع فليست بحجة, فأجاب صاحب الفصول عن هذا الاشكال، انه كلا، الرؤيا او المنامات ان افادت القطع فهي حجة، وهنا موضع اشكالنا على صاحب الفصول، نقول:كلا بل حتى لو افادت المنامات القطع فهي ليست بحجة وهنا وقع خلط بين ما بالعرض وما بالذات كما سيتضح، بعد ان نكمل عبارة الفصول (واما تنظير ذلك بالرؤيا المقطوع بصحتها وصدقها فعدم[2] حجيتها) عدم حجية هذه الرؤيا (لعدم دليل عليها فاسدة) اي يوجد دليل على حجية الرؤيا القطعية رغم ان صاحب الفصول يقول الرؤيا قطعا ليست بحجة كما نقلنا عبارته[3] (انا كما نجد على الاحكام امارات نقطع بعدم اعتبار الشارع اياها طريقاً إلى معرفة الاحكام مطلقا وان افاد الظن الفعلي بها كالقياس والاستحسان والسيرة الظنية والرؤيا وظن وجود الدليل والقرعة)
اذن من ضم كلامي صاحب الفصول بعضها للبعض يتضح انه مفصِّل وانه يقول الرؤيا ان افادت الظن فليست بحجة وان افادت القطع فهي حجة.
لكن نقول كلا,المنامات وان افادت القطع لكنها ليست بحجة، لأن الحجة هو القطع وليس المنام، نعم ههنا علاقة مصححة للتجوز لكن الصدق والوصف ليس حقيقيا, توضيح ذلك: انه اذا قلنا (الميزاب جار) فان ههنا مجازا صححته علاقة الظرف والمظروف، إذ الجاري هو الماء الذي في الميزاب وليس الميزاب بنفسه، وكذا لو قلنا (زيد قائمٌ ابوه) فان القائم هو الاب وليس زيداً فالوصف بحال المتعلق لا بحال الموصوف
النسبة بين الأحلام والقطع عموم من وجه
والحاصل: ان المنام حتى لو اورث القطع فانه ليس الحجة بل القطع هو الحجة فلا يصح القول ان المنام هو حجة في أية صورة من الصور، فهذا الذي نسلبه منه, ومن الأدلة على ذلك ان النسبة بين المنام والقطع هي العموم والخصوص من وجه، فذاتيُّ احدهما لا يكون ذاتيا للأخر بلا شك, إذ ذاتي احد الامرين الذي بينهما العموم والخصوص من وجه ليس ذاتيا للأخر، فمثلاً ذاتي الانسان هو النطق والنسبة بين الانسان والابيض هي من وجه فهل يصح ان نقول (بعض الابيض انسان) إذ النسبة من وجه ثم نقول وكل انسان ناطق[4] أو ذاتيُّه النطق ثم نثبت بذلك النطق للطائر الابيض؟، لا يصح ذلك لأن النسبة من وجه, اذن الذاتي لشيء لا يكون ذاتياً لشيء اخر نسبته معه من وجه، والمقام من هذا القبيل, إذ بعض المنامات قطعية، فمادة الاجتماع هو المنام المورث للقطع لكن لنا مادتا افتراق (بعض المنامات لا تورث القطع وبعض ما يورث القطع ليس بمنام) كالضروريات والبديهيات والمتواترات وغيرها، فاذا كان القطع حجيته ذاتية (تنزلا والا فنحن لا نرى ان القطع حجيته ذاتية)[5]، فلنفرض ان القطع حجيته ذاتية[6] لكن ليس القطع عين المنام فلا هو مرادف له مفهوما ولا هو مساو له مصداقا بل النسبة هي العموم والخصوص من وجه فاذا اورث المنام القطع فالقطع حجيته ذاتية لا المنام، غاية الامر ان العلاقة هي علاقة السببية والمسببية فمصحح اطلاق (الحجة) على (المنام) تجوزا هو علاقة السببية والمسببية فليتدبر به.
ويتضح ذلك أكثر بملاحظة (الكهانة) فهل يصح لصاحب الفصول وغيره ان يقول ان الكهانة على قسمين: حجة وغير حجة؟ كلا، رغم انها تورث القطع احيانا، فلو اورثت القطع فان القطع هو الحجة اما الكهانة فهي سبب لوجود تلك الحجة بالذات، وكذلك الرمل والاسطرلاب وقراءة الكف والفنجان والتنجيم وغير ذلك من هذه الامور,فبينها والقطع عموم من وجه فما ثبت لاحدهما لا يثبت للاخر الا مجازا.
