بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على محمد وآله الطيبين الطاهرين سيما خليفة الله في الأرضين، واللعنة الدائمة الأبدية على أعدائهم أجمعين، ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم
مبادئ الاستنباط
الشاهد الثاني مقدمة الواجب
فقد أُختلف في مقدمة الواجب، بعد الاتفاق على وجوبها العقلي بمعنى اللابدية، في وجوبها الشرعي بمعنى مولوية الأمر المتعلق بها وإن كان غيريا أو كونه – الأمر - إرشادياً لا غير.
ظاهر الأدلة الخاصة: مولوية الأوامر المتعلقة بالمقدمات
والمستظهر ان مراجعة الأدلة الخاصة في المسائل الفقهية الجزئية، هو الطريق لاقربية الإصابة([1]) وهو الكاشف عن الحكم ومقتضى القاعدة في المسألة الأصولية أيضاً.
أ- قوله تعالى إِلاَّ كُتِبَ لَهُمْ بِهِ عَمَلٌ صَالِحٌ)
فمثلاً قوله تعالى (مَا كَانَ لأَهْلِ الْمَدِينَةِ وَمَنْ حَوْلَهُمْ مِنَ الأَعْرَابِ أَنْ يَتَخَلَّفُوا عَنْ رَسُولِ اللَّهِ وَلا يَرْغَبُوا بِأَنفُسِهِمْ عَنْ نَفْسِهِ ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ لا يُصِيبُهُمْ ظَمَأٌ وَلا نَصَبٌ وَلا مَخْمَصَةٌ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلا يَطَئُونَ مَوْطِئاً يَغِيظُ الْكُفَّارَ وَلا يَنَالُونَ مِنْ عَدُوٍّ نَيْلاً إِلاَّ كُتِبَ لَهُمْ بِهِ عَمَلٌ صَالِحٌ إِنَّ اللَّهَ لا يُضِيعُ أَجْرَ الْمُحْسِنِينَ * وَلا يُنفِقُونَ نَفَقَةً صَغِيرَةً وَلا كَبِيرَةً وَلا يَقْطَعُونَ وَادِياً إِلاَّ كُتِبَ لَهُمْ لِيَجْزِيَهُمْ اللَّهُ أَحْسَنَ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ) ([2])
فان من الواضح ان تلك المقدمات بنفسها اعتبرت عملاً صالحاً([3]) ورتب عليها الثواب والجزاء بـ(أَحْسَنَ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ)، وإن كان منشؤُها وقوعها مقدمةً فان ذلك معنى الوجوب المولوي الغيري أو نتيجته، ولم يرتب على ذي المقدمة باعتباره أحمز نظراً لمقدماته الكثيرة ولا انه رتب على المقدمات من باب التفضل، كما ابدى الآخوند هذين الاحتمالين([4]) حيث بنى على عدم وجوب المقدمة مولوياً ففرّع عليه التوجيهين فانه خلاف ظاهر الآية بل لعله خلاف نصها بحسب المتفاهم العرفي منها، إذ كيف يتوهم ان معنى الآية (إِلاَّ كُتِبَ لَهُمْ بِهِ عَمَلٌ صَالِحٌ) أي بذي المقدمة لاحمزيته بصعوبة مقدماته مع صراحة رجوع الضمير إلى: الظمأ، النصب المخمصة، وطؤهم موطأ يغيظ الكفار، قطعهم واديا!؟!
خاصة مع لحاظ تعلق الثواب([5]) بكل ما ذكر بوزان واحد، ومنه الواجب النفسي (ينالون من عدو نيلاً، فانه الجهاد بنفسه، وإنفاق النفقة فانها بين واجب ومستحب نفسي إذ الجهاد بالأموال كالجهاد بالأنفس نفسي) كما ان منه الغيري (الظمأ، النصب وهو تعب الطريق، المخمصة والجوع، وطأ ما يغيظ الكفار، قطع الوادي).
بل ان بعضها ليس بمقدمة للواجب بل هو مقارن له أو واقعٌ في ظرفه، كالظمأ فانه ليس مقدمة الجهاد إذ المقدمة هي المشي وما أشبه بل هو مقارن أو واقع في ظرف المقدمة ومع ذلك فقد رتب عليه الثواب.
