بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على محمد وآله الطيبين الطاهرين سيما خليفة الله في الأرضين، واللعنة الدائمة على أعدائهم أجمعين، ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم
مبادئ الاستنباط:
22- مبادئ التشريع ومقاصد الشريعة
فوارق المبادئ([1]) عن القواعد الفقهية
ثم ان مبادئ التشريع وغاياته الكبرى، تختلف عن القواعد الفقهية([2]) بمجموعة من الفوارق – بما يتضح معه معناها وأهميتها أكثر -:
1- ان المبادئ هي منشأ التشريع وسببه وعلته([3]) اما القواعد فهي الـمُنشَأ بالتشريع أي المشرَّعة – بالفتح – فالمبادئ تكون علة([4]) للقواعد([5]) دون العكس، اما المسائل الأصولية فهي بين ممضاة وبين مشرَّعة ومؤسَّسة بما تقع نتيجتها في طريق الحكم الشرعي.
2- ان المبادئ لو عارضتها القواعد، فانها لا تتخصص بها ولو كانت القواعد أخص مطلقاً، كما لا يقال بالتوقف أو التخيير أو التساقط لو كانت نسبتها التباين ولو في مورد الاجتماع لو كانت نسبتها من وجه، بل انها – المبادئ – توجب صرفها عن ظهورها أو شبه ذلك، أما القواعد لو تعارضت فيعمل فيها حسب قواعد التعارض في نسبتيه من الأربعة([6]).
3- ان المبادئ يترجح بها أحد الدليلين المتعارضين على الآخر([7]) فهي كموافقة الكتاب، أو مخالفته عكس القواعد فتأمل
4- ان المبادئ واردة على الاستثناء الوارد على الحاكم على الأدلة([8])
وتوضيح ذلك في الجملة يظهر عبر التطرق لإحدى القواعد الفقهية المعروفة([9]) وهي قاعدة لا حرج على ضوء ما استظهره صاحب الجواهر منها حيث ان الظاهر ان صاحب الجواهر اعتبر (لا حرج) مبدءاً من مبادئ التشريع لا قاعدة من قواعده فرفع رتبتها فوق ربتة العناوين الثانوية.
1- الاستدلال على عدم وجوب تقليد الأعلم بلزوم الحرج
المسألة الأولى:
فقد قال في الجواهر (و على كل حال فـهل يجوز العدول إلى المفضول مع وجوب الأفضل؟ فيه تردد من الاشتراك في الأهلية، ولما هو المعلوم من إفتاء الصحابة مع اختلافهم في الفضيلة وعدم النكير عليهم، فيكون ذلك إجماعاً منهم، ولما في تكليف العامي بذلك من العسر والحرج، لعدم تأهله لمعرفة الأفضل من غيره.
ومن أن الظن بقول الأعلم أقوى فيجب اتباعه، إذ أقوال المفتين بالنسبة إلى المقلد كالأدلة بالنسبة إلى المجتهد في وجوب اتباع الراجح...)([10])
والاستدلال لأحد الوجهين بـ(ولما في تكليف العامي بذلك من العسر والحرج) مبني على القول بكونهما من مبادئ التشريع ومناشئه وعلله إذ استناداً إلى (نفي العسر) يراد نفي جعل الحكم بلزوم إتباع الأعلم؛ إذ الكلام في انه جعل هذا الحكم أم لا؟ وليس في رفع بعض مراتبه لكونها حرجية بعد ثبوت أصله فتدبر جيداً
ويتضح ذلك أكثر بملاحظة انه لو كان (نفي الحرج) قاعدة فقهية بنظر الجواهر، لما صح الاستدلال بجهتين
أ- ان مفاد قاعدة (لا حرج) رفع الحرج الشخصي، لا النوعي، كما هو المشهور([11])، كمفاد لا ضرر، فلو كان يراها قاعدة، للزم ان يستدل بها على رفع الحكم بوجوب تقليد الأعلم على من كان ذلك حرجياً عليه لا مطلقاً([12])
واما لو رآها مبدءاً فانه ينتج عدم جعل هذا الحكم أصلاً لأن الشارع لاحظ أن في جعله حرجاً نوعياً فلم يجعله فلا حكم في صقع الواقع فلا فرق بين كون الشخص ممن يقع في حرج بالالتزام بتقليد الأعلم وعدمه([13]).
