بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على محمد وآله الطيبين الطاهرين سيما خليفة الله في الأرضين، واللعنة الدائمة على أعدائهم أجمعين، ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم
ملخص ما تقدم
كان البحث حول استدلال صاحب القوانين برواية معتبرة هي (رأي المؤمن ورؤياه في اخر الزمان على سبعين جزءا من اجزاء النبوة) وذكرنا ان الاستدلال بالرواية الظاهر انه غير تام,وذكرنا وجوها ستة الا ان الجواب الخامس والسادس يحتاجان لدفع دخل عليهما وللتوضيح الاكثر, فنقول:
تتمة وتوضيح ودفع دخل عن الجواب الخامس والسادس
تعدد إطلاقات (المؤمن)
اما الجواب الخامس فهو: ان للمؤمن اطلاقات، ومن اطلاقاته المعنى الاخص بل الاخص من الاخص اي الكُمّلين من امثال سلمان وما اشبه، وهناك اطلاقات أخرى للمؤمن تتسع دوائرها لتشمل أخيراً مختلف المؤمنين من عامة الناس، وسنتحدث على كلا تقديري إرادة المعنى الأخص، أو الأعم:
التقدير الاول, ان نستظهر ان المراد من المؤمن في الرواية هو الكملون منهم بمعونة القرينة الاتية, وعليه فسوف لا تكون هذه الرواية دليلا على حجية رؤى الناس والمؤمنين عامة الا النادر من خيرة الاولياء الصالحين.
التقدير الثاني: نتزل ونقول بان المراد من المؤمن في هذه الرواية المعنى الاعم لا الاخص، ولا انها مجملة ومرددة بين الاعم والاخص كي ينتج ذلك عدم ثبوت الحجية للاعم عندئذ، وذلك يعني انه في صورتين لا تثبت الحجية لرؤى عامة المؤمنين: الصورة الاولى ان نستظهر انصراف المؤمن للاخص، والصورة الثانية ان نشك في المراد؛ بسبب قرينة مقامية حافة فيشك عندئذٍ في تحقق بعض مقدمات الحكمة فلا ينعقد الإطلاق، وسنتكلم على كلا التقديرين:
أ- مناسبة الحكم والموضوع تفيد إرادة الأخص من (المؤمن)
أولاً: ان نصير إلى التقدير الاول: فانه بمعونة قرينة مناسبة الحكم والموضوع قد يستظهر من (المؤمن) المعنى الاخص من الاخص اي الكُمّلين من الاولياء الصالحين، وذلك بقرينة النبوة الواردة في المحمول (راي المؤمن ورؤياه على سبعين جزءا من اجزاء النبوة) فان مقام النبوة مقام شامخ شريف فوق مستوى التصور، فمن المناسب انه لو اعطي جزء من هذا المقام كما هو ظاهر الرواية (وهذا الجزء لا تصدق عليه النبوة كما هو واضح, لكنه مع ذلك شامخ منيع لأنه جزء من هذا المقام الرفيع) فمن المناسب: يعطى ويمنح لمن يقارب مقام الانبياء لا غير، اي من يكون بعدهم في الرتبة مما يمكن لغير المعصوم ان يرتقي اليه, ويتضح ذلك أكثر بملاحظة بعض نظائر روايتنا ومنها رواية (المؤمنة اعز من المؤمن والمؤمن اعز من الكبريت الاحمر) فهل المراد بالمؤمن هنا الملايين من المؤمنين نظراً لأن (المؤمن) من المطلقات كـ(احل الله البيع) وكـ(اكرم المؤمن) فالمؤمن مفرد محلى باللام فيقتضي ذلك ان يفيد العموم اي الإطلاق؟ كلا.. بل صرنا ههنا إلى ان المراد بالمؤمن هو افراد خاصين جدا وذلك بقرينة مناسبة المحمول (اعز من الكبريت الاحمر) إذ يظهر منه إرادة الاخص من الاخص من (المؤمن أعز...) ونص الرواية (في الكافي عن ابي عبد الله عليه سلام الله: المؤمنة اعز من المؤمن والمؤمن اعز من الكبريت الاحمر فمن راى منكم الكبريت الاحمر)[1]؟ والكبريت الأحمر هو تلك المادة المدعاة التي كان يبحث عنها الناس من الملوك فنازلا والتي زعموا انها لو طليت بها المعادن الرخيصة كالنحاس والحديد لتحولت إلى ذهب، والمسماة قديما بالاكسير، فالمراد بالمؤمن في هذه الرواية قطعا الاخص من الاخص اي المؤمن حقا بقرينة المحمول ومناسبة الحكم والموضوع، وكذلك الأمر في المقام، فانه تارة يقول (اكرم المؤمن) فان اكرام المؤمن يتناسب مع كونه مؤمنا ولو من الدرجة الادنى، اما (راي المؤمن ورؤياه على سبعين جزءا من أجزاء النبوة) فان هذا المقام الشامخ باجزاءه مهما فسرت وباي نحو فسرت فانها تصلح قرينة على ان المراد من المؤمن في الرواية من يقارب تلك المرتبة من الكُمّلين.
