بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على محمد وآله الطيبين الطاهرين سيما خليفة الله في الأرضين، واللعنة الدائمة الأبدية على أعدائهم أجمعين، ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم
مبادئ الاستنباط
3- الأعلم هو الأعلم في الفقه
وقد يقال: ان الأعلم هو الأعلم في الفقه، وذلك لأحد الوجوه التالية:
أ- (الأعلم) موضوع فيؤخذ من العرف
أ- ان الأعلم موضوع من الموضوعات، وهي مما تؤخذ من العرف لقوله تعالى: (وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ رَسُولٍ إِلاَّ بِلِسَانِ قَوْمِهِ...) ولم تثبت فيه حقيقة شرعية([1])، والعرف يرى الأفقه في الفقه هو الأعلم لا الأصول.
وقد يجاب بان الموضوعات على قسمين: موضوعات ظاهرة واضحة وأخرى فيها نوع خفاء وعمق ودقة، والمرجع في الأول هو العرف العام أما في الثاني فالمرجع هو العرف الخاص؛ ولذا نرجع في تحديد معاني الموضوعات الطبية والفلكية وشبهها إلى أهل الاختصاص لا إلى عامة الناس.
و(الأعلم) من قبيل الموضوعات الخفية الدقيقة التي لا بد ان يرجع فيها للعرف الخاص، أي الفقهاء والأصوليين، إذ من اين يعرف العامي موقع الأصول من الفقه وعمق تشابكه معه وتأثيره فيه بل توقفه عليه؟ وما لم يتصور حقيقة العِلمين وعمق الترابط بينهما كيف يمكنه التصديق بمدخلية الأصول في الأعلمية وعدمها؟
ولكن قد يورد على ذلك بان الأمر عائد إلى مدرك القول بوجوب تقليد الأعلم ووجه عدم حجية نظر غيره، فان كان هو الدليل العقلي كان المرجع العرف الخاص وإن كان الدليل النقلي كان المرجع العرف العام.
توضيحه: ان العقل ان كان هو الحجة على وجوب تقليد الأعلم ومبرئيته حصراً للذمة وكونه الحجة لا غير، بملاك أقربية نظره للواقع، فان هذا الملاك (الاقربية) مما لا يدركه إلا أهل الخبرة العارفين بكلا العلمين ليحكموا بان الأعلم في الأصول هو الأقرب للإصابة وللوصول إلى الواقع أو الأعلم في الفقه.
وإن كانت الآيات والروايات هي الحجة – أي المحتج بها - كان المرجع العرف العام، ولذلك لأن لفظة الأعلم أو الأفقه لو وردتا في الأحاديث – وقد وردتا – فانها قد ألقيت للعرف على ما يفهمه من ظاهر الكلمة بارتكازه أو بفطرته، إذ يظهر من إلقاء الشارع الموضوع له انه اعتبر ما يفهمه من الكلمة – وان لم يفهم أعماقها وأبعادها – هو ما اعتبره الشارع الموضوع([2]) فتأمل([3])، وسيتضح هذا أكثر بملاحظة الوجه الثاني.
ب- (الأفقه) قد ورد في الروايات، والقرائن على إرادة الأفقه في الفقه
ب- ان كلمة (الأفقه) و(الأعلم) قد وردت في الروايات فلا بد ان ندرس المراد منها بالرجوع إلى العرف وهو ما ضمنّاه في الوجه الأول، أو الرجوع إلى القرائن الداخلية والخارجية في الروايات، وهناك مجموعة قرائن تدل على ان المراد الأفقه في علم الفقه كما سيأتي
فمن الروايات قوله (عليه السلام) ((أَنْتُمْ أَفْقَهُ النَّاسِ إِذَا عَرَفْتُمْ مَعَانِيَ كَلَامِنَا إِنَّ الْكَلِمَةَ لَتَنْصَرِفُ عَلَى وُجُوهٍ فَلَوْ شَاءَ إِنْسَانٌ لَصَرَفَ كَلَامَهُ كَيْفَ شَاءَ وَ لَا يَكْذِبُ))([4])
ومنها: ((الْحُكْمُ مَا حَكَمَ بِهِ أَعْدَلُهُمَا وَ أَفْقَهُهُمَا وَ أَصْدَقُهُمَا فِي الْحَدِيثِ وَ أَوْرَعُهُمَا))([5])