ب- ان (لا حرج) لو كانت قاعدة لما صح هذا الاستدلال من جهة أخرى وذلك لأن قاعدة لا حرج، لا ترفع ما كان وارداً مورد الحرج، كالجهاد والخمس والحج([14]) والحدود والديات، فيقال: ان وجوب تقليد العامي للأعلم، وارد مورد الحرج لأن معرفته للأعلم كانت حرجية في أغلب الأحيان فلا يرفع بلا حرج، هذا لو كانت (لا حرج) قاعدة، عكس ما لو كانت مبدءاً من المبادئ فانه يفيد عدم جعل أصل الحكم كما هو ظاهر استدلال الجواهر على عدم وجوب تقليد الأعلم بـ(لما في تكليف العامي بذلك من العسر والحجر) وهذا يعني ان الشارع لم يكلف بتقليد الأعلم للحاظه هذا المنشأ المبدأ – حكمةً أو علةً – فتأمل
2- الاستدلال على جواز التيمم لو خاف ضياع مال، برفع الحرج
المسألة الثانية:
قال في الجواهر: (لا فرق في جواز التيمم بين أن يخاف لصاً أو سبعاً أو يخاف ضياع مال، لكن أشكل الحال على صاحب الحدائق بالنسبة للخوف على المال بعد اعترافه باتفاق الأصحاب عليه، قال: "لعدم الدليل، لظهور الروايتين في الخوف على النفس ومعارضة نفي الحرج ووجوب حفظ المال بما دل على وجوب الوضوء والغسل، بل هي أوضح فلتحكم عليها، ولو سلم فبينها تعارض العموم من وجه، وتحكيم تلك ليس أولى من العكس).([15]) ثم قال الجواهر: (وفيه... ان أدلة العسر والحرج غير قابلة للتخصيص لظهورها ان ليس في الدين ما فيه حرج فليست هي من قبيل الأصل)
ومراده من الأصل: القاعدة لا الأصل العملي كما لا يخفى([16])
والحاصل: ان القواعد تتخصص، اما أدلة العسر والحرج فلا تتخصص، وذلك من خصائص العلل والغايات الكبرى للتشريع والمبادئ فلا حرج – على كلامه – كأدلة العدل والظلم لا تتخصص
واما الدليل على ذلك في عالم الإثبات فهو ما ذكره من (لظهورها ان ليس في الدين ما فيه حرج). فتأمل([17])
وصلى الله على محمد وآله الطاهرين
([1]) أي مبادئ التشريع وغاياته العامة الكبرى.
([2]) بل وعن مسائل الأصول.
([3]) إن التزمنا بذلك، وإلا فهي حِكَم، وعلى القول بالتفصيل فان بعضها علل وبعضها حكم، واما فرق المبادئ عن العلل المعهودة فهو ان المبادئ علل عامة مشتركة وذلك كالرحمة أو رفع العسر والجرح أو (ليعبدون) العامة لمختلف الأبواب أو أكثرها وأما العلل فهي علل خاصة بمواردها وأبوابها (كالإسكار للخمر) فالفرق بالسعة والضيق.
([4]) أو حكمة.
([5]) وللمسائل الأصولية.
([6]) إذ في العموم والخصوص المطلق التعارض غير مستقر، وفي المتساويين لا تعارض فبقيت اثنتان.
([7]) بل تطرح الآخر أو تصرفه.
([8]) فهنا أدلة ثم قد يوجد حاكم عليها ثم للحاكم استثناءات، والمبادئ واردة على هذه الاستثناءات، فهي مقدمة على الأدلة بثلاثة مراتب.
([9]) وعبر ذكر بعض المسائل الفقهية المبتنية لدى بعض الفقهاء على بعض مبادئ التشريع، كما سيأتي.
([10]) الجواهر ج 40 ص43
([11]) أي كلما كان الحرج شخصياً ارتفع الحكم – كما لو كان وضوؤه حرجاً عليه – دون ما لو كان حرجاً على الأغلب ولم يكن حرجاً عليه.
([12]) نعم من يقول بان الملاك الحرج النوعي، وانه الرافع للتكليف وان لم يكن هذا الشخص بعينه ممن يقع في حرج، فانه لا يصح الاستناد لما ذكر في إثبات كونه يعتبر (لا حرج) من المبادئ.
([13]) هذا وإن أمكن أن يلاحظ الشارع الحرج الشخصي. فتدبر
([14]) بناء على كونها كذلك.
([15]) الجواهر ج5 ص102-103
([16]) لوضوح ان الأصل العملي محكوم بالظواهر وانه رتبة متأخر عنها ولوضوح تخصيصه بها، بل الكلام ان الظواهر تتخصص.
([17]) هناك وجوه للتأمل منها: انه قد يقال السبب هو ناظرية أدلة لا حرج وحكومتها فلا تتخصص لذلك لا لكونها مبدءاً، وهذا هو المنصور، لكن لعل ظاهر عبارة الجواهر تأبى ذلك، ومنها: أن الآية الكريمة قد تفسر بخلاف ما استظهره الجواهر منها وسيأتي بإذن الله. |