ثم انه ان اطمئن الشخص إلى هذه القرينة فبها وان راها تورث الاجمال فسيكون استدلالنا أيضاً تاماً فانه شك في قرينية الموجود فحيث ان هذه قرينة متصلة محتملة القرينية فلا يعلم انعقاد الإطلاق عندئذ، فلا تكون إلا منامات الكُمّلين من الأولياء حجة.
ب – على فرض إرادة الأعم فلا بد من تحقق الإيمان وإحرازه
ثانيا: ان نصير إلى التقدير الثاني ونقول تنزلنا، وان المراد بالمؤمن المعنى المطلق اي كل مؤمن، فنقول ايضا لا يتم الاستدلال لوجهين, احدهما ثبوتي والاخر اثباتي:
اما في عالم الثبوت، فنقول بان هذه الرؤيا التي راها هذا المؤمن إذا أراد ان يحرز انها من أجزاء النبوة وينبغي ان يكون هو في حد ذاته عالما من نفسه بانه في هذه الحالة كان مؤمنا؛ لأن المؤمن هو الموضوع او جزء الموضوع - وبالدقة متعلق الموضوع وبالمسامحة الموضوع - اذن الموضوع هو راي المؤمن ورؤياه فعليه ان يكون محرزا كونه مؤمنا في هذه الحالة لكي تكون رؤياه مشمولة للرواية, فلا تكون رؤياه حجة ولا من أجزاء النبوة لو عرف من نفسه الفسق وانه ليس ذا ملكة او ليس على جادة الشرع في هذه اللحظة كما لو نام مثلا على غير ولاية امير المؤمنين مثلا او على غير التبري ممن يجب التبري منه او وهو مسخط لربه او لوالديه, هذا ثبوتا وعليه فان كثيرا من الرؤى – ان لم يكن شبه المستغرق - تفقد حجيتها، فلا يصح لكل من رأى رؤيا ان يقول رؤياي حجة استناداً لهذه الرواية، نعم لو احرز انه كان مؤمنا حال رؤياه لأمكن ذلك.
واما اثباتا، فينبغي علينا ان نحرز كونه مؤمنا في حالة الرؤيا ايضا .
استصحاب الإيمان أصل مثبت
ان قلت: الاحراز بالاستصحاب, كما في امام الجماعة ومرجع التقليد والقاضي وغيرهم ممن تشترط فيهم العدالة, فحيث انه بالامس كان عادلا فنستصحب عدالته فتجوز الصلاة خلفه ويجوز تقليده ويمضي قضاؤه وهكذا، فكذلك نستطيع استصحاب ايمانه في محل الكلام لكي يكون مشمولا لهذه الرواية اثباتا؟
قلت: الظاهر العدم، وذلك لأن الاصل مثبت لأن النبوة ليست من الاثار الشرعية للإيمان، اما جواز الصلاة خلفه فهو من الاثار الشرعية فلنا ان نستصحب عدالته وكذلك الاثر الشرعي لاستصحاب عدالته هو امضاء شهادته وقضاءه وجواز تقليده اما ان نستصحب ايمانه لنثبت ان ما رأه هو نبوة, فهذا اثر عقلي او عادي، والرواية كاشفة لا مشرعة ومنشئة كي يقال بان الاثر اثر شرعي، إذ غاية الامر ان الرواية تكشف عن واقع خارجي وان راي المؤمن مرآة فكيف تستصحب الايمان لتثبت ان هذا الواقع الخارجي هكذا وانه نبوءة[2],هذا هو الجواب الخامس مع تتمته ودفع بعض الدخل حوله وليتدبر فيه فهو بحث جديد فليس بالضرورة ان يكون نقدنا لكلام القوانين تاماً بمختلف مفرداته، لكن هذا المقدار يفتح الطريق لمزيد من البحث والتحقيق.
