بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على محمد وآله الطيبين الطاهرين سيما خليفة الله في الأرضين، واللعنة الدائمة الأبدية على أعدائهم أجمعين، ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم
مبادئ الاستنباط
وجهان لصحة الرجوع في الشبهة المفهومية للفقيه
وقال السيد الميرزا مهدي الشيرازي (بل يجري فيها كما في الغناء والآنية والصعيد مما تكون الشبهة فيه في المفهوم لرجوعه إلى التقليد في الحكم)
أقول:
يمكن ان يضاف إلى تعليله (الرجوع...) التعليل بكونه مأخوذاً موضوعاً لحكمه – أي الشارع – فلا يعقل القول بعدم صحة الرجوع إليه فيه، غاية الأمر ان يقال انه لا يجب عليه التدخل والتحديد، بل نقول انه يحسن له ذلك فان من الواضح ان عناية الشارع أو أي مشرّع آخر بحكمه تقتضي عنايته بموضوع حكمه أيضاً، وان تحديده له تسهيل وتفضُّل ولطف مقرب للطاعة.
التفصيل بين المستنبط الشرعي وغيره
ثم انه قد يفصل بين الموضوع المستنبط الشرعي وغيره كالمستنبط اللغوي، بجريان التقليد في الأوّل لأنه في حيطة الشرع وكونه مجعولاً له أو محط تصرفه توسعة وتضييقاً فيكون من مقتضى القاعدة مرجعيته ودخالته وجريان التقليد فيه لأن وضعه كرفعة بيده وكذلك توسعته وتضييقه، عكس المستنبط اللغوي فأنه ليس في مجال حيطة الشارع بما هو شارع.
ويظهر الجواب عن هذا التفصيل بملاحظة الدليلين الآنفين، إذ لا فرق عليهما بين كون الموضوع المستنبط شرعياً أو لغوياً لرجوع التقليد فيهما إلى التقليد في الحكم، ولكونهما موضوعاً لحكمه فهما محط عنايته وهما في حيطته بلحاظ آثاره وأحكامه.
من أدلة مرجعية الفقيه في الشبهات المصداقية
ولكن قد يورد على تخصيصه، كالمشهور، المرجعية بالشبهة المفهومية بان مقتضى الأدلة، حسب المستظهر، صحة الرجوع للشارع في الشبهات المصداقية الناشئة من اشتباه الأمور الخارجية أيضاً، بل المستظهر حسن الرجوع له لو لم يزاحم بالأهم، وذلك لأن بيانه للمصداق، لطفٌ مقرِّب للطاعة، واللطف بين واجب ومستحب، وعلى ذلك بناء العقلاء أيضاً فان الموالي العرفية كثيراً ما يحددون المصداق، ولا نجد نكيراً عليهم لو حددوا، بل ان المشاهد تحديد الفقهاء في كثير من الأوقات للمصداق أيضاً، ككون هذا البلد وطناً له أولا، وككون الخاويار ذا فلس أو لا، وككون السمك المصطاد في البلاد الغربية حلالاً أم لا للشك في انه يموت في الشباك في الماء أو خارجه، وهكذا
والظاهر ان الرجوع لهم بما هم فقهاء جامعون للشرائط، لا بما هم أهل خبرة([1])، بل حتى لو كان لذلك لكفى فان عمدة دليل التقليد هو بناء العقلاء من باب رجوع الجاهل للعالم، ولا فرق فيه بين الشبهة المفهومية والمصداقية، والتقليد ليس إلا العمل عن استناد أو الاستناد في العمل أو قبول قول الغير فهو بعينه الرجوع لأهل الخبرة إلا ان الشارع اشترط فيه شرائط إضافية لمزيد الحائطة ولا مدخلية لتلك الشرائط بتحديد مرجعيته في المفهوم دون المصداق.
والحاصل انه لا حقيقة شرعية للتقليد بل هو باق على معناه اللغوي والعرفي، غاية الأمر إضافة الشارع بعض الشرائط في المقلَّد فتأمل
كما يدل على ذلك تصدي الأئمة عليهم السلام لتحديد المصاديق في المئات – إن لم يكن الألوف - من المصاديق.
ومنها: تحديدهم موارد من مصاديق التقية
ومنها: تحديدهم من ينخرط في سلك الدولة – كعلي بن يقطين – ومن لا ينخرط.
ومنها: تشخيصهم وتحديدهم من يتاجر وبكم يتاجر وأين يتاجر([2]) إلى غير ذلك
ومنها: تحديدهم من يفتي – كمصداق - كآبان بن تغلب مثلاً، ومن يحاور ويناظر وهكذا
ومنها: تحديدهم الغالي والكذّاب ولعنهم لأفراد بأسمائهم وتوثيق وتعديل أفراد والإرجاع لهم، وهكذا فان الظاهر ان ذلك تمّ بما هو إمام لا بما هو أهل خبرة. فتأمل
أدلة الحجية شاملة لما عَدِم الآثار الشرعية
وقال السيد السبزواري (الظاهر صحة التقليد في الجميع إن كانت لها آثار شرعية وعجز العامي عن دركها).
أقول: تقييده بـ(ان كانت لها آثار شرعية) لتصحيح شمول أدلة جعل الحجية لرأي المقلَّد اذ لو لم تكن للموضوع آثار شرعية فلا وجه لأن يجعل الشارع، بما هو شارع، الحجية لرأي الفقيه فيه.
لكن يرد عليه:
أولاً عدم انحصار أدلة الحجية بالأدلة الشرعية، بل ان بعض الأدلة، كبناء العقلاء بل هو عمدتها، عام يشمل ماله آثار شرعية وغيره.
والحاصل انه مصداق رجوع الجاهل للعالم ولا فرق فيه بين ذي الأثر الشرعي وغيره
ثانياً: بل حتى الأدلة الشرعية، فانها حيث كانت امضائية عمّت إذ من خلاف الظاهر دعوى انحصار امضاء الشارع للحجج العقلائية على المستدل عليه بها بخصوص ما كان له أثر شرعي فانه خلاف ظهور إطلاق أدلة الامضاء عرفاً، وان أمكن في الدقة
فمثلاً قوله تعالى (إِنْ جَاءَكُمْ فَاسِقٌ بِنَبَإٍ فَتَبَيَّنُوا) فان مفهوم الشرط وعموم التعليل، مطلق بل أعم من ذي الأثر وغيره، وظاهر الآية الإرجاع إلى أمر ارتكازي عقلائي وهو مدارية الجهالة وملاكيتها التامة.
وكذلك قوله (عليه السلام) (فما ادى إليك عني فعني يؤدي) أرايت انه لو أخبر السامع عن قول الإمام تحديده المصداق وان هذا خمر أو ذلك فاسق، انه لم يؤد عن الإمام (عليه السلام)؟ وأنه لو ادّى عنه فلا حجية له؟ واما الانصراف فبدوي جداً، فتأمل فيما سبق جيداً
وصلى الله على محمد وآله الطاهرين
([1]) فصلنا الحديث عن ذلك في كتاب الأوامر المولوية والإرشادية، كما أشرنا إليه سابقاً في مبحث القضية الخارجية، كما ذكر الوالد في (الفقه المال) روايات عديدة دالة على ذلك.
([2]) ولذلك يرجعون للفقهاء لا لأهل الخبرة، في كثير من المسائل، فتأمل |