بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على محمد وآله الطيبين الطاهرين سيما خليفة الله في الأرضين، واللعنة الدائمة الأبدية على أعدائهم أجمعين، ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم
مبادئ الاستنباط
عرض موجز للأقوال وعناوين بعض الأدلة([1]):
قال صاحب العروة في المسألة 67 (محل التقليد ومورده هو الأحكام الفرعية العمليّة ، فلا يجري في أصول الدين، ولا في مسائل أصول الفقه، ولا في مبادئ الاستنباط من النحو والصرف ونحوهما، ولا في الموضوعات المستنبطة العرفية أو اللغوية، ولا في الموضوعات الصرفة)
فقد حصر التقليد – صحةً وجوازاً – في دائرة (الأحكام الفقهية) فقط.
الارتكازان العقلائي والمتشرعي على الرجوع للعالم مطلقا
وقال المحقق العراقي (لا فرق في مرجعية العالم للجاهل بالأحكام الشرعية، بين الفرعية والأصولية([2]) بمقتضى الارتكاز)
أقول: المراد من الارتكاز اما الارتكاز العقلائي أو ارتكاز المتشرعة، وكلاهما صحيح:
اما الارتكاز العقلائي، فلأن العقلاء بما هم عقلاء يُرجِعون الجاهل للعالم – ويَرجِع جاهلهم لعالمهم – من غير فرق بين أنواع المسائل من طب وفلك وهندسة وفقه وأصول وبلاغة ونحو وصرف.
بل نقول: ان ذلك من الفطريات، ولذا تجد حتى الحيوانات يتبع جاهلها – كالفصيل – عالمها، إذ يتّبِع إِثر أمه.
وعلى هذا فان هذا الدليل أعم مما استدل به العراقي إذ يقتضي صحة التقليد في كافة مبادئ الاستنباط
واما ارتكاز المتشرعة، فلأننا نجد في ارتكازهم رجوع عوامّ المتشرعة بل وفضلاءهم إلى الفقهاء في مسائل أصول الفقه أيضاً اما مطلقاً أو في الجملة، كما سيأتي، وعلى ذلك جرت سيرتهم قديماً وحديثاً وهي من الكواشف عن الارتكاز إذ لا ريب في سيرتهم المستمرة الشاملة على سؤال الفقيه عن أمثال حجية الشياع وشروطه وعن حجية خبر الواحد وقيوده وكذا عن موارد وشرائط حجية البينة والإقرار وغيرها من الامارات والحجج، وذلك كسيرتهم على الرجوع للعلماء في مسائل الفقه.
لسان الأدلة في الأصول والفروع واحد
وقال السيد الكلبايكاني (الفرق بينها – أي أصول الفقه - وبين الفرعية مشكل)
أقول: لوضوح كون لسان أكثر أدلة الأصول كلسان أكثر أدلة الفروع – إن لم يكن جمعيها –
فكما ورد (لا يَغْتَبْ بَعْضُكُمْ بَعْضاً) ورد (ولا ينقض اليقين بالشك أبداً ولكنه ينقضه بيقين آخر) في صحيحة زرارة، و(لأنك كنت على يقين من طهارتك ثم شككت فليس ينبغي لك ان تنقض اليقين بالشك أبداً) فكيف يُفرَّق بالأخذ بهذا دون ذاك وان للعامي الرجوع للفقيه في الأول دون الثاني؟
وكما ان لسان (أَقِمْ الصَّلاةَ) و(لا تَقْرَبُوا الزِّنَى) وغيرهما هو لسان الأمر أو النهي، كذلك لسان (إِنْ جَاءَكُمْ فَاسِقٌ بِنَبَإٍ فَتَبَيَّنُوا) إذ هو إيجاب للتبين عند خبر الفاسق والمستفاد منه بمفهوم الشرط أو عموم التعليل في (أَنْ تُصِيبُوا قَوْماً بِجَهَالَةٍ) عدم وجوب التبين([3]) في خبر العادل أو الثقة وهكذا.
شمول الاطلاقات لمبادئ الاستنباط
وقال السيد الوالد (لا يبعد جريان التقليد فيها – أي أصول الفقه – وفيما ذكر بعدها)، أي مبادئ الاستنباط والموضوعات المستنبطة والموضوعات الصرفة.
أقول: من الأدلة على ذلك بناء العقلاء وعمومات وإطلاقات الآيات والروايات، كما سيأتي.