6- مدخلية حيثية الإيمان
اما تتمة الجواب السادس فهي: ان تعليق الحكم على الوصف مشعر بالعلية فحيث قيل راي المؤمن فان منه يتضح ان حيثية الايمان لها المدخلية كلا او جزءا، أي كونه مؤمنا هو الذي جعل رؤياه نبوة او كونه مؤمنا هو جزء العلة كي يمنحه الله هذه الموهبة والعطية وهي النبوءة الغيبية، وذلك مثل (اطع كلام الطبيب) او (التزم بتعليمات المهندس) اي: من حيث هو مهندس، والا فان الطبيب او المهندس، لا من حيث طبابته او هندسته، لو أبدى رأيا في حقل تخصصه فانه لا حجية لكلامه، ونوضح ذلك ببعض الامثلة التي بنى الفقهاء عليها, فالبينة تقبل شهادتها أي العادل بل والعادل في بعض الصور، لكن (العادل) إنما تقبل شهادته من حيث جهة عدالته، فلو كان في مظان التهمة فلا تقبل شهادته الا بعد التحقيق كما لو كان متهما بانه يجر النار إلى قرصه في هذه الشهادة او لسبب اخر، فهنا حيث انه لم يحرز ان شهادته هي من حيثية عدالته فيجب الفحص، وكذلك عندما يقال (راي الفقيه حجة) فيجب ان نحرز ان هذا الراي من حيثية فقهه فلو لم يكن كذلك فلا حجية لقوله وكذا لو قيل (رأي الخبير حجة)، مثلا هل قول الفقيه في الموضوعات الصرفة حجة؟ المشهور يرون ان راي الفقيه بما هو فقيه في الموضوعات الصرفة ليس بحجة، وانما يكون حجة لو كان اهل خبرة فقوله بما هو اهل خبرة حجة لا بما هو فقيه، والحاصل: ان الفتوى دائرتها غير الموضوعات الصرفة اي إنما هي في الاحكام الشرعية وفي الموضوعات المستنبطة, فاذا ابدى الفقيه رايا في الموضوع الصِرف وشككنا انه كان من حيث فقاهته او خبرويته، مع ذهابنا إلى ان الفقيه في الموضوع الصرف ليس رايه بحجة، فهنا لا مجال للتمسك بحجية قول الفقيه لاثبات المدعى، مثلا في الموت السريري كما لو مات مخه وكان قلبه حياً فهل هو ميت ام لا؟ ومثال اخر ان السمك من شروط ذكاته موته خارج الماء، لكن ما هو حال الأسماك التي تصاد في العالم؟ أي ما هو مؤدى التحقيق الخارجي عنها وهل هي عادة تموت في الشباك داخل الماء فهي محرمة او تموت بعد اخراجها إلى السفينة؟ فهذه مسألة خارجية وموضوع صِرف، والناس عادة يسالون الفقيه، فلو أن الفقيه ابدى فيها رايا وشككنا انه ابداه من حيث هو فقيه فلا حجية لرايه او من حيث انه اهل خبرة فلا بد ان نحرز انه اهل خبرة, ولا يمكن التمسك بقوله قبل الاحراز,اذن ينبغي ان تحرز الحيثية لاثبات الحجية، وفي ما نحن فيه: فهل انه راى الرؤيا من حيث هو مؤمن او من حيث هو مسخر بالتنويم المغناطيسي كما هو وارد بل هو ثابت؟ او من حيث هو بشر يتعرض لضغط البيئة فان ضغط البيئة وحالات الجسد تصنع للقوة المتخيلة احلاما, فهذا محتمل والاحتمال وارد و عقلائي, اذن يجب احراز الحيثية لترتيب الحجية وكونها انها نبوءة, هذه تتمة للاجابة السابقة,وينبغي التدبر في هذا البحث وخاصة ان الروايات صحاح او معتبرات على الاقل ومتعددة فينبغي مناقشتها بما ينبغي[3].
