بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على محمد وآله الطيبين الطاهرين سيما خليفة الله في الأرضين، واللعنة الدائمة على أعدائهم أجمعين، ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم
ملخص ما تقدم
كان البحث حول الاستدلال بالأحلام في أصول الدين أو فروعه أو الأحكام الشرعية او الشؤون العامة أو الأمور الحسبية وفي دوائر القضاء والشهادات وأيضا في الشؤون الخاصة والموضوعات الصرفة، وأيضا نضيف الموضوعات المستنبطة، وذكرنا ان الدليل الأول الذي استدل به أو يمكن الاستدلال به هو العقل بوجهين، الوجه الأول هو ان الأحلام كثيرا ما تورث القطع والقطع حجيته ذاتية فتكون الأحلام حينئذ حجة ذاتا والحجة الذاتية لا يمكن سلب الحجية عنها، كما لا يمكن جعلها لها حسب المشهور,واجبنا بأجوبة أربعة, وبقيت للجواب الرابع تتمة وهي:
تتمة للجواب الرابع: القطع المتزلزل يَسقُط بمعارضه المستقر له
الجواب الرابع: ان القطع على سنخين؛ سنخُ قطعٍ متزلزل مبني على أساس غير وثيق، وسنخُ قطعٍ مستقرٍ مبني على أساس وثيق عقلي، منطقي، علمي، شرعي على سبيل الاجتماع او البدل، ومن مصاديق سنخ القطع غير المستقر: التقليد الأعمى والاتباع للآباء فان هذا لا قيمة له عند العقلاء أولا، والأحلام من هذا القبيل, واما ثانياً: فانه لو فرض ان له القيمة عند العقلاء، تنزلا, فانه مطروح لمعارضته بالأقوى، توضيحه: ان القطع لا شك انه حقيقة تشكيكية ذات درجات وذات مراتب فلو عورض بقطع أقوى سقط عن الحجية عندئذ ككل حجة عورضت بحجة أقوى فانها تسقط بالمعارضة للحجة الأقوى كخبر الثقة المعارض بخبر الثقات على الخلاف، أو المعارض بخبر ثقة أكثر ضابطية منه، وما نحن فيه أسوء مما مثلنا به، فانه من قبيل قطع العامي الصرف فيما يحتاج إلى خبروية كقطعه في أمر طبي من غير استناد إلى تحليل علمي فان هذا القطع لو فرض انه حجة، فانه لو عورض بقطع خبير كطبيب متخصص فانه لا شك عند العقلاء بان هذا القطع هو الراجح وذاك هو المرجوح وان التمسك بالمرجوح قبيح مع وجود الراجح، فكذلك القطع الحاصل من الاحلام فان هذه الانواع من القطع التي تُدّعى، معارَضة بقطع كافة العلماء من اهل الخبرة والاختصاص سواءا في حقل العقيدة او الشريعة وما أشبه، ولا شك انه عند المعارضة تسقط هذه عن الحجية في قبال تلك,هذه تتمة موجزة للبحث السابق.
5- إشكالان صغرويان وجدانيان على صغرى القياس
الجواب الخامس: ويتضح بان نذكر القياس الذي يمكن ان يشكل استدلالاً لهم ثم نذكر وجه الإشكال الخامس، فان القياس هكذا كان:
الاحلام قد تورث القطع، والقطع حجيته ذاتية فالأحلام عندئذ حجة ذاتا
ونحن في الاشكال الخامس نناقش الصغرى في القياس (الاحلام قد تورث القطع) باشكالين صغرويين وجدانيين:
1- ما أكثر الكذب في دعاوى الرؤيا
اولا: لا شك في ان كثيرا ممن يدعون انهم رأوا الاحلام كاذبون، وان كان بعضهم صادقاً, لكن كما ان الكثير ممن يدعي الرؤية للأحلام ممن يجر النار إلى قرصه وممن يكون في دائرة التهمة، بل حتى من لا يكون في دائرة التهمة، فلا شك ان كثيراً منهم كاذبون في دعواهم انهم رأوا كذا وكذا في المنام.