ومنها: ((يُنْظَرُ إِلَى أَفْقَهِهِمَا وَ أَعْلَمِهِمَا بِأَحَادِيثِنَا وَ أَوْرَعِهِمَا فَيُنْفَذُ حُكْمُهُ وَ لَا يُلْتَفَتُ إِلَى الْآخَرِ)) ([6])
واما القرائن:
فمنها: ان ظاهر الحديث هو ان المدار على الأفقه وظاهره الأعلم بالفقه، وإلا لجعله (الأعلم بالأصول)([7]) إلا ان يدعى صدق الأفقه على الأفقه في الأصول أيضاً. وسيأتي
هل المراد بالأفقه المعنى اللغوي؟
لا يقال: أريد بالأفقه المعنى اللغوي أي الأفهم
إذ يقال: أولاً: قد يستظهر الحقيقة الشرعية([8]) وإلا فالمتشرعية للفقه في المعنى المصطلح دون مطلق الفهم، ويشهد به تتبع استعمالات الفقه والتفقه زمن الصادقين عليهما السلام فتأمل
ثانياً: سلمنا، لكن ظاهره بلحاظ وروده كمرجع في الحكم وقوله ((الْحُكْمُ مَا حَكَمَ بِهِ أَعْدَلُهُمَا وَ أَفْقَهُهُمَا وَ أَصْدَقُهُمَا فِي الْحَدِيثِ وَ أَوْرَعُهُمَا)) هو ان المراد الفقه بالمعنى الأخص فان الحكم هو ما يرتبط بالفقيه بالمعنى الأخص، لا بالمعنى الأعم وهو مطلق الفهم.
وفيه: انه وإن صح لنفي إرادة مطلق المعنى اللغوي، لكنه لا يصح لنفي إرادة أصول الفقه إذ ان (الحكم) موقوف على فقهه بمعاني كلماتهم، وهي أعم من الأصول والفقه فان الأصول كالفقه مبتنٍ على رواياتهم وعلى الآيات فلاحظ حجية الظواهر وخبر الثقة والاستصحاب.. الخ فانها بأجمعها مبنية على الاستظهار من الآيات والروايات ومن التفقه في معناها وإن ضُمَّ إليها مثل بناء العقلاء أحياناً.
والحاصل: انه قد يقال ان هذه الروايات لا يظهر منها ترجيح للأفقه في الأصول على الأفقه في الفقه أو العكس لأن ظاهر الأحاديث، خاصة الأول والأخير ان المرجع هو الأعلم والأفقه في الروايات، لا الأصول ولا الفقه، وحيث ابتنى كلا العلمين على الروايات كان الأفقه فيها هو الأعلم. فتأمل
واما تعارض الأفقه في روايات الأصول مع الأفقه في روايات الفقه فهو كتعارض الأفقه في روايات شطر من الفقه كباب القضاء مثلاً مع روايات شطر آخر منه كباب إحياء الموات مثلاً أو كتعارض الأفقه في شطر من الأصول كمباحث الألفاظ مع الأفقه في شطر آخر منه كمباحث الاستلزامات أو مباحث الأصول العملية مع مباحث التعادل والترجيح، في كل ما عاد الاستدلال إلى الآيات والروايات أو مطلقا، ففي صورة التعارض لا بد من التماس دليل آخر أو القول بالتخيير أو التساقط، أو التبعيض([9])، ولا تفي هذه الروايات بذلك.
وصلى الله على محمد وآله الطاهرين
([1]) بل الفقه هو المصطلح من مصاديق الفقه اللغوي، ولا وضع تعيني ثانٍ فيه. فتأمل
([2]) على سعته أو على المسامحة المتوهمة فيه لدى المدقق
([3]) إذ قد يقال: المرجع العرف في تحديد مفهوم الأعلم وانه الأدق أو الأقوى ملكة أو الأكثر إحاطة... الخ لا تحديد مصداقه من انه قائم بهذا العلم أو ذاك فان تحديد المصداق مرجعه الدقة العقلية. فتأمل
([4]) وسائل الشيعة ج27 ص117.
([5]) الكافي ج1 ص67.
([6]) وسائل الشيعة ج27 ص113.
([7]) وإن شئت قلت، كمصدر جعلي، (الأءصل) أو (الآصل) أي الأقوى والأعلم في الأصول.
([8]) المقصود نقلها إلى المعنى المصطلح.
([9]) كما هو الأظهر ان لم تبتنِ المسألة على مجموع المبنيين – اللذين كان أحدهما أعلم في احدهما عكس الآخر - |