- الجواب السابع: النسبة بين روايتي (دين الله اعز من ان يرى في النوم) و (رأي المؤمن ورؤياه) هي العموم من وجه، لا المطلق، فتسقط عن الحجية في مادة الاجتماع
الجواب السابع: ان هذه الرواية معارضة برواية اخرى صحيحة قد تقدمت وهي (ان دين الله اعز من ان يرى في النوم) واذا تعارضت الادلة على حجية شيء فانه لا تثبت حجيته، فلو ان خبر الواحد قام على حجيته دليل فهو حجة لكن لو قام أيضاً على نفي حجيته دليل آخر فانه لا تثبت حجيته عندئذ لتعارض الحجتين في مرتبة سابقة، وعلى ذلك بناء العقلاء فانه إذا جاء شخص من قبل المولى وقال عن شخص بان (كلام هذا كلامي) ثم جاء شخص اخر بنفس المستوى من الوثاقة وانكر ذلك فانه لا تثبت الحجية لكلامه ولا ان كلامه كلامه لان الشك في الحجية موضوع عدم الحجية وبتعارض الدليلين الدال احدهما على السلب والاخر على الايجاب على حجية هذا او عدمه لا يسلم لنا دليل على حجية هذا, فنقول هنا ان الروايتين تعارضتا فمن جهة (راي المؤمن ورؤياه في اخر الزمن على سبعين جزءا من اجزاء النبوة) – لو فرض انها تدل على الحجية ولم نناقش بما سيجيء من ان الحجية شيء والنبوة شيء اخر – ومن جهة: (دين الله اعز من ان يرى في النوم) فيتساقطان فنبقى على اصالة عدم حجية الرؤيا، وما اشبهها.
ان قلت: هذه الرواية اخص مطلقا من تلك, اي (راي المؤمن ورؤياه في اخر الزمن) اخص مطلقا من رواية (دين الله اعز), لأن هذه الرواية خصصت بالمؤمن (راي المؤمن ورؤياه) فهذا وجه الأخصية الاول ووجه الاخصية الثاني انها قيدت باخر الزمن(في اخر الزمن) اما تلك الرواية فهي اعم من الجهتين (دين الله اعز من ان يرى في النوم) سواءا اكان في اخر الزمن او لا، وسواءا اكان الرائي مؤمنا او غير مؤمن اذن تلك الرواية اخص مطلقا من جهتين.
قلت: كلا، النسبة هي العموم والخصوص من وجه فيتعارضان في مادة الاجتماع وهي رؤيا المؤمن في شؤون الدين، واما مادة الافتراق من تلك الجهة فان وجه الاعمية من هذه الجهة فهو ان راي المؤمن ورؤياه اعم من ان تكون في شؤون الدين وغير شؤونه على عكس تلك الاخص من هذه الجهة فهذه الرواية (راي المؤمن ورؤياه) من تينك الجهتين اخص، (قيد المؤمن وقيد اخر الزمن) لكنها اعم من جهة اخرى اذ لم تقيد بالدين عكس تلك حيث قيدت (دين الله) لكن هذه الرواية تقول راي المؤمن ورؤياه سواءا اكان في الدين او غيره كالاخبارات المستقبلية التي يبتلى بها الناس كثيرا جدا، فهذه على سبعين جزءا من اجزاء النبوة فالحاصل والناتج انه في مادة الاجتماع تتعارض الروايتان وهو بيت القصيد, اي ان راي المؤمن ورؤياه في اخر الزمن في شؤون الدين هو مورد لتلك الرواية وايضا تشملها هذه الرواية فلو تعارضا في مادة الاجتماع سقطت الرؤيا عن الحجية لو كان المستند هو هذا، هذا اولا.
وثانيا: بل قد لا تصل النوبة للمعارض نظرا للحكومة والناظرية وهذا نتركه للغد بإذن الله تعالى.
وصلى الله على محمد واله الطيبين الطاهرين
[1] - الكافي: ج 2 ص242 وبحار الأنوار ج64 ص159.
[2]- ونؤكد: ان كلامنا هو ان الرؤى في دائرة الدين ليس حجة مطلقا في العقيدة ولا في الشريعة.
[3]- بعض هذه الاجوبة سيالة تنفع في البحث السابق على الرواية السابقة وعلى الرواية اللاحقة: وهي الرواية المشهورة (وانه من راني فقد راني) وسيأتي بحثها. |