وقال السيد العم (الحكم المترتب على جميع ما ذكر) يعني حتى أصول الدين (مورد التقليد مع ان جريان التقليد في انفسها غير بعيد)
أقول: اما كون الحكم المترتب مورداً للتقليد فأمره هيّن، انما جريان التقليد فيها بانفسها هو المحتاج لمؤونة في خصوص أصول الدين ولا بد من ملاحظة دليله لأن ذلك مخالف للمشهور بل لما ادعى عليه العلامة الحلي من الإجماع على حرمة التقليد في أصول الدين، ولكن الحق انه لا إجماع بل الأقوال ستة، كما ذكرها الشيخ في الرسائل نعم المشهور على ذلك، فاللازم ملاحظة الأدلة([4])
النقض على من انكر جريان التقليد في مبادئ الاستنباط
وقال السيد الشريعتمداري:
(لا مانع من التقليد في بعض مسائل أصول الفقه إذا كان محلّ ابتلاء المقلِّد، وتقدّم من الماتن وجوب تقليد الحيّ الأعلم في مسألة جواز البقاء على تقليد الميت، وفي مسألة وجوب تقليد الأعلم)
أقول: نقض السيد الشريعتمداري على صاحب العروة بمخالفة عمله وسيرته وفتاواه في المسائل المختلفة، لمبناه ههنا، إذ إذا لم يصح التقليد في أصول الفقه فكيف أفتى بنفسه بوجوب تقليد الحي وبوجوب تقليد الأعلم([5])
وقد يجاب: بانهما من المسائل الفقهية إذ البحث عن فعل المكلف (وهو التقليد) وحكمه من الوجوب والجواز
وفيه: نقضاً بامكان عدّ سائر مسائل الأصول، فقهية نظراً للحكم فيها بالجواز والحرمة تبعاً للسان الآيات والروايات فمثلاً عدم جواز نقض اليقين بالشك هو حكم موضوعُهُ فعل المكلف (نقض اليقين بالشك) لقوله عليه السلام في صحيحة زرارة (لا ينقض اليقين بالشك)
وكذا وجوب قبول خبر الثقة لقوله تعالى: (فَاسْأَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ) وقوله عليه السلام (خذوا ما رووا) وغيرهما
وحلاً: بان (الحجية) وهي حكم وضعي، متفرعة على جواز الأخذ والعمل أو وجوبه وهو حكم تكليفي، ووزانها في الكل واحد فإذا جرى التقليد في بعضها وجاز، جرى وجاز في الأخريات، وإلا فلا.
امتناع أو حرجية إلزام العامي بالاجتهاد فيها
وقال: (لا مانع من التقليد في النحو والصرف وفي غير ما يقع في طريق الاستنباط، كصيغ العقود والإيقاعات والأذان والإقامة والقراءة، وكذلك لا مانع منه في الموضوعات المستنبطة كالصعيد والغناء، وقد أفتى المصنّف وغيره في هذا الكتاب وغيره في مسائل كثيرة مربوطة بالموضوعات المستنبطة، فإنّ أدلة التقليد تجري فيها ولا يقدر المقلِّد على استنباطها غالباً)
أقول: توضيحه ان صيغ العقود لا تقع في طريق الاستنباط بل هي بنفسها ما أدى إليه الاستنباط أي هي من المؤدَّيات لا الطرق والحجج
ويكفي للتمثيل بضرورة ثبوت التقليد في مثل ذلك مسألة تحقق الطلاق وعدمه بقوله انت مطلَّقة أو طلقتك منشِئاً أو حتى (انت طلاق) – بصيغة المصدر من باب المبالغة كزيد عدل – فان ذلك مما لا يدركه العامي بل لا بد ان يقلد فيه، وكذلك (القراءة) وهل تنطق الضاد بلهجة أهل الحجاز وهي بين الدال والطاء أو بلهجة أهل العراق المساوية للظاء تماما أو هو مخير بينهما، فان المرجع الفقيه([6]).
و(الصعيد) موضوع مستنبط لغوي، فهل هو مطلق وجه الأرض او خصوص التراب؟
واما (الغناء) فهو موضوع مستنبط عرفي
كما نَقَضَ السيد الشريعتمداري على صاحب العروة بفتواه – أي صاحب العروة - في مواطن شتى في الموضوعات المستنبطة
واما قوله (ولا يقدر المقلِّد على استنباطها غالباً) فان ذلك بيّن بالوجدان في العامي المحض، وهو عسر وحرج حتى على الفضلاء من الطلبة فكيف بالعوام، فلا يمكن ان يكون الشارع قد شرَّع وجوب الاجتهاد على العامي فيها ولم يجوّز تقليده المجتهد
لكن هذا مبني على كون (لا حرج) مبدأ من مبادئ التشريع وانه مثبت للحكم لا ناف فقط كما ذهب إليه صاحب الجواهر مما ناقشناه سابقاً بالتفصيل فلاحظ وتأمل
وصلى الله على محمد وآله الطاهرين
([1]) وسنتطرق الآن بإيجاز للأدلة، وبعض مؤيداتها أو بعض المناقشات فيها دون مزيد أخذ ورد، ثم نتوقف طويلاً بإذن الله تعالى عند بعضها بحثاً ومناقشة.
([2]) مراده أصول الفقه وليس أصول الدين.
([3]) وعدم وجوبه أعم من جواز العمل بمضمونه ومن وجوبه، تبعاً لمتضمنَّه فتدبر
([4]) فصلنا الحديث عن ذلك في (مباحث الأصول: الاجتهاد في أصول الدين) فراجع
([5]) إذ لا يفتي إلا للعامي ليعمل بالفتوى ولو لم يجر التقليد فيها لكانت الفتوى اغراءاً بالجهل محرما، أو لا أقل من لغويتها.
([6]) أو مطلق أهل الخبرة كما سيأتي. |