2- ما أكثر الكذب في دعوى القطع
ثانيا: لا شك في ان كثيرا ممن يدعون الرؤيا والاحلام ويدعون القطع من تلك الاحلام كاذبون في دعوى القطع وان كانوا صادقين في دعوى الرؤيا، لكن هل هو قاطع بمؤدى المنام وان تفسيره هو هذا؟، ان الكثير منهم كاذب.
والحاصل: ان الكذب تارة يكون في اصل ادعائه انه رأى، وتارة يكون كاذباً في دعواه حصول القطع له من رؤياه بتفسيرها ومعناها، فان فتفسير الأحلام يحتاج إلى اهل خبرة بل حتى أهل الخبرة، عادة غير قاطعين بالتعبير بل ان يظنون إلا ظناً, اذن هاتان الصغريان كلتاهما مبتلاة بكذب الكثيرين: من يدعي الرؤيا وحصولها له، ثم المدعي حصول القطع لديه من الرؤيا.
ويترتب على ذلك انه لا حجية لدعاوى الرؤيا أو لدعاوى القطع بها، نظراً لأختلاط الحجة باللاحجة إذ لا نعلم ما هو الحجة وما هو غير الحجة صغرى، وذلك كخبرين احدهما لثقة والاخر لفاسق لكن لا نعلم ان هذا الخبر المكتوب ههنا صَدَرَ من الفاسق او من الثقة، فلا حجية له.
ويتضح ذلك أكثر بملاحظة باب القضاء وعالم السياسة، فانه انه لا شك في باب القضاء بأن الكثير من الناس يكذبون كي يجروا النار إلى قرصهم وما اكثرهم، بل قد يتعاضد الكَذَبة على ان هذا سارق او ليس بسارق – خلافاً للواقع - لمصالح قبلية, إذ دفعهم الحرص على مصلحة القبيلة لشهادة الزور.
وكذلك ما اكثر الكذب في عالم السياسة مع ان السياسي عندما يتكلم فانه يتكلم بضرس قاطع دون أي شك وشبهة، وهكذا في سائر الحقول فليس الكذب نادراً أو قليلاً بل ما أكثره.
والأمر وفي الشرايع كذلك فما اكثر الكاذبين في دعاواهم سماع الروايات التي ينسبونها إلى رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) كأبي هريرة وغيره فانهم يروون الرواية بضرس قاطع والكثير من الناس يصدقهم.
إذا اتضح ذلك نقول: وجود العلم الاجمالي بـ أ- كذب الكثيرين ممن يدعون الرؤيا في شؤون العقيدة او الشريعة او شؤون الاحكام الشرعية او ما اشبه، وان لم نعلم ان هذا بالذات كاذب ب – ووجود العلم الإجمالي بان الكثيرين ممن رأوا، فان دعواهم القطع إثر ذلك كاذبة إذ انه ليس بقاطع وانما هو ظان لكن لكي يؤكد كلامه يقول انا قاطع إذ انني رأيت في الرؤيا كذا ومفادها كذا مع انه إن يظن إلا ظنا، أقول: هذا العلم الاجمالي[1] يسقط الرؤيا عن الحجية حتى على فرض حجيتها اقتضاءاً فكيف لو لم تكن حجة اقتضاءا كما سيأتي بيانه لاحقاً.
قال تعالى: (وَجَحَدُوا بِهَا وَاسْتَيْقَنَتْهَا أَنْفُسُهُمْ ظُلْماً وَعُلُوّاً) فكثيرا ما يكون الشخص قاطعاً بالحق لكنه يجحده بل يظهر نفسه بمظهر القاطع بالخلاف، لكن الواقع هو ان المال حرّكه او الشهرة غرته او حب الرياسة او الشيطان حاد به عن الجادة، فجحد ما استيقنته نفسه، وتمام الاية (فِي تِسْعِ آيَاتٍ إِلَى فِرْعَوْنَ وَقَوْمِهِ إِنَّهُمْ كَانُوا قَوْماً فَاسِقِينَ * فَلَمَّا جَاءَتْهُمْ آيَاتُنَا مُبْصِرَةً[2] قَالُوا هَذَا سِحْرٌ مُبِينٌ * وَجَحَدُوا بِهَا وَاسْتَيْقَنَتْهَا أَنْفُسُهُمْ ظُلْماً وَعُلُوّاً) اذن نقول صغرى، هناك اشكالان فلا يعلم على اقل الفروض ان هذا صادق في دعواه انه رأى، ثم لو فرض انه رأى شيئا فلا يعلم انه صادق في دعواه القطع وانما هي محاولة لاثبات معتقده بأية طريقة.