ب- ثواب المشي إلى زيارة الإمام الحسين ( عليه السلام )
وكذلك الأمر في ثواب المشي إلى زيارة الإمام الحسين عليه الصلاة والسلام فقد ورد ((عَنِ الْحُسَيْنِ بْنِ ثُوَيْرِ بْنِ أَبِي فَاخِتَةَ قَالَ قَالَ أَبُو عَبْدِ اللَّهِ ( عليه السلام ) يَا حُسَيْنُ إِنَّهُ مَنْ خَرَجَ مِنْ مَنْزِلِهِ يُرِيدُ زِيَارَةَ قَبْرِ الْحُسَيْنِ بْنِ عَلِيٍّ ( عليه السلام ) إِنْ كَانَ مَاشِياً كُتِبَتْ لَهُ بِكُلِّ خُطْوَةٍ حَسَنَةٌ وَ مُحِيَ عَنْهُ سَيِّئَةٌ وَإِنْ كَانَ رَاكِباً كُتِبَتْ لَهُ بِكُلِّ خُطْوَةٍ حَسَنَةٌ وَحُطَّ بِهَا عَنْهُ سَيِّئَةٌ حَتَّى إِذَا صَارَ فِي الْحَيْرِ كَتَبَهُ اللَّهُ مِنَ الْمُفْلِحِينَ الْمُنْجِحِينَ حَتَّى إِذَا قَضَى مَنَاسِكَهُ كَتَبَهُ اللَّهُ مِنَ الْفَائِزِينَ حَتَّى إِذَا أَرَادَ الِانْصِرَافَ أَتَاهُ مَلَكٌ فَقَالَ لَهُ إِنَّ رَسُولَ اللَّهِ يُقْرِئُكَ السَّلَامَ وَ يَقُولُ لَكَ اسْتَأْنِفِ الْعَمَلَ فَقَدْ غَفَرَ اللَّهُ لَكَ مَا مَضَى))([6])
فان ظاهره بل نصه على ان الثواب على نفس الخطوات مع انها مقدمة دون شك ولو كان الأمر إرشادياً لما كان وجه لترتب الثواب عليه وكونه حسنةً.
والحاصل: ان الظاهر ان الوجوب الغيري في الآية والروايات، مترشح من ذي المقدمة على مقدماتها وانه يستحق الثواب على نفس المقدمات، وهذا هو المتفاهم عرفاً أو انه منبسط على ذي المقدمة والمقدمة معاً.
آيات عديدة أخرى
وكذلك الحال في قوله تعالى: (فَأَمْسِكُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ أَوْ فَارِقُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ وَأَشْهِدُوا ذَوَى عَدْلٍ مِنْكُمْ) ([7]) فان الواضح عرفاً للمتلقي ان وزان الوجوب في (امسكوهن.. فارقوهن.. واشهدوا) واحد، واما احتمال الوجوب الشرطي لـ(واشهدوا)([8]) فبعيد غايته من ظاهر الكلام بل انه مما يحتاج إلى تعمُّل وتكلف شديد يأباه الذوق العرفي السليم إذ يعني ذلك (يجب ان تمسكوهن أو تفارقوهن بالمعروف ويشترط في وقوع المفارقة إشهاد عادلين)، وهو غريب حقاً، بل ظاهره الأمر بالإمساك أو المفارقة والأمر بالإشهاد كي تقع المفارقة والطلاق.
وقوله تعالى: (إِنْ جَاءَكُمْ فَاسِقٌ بِنَبَإٍ فَتَبَيَّنُوا) إذ ظاهره وجوب التبيُّن غيرِيَّا وأن الأمر مولوي لصدوره من المولى بما هو مولى معمِلاً مقام مولويته على ما فصلناه في ضابط المولوية والإرشادية في كتاب (الأوامر المولوية والإرشادية) فراجع.
وكذلك قوله تعالى ( إِذَا جَاءَكُمْ الْمُؤْمِنَاتُ مُهَاجِرَاتٍ فَامْتَحِنُوهُنَّ) وهكذا.
الجواب عن شبهة: الأمر المقدمي أما لغو أو غير باعث
لا يقال: الأمر المقدمي اما لغو أو غير باعث، أما الأول ففيما إذا كان بصدد الإتيان بالمأمور به (ذي المقدمة) واما الثاني ففيما إذا لم يكن بصدد الإتيان – كما ذكره البعض.
إذ يجاب: بأجوبة عديدة([9]) ومنها: ان الباعثية حقيقة تشكيكية ذات مراتب ولا شك ان الأمر بذي المقدمة قد يوجد باعثاً ضعيفاً وانه قد يكون الأمر بالمقدمة أيضاً مقوِّيا للباعث ومتمماً له، كما نجد ذلك في تكرير الأمر بالشيء الواحد فان كل واحد منها جزء العلة للانبعاث.
والحاصل: ان الرجوع إلى الأدلة الخاصة بمعونة الذوق العرفي بل الوجدان والفطرة كثيراً ما يكون السبب في التنقيح الأجود والأصوب والأدق للمسألة الأصولية.