اختلال شروط الشكل الأول في القياس
والآن نصوغ القضية بصورة قياس من الشكل الاول ليتضح اكثر:
فان القياس الذي يمكن ان يشكّله صاحب الفصول او غيره هو من الشكل الاول هكذا: الاحلام قد تورث القطع والقطع حجيته ذاتية فالاحلام حجيتها ذاتية، فظاهر الامر ان شروط الشكل الاول متوفرة لكن واقع الامر كلا, فان شرط الشكل الاول هو: موجبة الصغرى مع كلية الكبرى:
فهذا هو المتوفر لكن سائر الشروط غير متوفرة من حيث ان الحد الاوسط لم يتكرر (إذ هناك شروط صورية في الشكل الاول ترتبط بالهيئة وهناك شروط ترتبط بالمادة) توضيحه: القياس هو: ان الاحلام (قد توجب القطع) فهذا هو المحمول في الصغرى لكن الموضوع في الكبرى هو (القطع), والمفروض تكرر الحد الاوسط لكنه لم يتكرر، نعم لو كانت الاحلام قطعاً والقطع حجيته ذاتية فالاحلام حجيتها ذاتية، لصح ما يقولون، لكن الاحلام ليست بقطع، مثل الكهانة فانها ليست بقطع، وخبر الواحد ليس قطع بل حتى المتواتر فانه ليس قطعا بل هو موجب للقطع، اذن المشكلة هي عدم تكرر الحد الاوسط ولمزيد التوضيح نذكر هذا المثال اللطيف: عندما تقول في الجدران فئران وللفئران آذان فهل يصح ان نقول للجدران آذان؟ كلا، مع ان الشكل الاول انتاجه بديهي وذلك لأن الحد الاوسط لم يتكرر، إذ قلنا (في الجدران فئران وللفئران آذان) فالحد الاوسط (الفئران) لم يتكرر ففي الصغرى (في الجدران فئران) وفي الكبرى (للفئران آذان)[7] فلم يتكرر الحد الاوسط[8] فاذا كان القياس هكذا فلا ينتج والحاصل: انه حتى لو فرض ان المنامات اورثت القطع فليست بحجة رغم ذلك، انما الحجة امر اخر تصادف ان تطابق معها في بعض الاحيان واسمه القطع[9].
الثمرة العلمية والعملية للتفكيك
واما الثمرة فهي ثمرة علمية دقية، وثمرة عملية، أما العلمية فهي كما سبق من ان الاحلام وان اورثت القطع ليست هي الحجة بل القطع هو الحجة, هذه الثمرة العلمية, واما الثمرة العملية فتظهر عند التفكيك بينهما (بين الاحلام والحجية) فانه يظهر لنا وجه جديد لزلزلة وزحزحة قطع القاطع من الاحلام، إذ نقول له ان الاحلام امر والقطع امر اخر والنسبة بينهما من وجه, ثم نقول له هَبْ ان القطع حجيته ذاتية لكن من اين نشأ قطعك؟ يقول من الاحلام, نقول الاحلام ليست لها حجية لا عقلائيا ولا شرعيا كما سيأتي اثباته لاحقا فإذا عرف منشأ قطعه وانه ليس بحجة شرعاً ولا عقلاً، زال قطعه، وهذا علاج ناجع في كثير من الأحيان. اذن الثمرة تظهر بالتفكيك فالتشكيك فالنفي[10].
4- القطع الحاصل من الأحلام، من سنخ القطع المتزلزل
اشكال اخر نقول: القطع الناشئ من الاحلام هو من سنخ (القطع المتزلزل) الذي لم يبتن على ركن وثيق فلا يعتني به العقلاء اولا, ولا يصمد عند المعارضة ثانيا, وذلك كما في الرائي للخطين المتوازيين انهما في النهاية يلتقيان وهذا من خطا الباصرة كما هو واضح، لكن الانسان الذي لم يسبق له أن أُلِفتَ إلى هذا فانه يكون عادة قاطعاً بانهما سيلتقيان بعد مسافة, هذا القطع من سنخ القطع المتزلزل غير المبتني على اساس وثيق في مقابل القطع المستقر المبتني على اساس وثيق كالحاصل من البراهين.