لزوم الفحص والمرجع العرض على الكتابة والسنة
ويتفرع على ذلك انا لو قبلنا بان الرؤيا مبتلاة كغيرها بكثرة الكذبة والدجالين وان العلم الاجمالي بالخلاف موجود، فان الطريق لمعرفة الحق سيكون هو الفحص كأمر عقلائي فعلينا ان نفحص في مدى صدق هذه الدعوى لو كانت حجة فرضا, وانه كاذب او لا؟ لكن قد يسأل كيف نفحص؟ إذ انه يدعي أمراً وجدانياً وانه رأى كذا وانه قاطع؟ الجواب: ان طريق الفحص هو مما تعرّض له العقلاء والشارع وهو (المقاييس الموضوعية) فانها التي يرجع اليها لتمييز الكاذب من الصادق، والمقاييس متعددة نشير ههنا إلى احدها، وهي: العرض على الكتاب والسنة فهو المرجع والحجة المرجعية، وهي المرجع حتى في الحجة العقلائية كخبر الثقة فكيف بغير العقلائية كالأحلام؟ توضيحه: ان خبر الثقة حجة بلا كلام لكن لوجود العلم الاجمالي بكثرة الكَذَبَة على رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) فلابد من عرض الخبر على الكتاب والسنة، (وقد قال رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) في حجة الوداع[3]: كثرت علي الكِذابة) او (الكذّابة) وكلاهما صحيح فالكِذابة مصدر مثل لزاما (فَسَوْفَ يَكُونُ لِزَاماً) والتاء للمبالغة اي كثر علي الكَذِب، ويمكن ان تقرأ الكذّابة اي الكذابون (وستكثر) في المستقبل وكلام الرسول (صلى الله عليه وآله وسلم) اعم من الكذب بدعوى سماع كلام من الرسول او بدعوى رؤية الرسول في المنام وانه قال له اتبع فلان او لا تتبعه مثلاً (فمن كذب علي متعمدا فليتبوء مقعده من النار) اذن ما الحل وما هو المرجع والمقياس؟ (فاذا اتاكم الحديث فاعرضوه على كتاب الله وسنتي فما وافق كتاب الله وسنتي فخذوا به وما خالف كتاب الله وسنتي فلا تأخذوا به)
فهذا مقياس شرعي عقلائي
ثم ان المقاييس متعددة ففي كل علم توجد مقاييس ومرجعيات وحول الرؤيا بالذات سنذكر مجموعة من المقاييس باذن الله تعالى في ختام البحث عند التطرق للروايات, والحاصل: ان الرؤيا لو كانت حجة فلها ضوابط، والظاهر ان الأعم الأغلب بل شبه المستغرق من هؤلاء الذين يدعون الرؤيا في الشؤون العقدية أو الشرعية لا يعرفون هذه االضوابط، لا على حسب الروايات ولا على حسب العلم الحديث من علم النفس وعلم وظائف الاعظاء وغيرهما، وكما توجد مقاييس في كل علم في الطب والفلسفة والاصول، كذلك الاحلام علم - على فرضه – له مقاييس فما هي؟ وهذا بحث سياتي تفصيله لاحقا وان لها مقاييس وضوابط داخلية وخارجية، وان احدى المقاييس الخارجية: العرض على الكتاب والسنة[4]
6- معاني الحجية تفيد عدم حجية القطع
الجواب السادس: يتضمن مناقشة الكبرى وهي ان (القطع حجيته ذاتية), ويتوقف تحقيقه على بيان المراد من الحجية، فان الحجية المعاني المحتملة فيها متعددة:
المعنى الاول: الكاشفية فيكون المراد من القول ان القطع حجيته ذاتية اي كاشفيته ذاتية، والذاتي لا يختلف ولا يتخلف ولا يعلل وايضا غير قابل للجعل وغير قابل للرفع حسب الدعوى.