وزان الإرادة التشريعية كالتكوينية
ويؤكد ذلك كله ما ذكره الميرزا النائيني في فوائد الأصول([10]) من ان وزان الإرادة التشريعية هو وزان الإرادة التكوينية في انه كما تتعلق الإرادة التكوينية بذي المقدمة بجميع([11]) مقدماتها فإن الإنسان لو أراد شيئاً أراد مقدماته حتماً وإن كان لأجل إيصالها إليه بل يستحيل أن لا يريد المقدمات مع علمه بإدائها إلى المقصود المطلوب وتوقفه عليها، كذلك التشريعية، والفارق بينهما هو في ان التكوينية تتعلق بفعل النفس والتشريعية تتعلق بفعل الغير.
الحق: التفصيل
والحق التفصيل في المسألة وان الأعلم في الأصول قد يكون هو الأعلم في الفقه وقد يكون العكس أي ان الأعلم في الفقه هو الأعلم في الأصول، وقد يلزم اجتماعهما معاً لتصدق الأعلمية بالحمل الشائع الصناعي، وذلك حسب صور المسائل الفقهية والأصولية، وهذه عناوين تلك الصور:
الصورة الأولى: فقدان الدليل الخاص في المسألة الفقهية، فان من الواضح ان المسألة الأصولية ستكون هي المرجع والملاك عندئذٍ إذ لا معارض فيكون الأعلم فيها هو الأعلم فيما يتفرع عليها من المسائل الفقهية.
الصورة الثانية: تعارض الأدلة الخاصة، إذ عندئذٍ لا بد من الرجوع للأصول وتحقيق الحال في ذلك وان مقتضى القاعدة التساقط؟ أو التخيير؟ أو الترجيح بالمرجحات المنصوصة؟ أم حتى بغير المنصوصة؟ فان كل ذلك مما يتوقف على علم الأصول فالأعلم في نظائر ذلك هو الأعلم بالحكم الفقهي الفرعي بالتبع. وللحديث صلة
وصلى الله على محمد وآله الطاهرين
([1]) فانها المحور وعليها المدار بناء على تبعية الأحكام لمصالح ومفاسد في المتعلقات، كما عليه العدلية، والخارج استثناء محتاج إلى دليل.
([2]) التوبة آية 120- 121.
([3]) لظهور (به) في الآية في كون الباء للسببية والأمر كذلك لو كانت للمقابلة.
([4]) ابداهما في مثال ثواب زيارة الإمام الحسين ( عليه السلام ) فلا تغفل.
([5]) وهو المفهوم من ( كُتِبَ لَهُمْ بِهِ عَمَلٌ صَالِحٌ) و( لا يُضِيعُ أَجْرَ الْمُحْسِنِينَ) و( لِيَجْزِيَهُمْ اللَّهُ أَحْسَنَ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ)
([6]) بحار الأنوار ج 98 ص27 وكما ورد في كامل الزيارات ص 134((مَنْ زَارَ الْحُسَيْنَ ( عليه السلام ) مِنْ شِيعَتِنَا لَمْ يَرْجِعْ حَتَّى يُغْفَرَ لَهُ كُلُّ ذَنْبٍ وَ يُكْتَبَ لَهُ بِكُلِّ خُطْوَةٍ خَطَاهَا وَ كُلِّ يَدٍ رَفَعَتْهَا دَابَّتُهُ أَلْفُ حَسَنَةٍ وَ مُحِيَ عَنْهُ أَلْفُ سَيِّئَةٍ وَ يُرْفَعُ لَهُ أَلْفُ دَرَجَةٍ)) وص144 ((من زار الحسين محتسبا لا أشرا و لا بطرا و لا رياء و لا سمعة محصت عنه ذنوبه كما يمحص الثوب بالماء فلا يبقى عليه دنس و يكتب له بكل خطوة حجة و كلما رفع قدما عمرة)) و ص184 ((قُلْتُ لِأَبِي عَبْدِ اللَّهِ ( عليه السلام ) فِي حَدِيثٍ لَهُ طَوِيلٍ قَالَ وَيْحَكَ يَا بَشِيرُ إِنَّ الْمُؤْمِنَ إِذَا أَتَاهُ عَارِفاً بِحَقِّهِ وَاغْتَسَلَ فِي الْفُرَاتِ كُتِبَ لَهُ بِكُلِّ خُطْوَةٍ حَجَّةٌ وَعُمْرَةٌ مَبْرُورَاتٌ مُتَقَبَّلَاتٌ وَغَزْوَةٌ مَعَ نَبِيٍّ أَوْ إِمَامٍ عَادِلٍ))
([7]) الطلاق آية 2.
([8]) أي شرطية حضور العدلين في صحة الطلاق، كما ادعاه مصباح الأصول ج1 ق1 ص547، وقد ناقشنا استدلاليه مفصلاً في بعض مباحثنا.
([9]) ذكرنا مجموعة منها في كتاب الأوامر المولوية والإرشادية وفي كتاب فقه التعاون في دفع إشكال اللغوية عن تعلق الأوامر المولوية بالمستقلات العقلية.
([10]) فوائد الأصول ج1 ص284.
([11]) الباء هنا بمعنى مع. |