وهذا البحث فائدته عامة وليست منحصرة في بحث المنامات إذ ينفع في مباحث اختلاف الاديان إذ اليس المسيحي قاطعا بالهة ثلاثة؟ ان الكثير منهم قاطع بذلك! بل يرانا على جهل مركب وان مداركنا محدودة، فهل تنقطع حجتنا لو قال ان حجية القطع ذاتية وانه قاطع؟، وكذلك عابد البقر والوثن وما اشبه.. كلا.. إذ الاجوبة سيالة في كل الحقول، وكذلك في مبحث الكشف والشهود ايضا ينفعنا ذلك لأن من كشف له بتوهمه، فهل له ان يقول: الكشف حجة ذاتية لأنه اورث القطع والقطع حجيته ذاتية, كلا إذ نقول له: لو فرض ان الكشف اورث القطع فان هذا القطع حجة وليس الكشف، كما لو فرض ان طيران الغراب وجريان الميزاب اوجب القطع فان ذاك القطع على فرضه حجة وليس جريان الميزاب ولا طيران الغراب, والحاصل: ان القطع سنخان، سنخ هو القطع غير المستقر وهو الذي لم يبتن على اساس وثيق مثل الاحلام ومثل الكهانة وما اشبه فيشمله قوله تعالى: (فَأَتَى اللَّهُ بُنْيَانَهُمْ مِنَ الْقَوَاعِدِ فَخَرَّ عَلَيْهِمْ السَّقْفُ مِنْ فَوْقِهِمْ) ولك ان تتصور شخصا بنى بنيانا قويا على ارض رملية فانه لم يبن على اساس وثيق وكذلك القاطع الذي كان مبنى قطعه هو الكهانة او المغالطة او الخطابة، فهذا القطع وان كان ظاهره قطعا لكن واقعه مبني على اساس غير وثيق، وكذلك الاحلام، ولذلك نجد انه لم تبتن حضارة على الاحلام[11] ولم يبتن دين على الاحلام، ولو فرض وجود حضارة بدوية في قرية من قرى العصور الوسطى بنيت على الاحلام فان العقلاء يرون ان هذا بنيان غير وثيق، ويرون سنخ هذا القطع سنخا متزلزلا لا يمكن الركون اليه بل هو (كَسَرَابٍ بِقِيعَةٍ يَحْسَبُهُ الظَّمْآنُ مَاءً حَتَّى إِذَا جَاءَهُ لَمْ يَجِدْهُ شَيْئاً وَوَجَدَ اللَّهَ عِنْدَهُ فَوَفَّاهُ حِسَابَهُ)
قطع الألوف من الناس وأحلامهم ليست حجة
وعليه [12]فلا يصح الاحتجاج بقطع الالوف من الناس كما احتج البعض بان الالوف من الناس شاهدوا في المنام كذا وهم قطعوا بذلك, نقول بناءا على ما تقدم اذا عرفنا ان القطع على سنخين سنخ مستقر وسنخ اخر غير مستقر وان الأحلام من السنخ غير المستقر الذي لم يبتن على اساس وثيق عقلي او شرعي او عقلائي فكيف يصح الاحتجاج بالوف من الناس رأوا الاحلام وانهم قاطعون؟, فليكونوا قاطعين، فاذا وجدنا الالوف من الجهلة بالطب قطعوا بامر طبي فهل يصنع ذلك حجة؟، واذا الالوف من الجهلة قطعوا من الأحلام أو نظائرها بان النظرية النسبية باطلة او صحيحة فان قطعهم لا قيمة له، فانه في منطق العقلاء لا يعتنى بهذا القطع غير المبتني على الاسس العلمية.
وبتعبير اخر, هل قطع الالوف حجة على غيرهم؟ الجواب كلا, غاية الامر ان الاجماع حجة اي ان التخريج الوحيد هو ان الاجماع حجة والإجماع يعني اجماع عامة العلماء أو المؤمنين بمختلف الوانهم من علماء وغيرهم، اما اجماع الألوف من الناس من كل دين ومذهب على خلاف أغلب العلماء بل على خلاف ما قارب جميع العلماء فانه ليس إلا تسمية للشيء باسم ضده![13]، وللحديث صلة[14].
وصلى الله على محمد واله الطيبين الطاهرين
[1]- الفصول ص344القرص الليزري
[2]- من هنا يجيب صاحب الفصول.
[3]- الفصول ص268
[4] - نتيجة هذا القياس: فبعض الأبيض ناطق.
[5] - كما أوضحناه في كتاب (الحجة، معانيها ومصاديقها)
[6]- على القول المشهور
[7] - مثال آخر: في الدار زيد، ولزيد أموال، فهل ينتج في الدار أموال؟ كلا إذ قد تكون أمواله في المصرف.
[8] - غاية الأمر ان يكون الإنتاج: ففي الجدران آذان! ومنه يظهر أن الإشكال ليس في عدم تكرر الحد الأوسط بل في عدم كون الاصغر بعينه موضوعاً في النتيجة.
[9]- المصحح في المقام فقط هو ان نقول (الاحلام قطع) وهذا ليس بصحيح بل الاحلام قد تورث القطع وليست هي بالقطع.
[10]- وتوقفنا هنا لأن صاحب الفصول علم عيلم فلا بد ان يكون وجه رد كلامه دقيقاً ومن وجوه متعددة فكان منها ان النسبة من وجه ومنها انه خلط ما بالعرض بما في الذات ومنها لحاظ جامع المقام مع الكهانة وغيرها
[11]- بما هي حضارة لا بما هي مكملات ترفيهية يركن اليها الناس للتسلية او غير ذلك
[12]- نستثمر البحث ههنا بكلمة مهمة.
[13] - فانه شذوذ عن إجماع الأمة وإجماع العلماء وليس إجماعاً.
[14]- غدا سنذكر إشكالاً جديداً نذكره مقدمة لتفكروا فيه وهو التركيز على معنى الحجة وسنناقش المشهور عندئذ في مبناهم من ان القطع حجيته ذاتية ثم نصنع باذنه تعالى مخرجا للمشهور كي نقول ان راينا في الجملة لا يضاد المشهور على بعض الوجوه والتوجيهات اثر التأمل في كلمة حجة وماذا تعني الحجة . |