المعنى الثاني: أي منجزيته أو معذريته ذاتية، وسوف نطبقها على الأحلام والكشف والشهود وغيرها لنرى أي معنى هو المراد وأيها هو الصحيح.
المعنى الثالث:المراد بالحجية لزوم الاتباع وانه ذاتي للقطع ثم هذا الذاتي ما المراد منه؟ تفصيله يأتي.
وصلى الله على محمد واله الطيبين الطاهرين
[1] - بكلا شقيه، إذ هما علمان إجماليان.
[2]- وقرأت مبصرَةَ على اسم المفعول وموضع بحثها في بحث التفسير حيث توجد نكتة لطيفة ههنا.
[3]- والروايات بصيغ متعددة هذه احداها
[4]- وهذا البحث لا تقتصر فائدته على بحث المنامات بل البحث سيال كما في الكشف والشهود فمثلاً المدعي للكشف كابن عربي لا بد ان يفحص ويحقق عن انه هل رأى كشفا أمراً أم لا هذا اولا ثم يفحص في مدى صحة تفسيره لكشفه، وهل هو كاذب في دعوى الرؤيا وفي القطع الحاصل منه فلا بد من الفحص والرجوع للضوابط.
والبحث سيال في سائر العلوم فكل من يدعي القطع من سياسي او اقتصادي وغيره بان هذا الحل لهذه المشكلة هو هذا فلا بد من الفحص والتثبت من انه ليست هناك عوامل خارجية اخرى غير التشخيص الحقيقي دفعته لاتخاذ هذا الموقف، فلابد من ضوابط يرجع إليها.
وسيأتي في بحث الروايات انه بالاستقراء لأكثر الروايات وكل الآيات نجد انها خاصة برؤى الانبياء كرؤيا يوسف ورؤيا النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) وعلى جميع الانبياء والمرسلين (وَمَا جَعَلْنَا الرُّؤْيَا الَّتِي أَرَيْنَاكَ إِلاَّ فِتْنَةً لِلنَّاسِ) على كلام في هذه الآية وما هو المقصود منها وكذلك (إِنِّي أَرَى فِي الْمَنَامِ أَنِّي أَذْبَحُكَ) فمنامات الانبياء حجة اولا وتفسير الانبياء للمنامات حجة ثانيا اما غيرها فهي مورد الكلام كرؤيا لغيرِ النبي وكان معبرها غير النبي.
واما خبر العادل فانه في الحسيات يؤخذ به وكلامنا في الحدسيات، فان تعبير الرؤيا حدسي لا حسي فهذا يحتاج إلى اهل خبرة كامل محيط بعلم التعبير وليس الا الانبياء وذلك لأن للرؤيا ضوابطها لكنها ليست بايدينا فهي كعلم التنجيم فانه كان علما حقيقيا موجودا عند الانبياء والاوصياء لكن الضوابط غير موجودة بأيدينا فلذا قد يخطئ المنجم وقد يصيب والمنامات كذلك لأن الضوابط اختلطت لحكمة من الله سيأتي بحثها لاحقا.
وقد تقدم منا ان القطع المتزلزل غير معتبر به عند العقلاء اما عند نفس القاطع فسيأتي الكلام عنه وقلنا اولا ان القطع غير المستقر غير معتنى به عند العقلاء اولا فاذا قطع شخص من غير اهل الخبرة فلا يعتنى به العقلاء,وثانيا لو فرض انه حجة فقد عورض بالاقوى منه بل سيأتي البحث ان قطعه حجة عليه ام لا؟وتقدم انه لا يؤمنه من العقاب اذا كان مقصرا في المقدمات. |