بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على محمد وآله الطيبين الطاهرين سيما خليفة الله في الأرضيين، واللعنة الدائمة الأبدية على أعدائهم أجمعين، ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم
مبادئ الاستنباط
فائدة : ( المعاريض والتوريه ) مسألتان اصوليتان:
ان مبحث المعاريض والتورية ونظائرهما واقسامهما هو مبحث ذو فائدة مزدوجة فانه من جهة يوضح بعداً من ابعاد اجودية الفهم للاخبار ويبرهن توقف الاعلمية في الفقه على الاعلمية في الحجج الخفية ايضاً ، بناءاً على ان ملاكها اجودية الفهم لها[1] ولايكون اجود فهماً إلا لو عرف المعاريض والتورية وأنواعهما اضافة الى معرفته بالحجج الجلية فليس الملاك الاعلمية في الاصول بماهو
ومن جهة فإن هذه المسألة تعدّ من مبادئ الاستنباط القريبة بل هي مندرجة في موضوع علم الاصول وهو ( الحجة المشتركة القريبة في الفقه ) فهي من مسائله وينطبق عليها اضافة الى موضوع التعريف المختار، ضابط المسألة الاصولية حسب ما اختاره العديد من الاعلام وهو : الكبريات التي تقع بنفسها في طريق استباط الحكم الكلي الشرعي ، من دون الحاجة الى ضميمة كبرى أو صغرى اصولية اخرى اليه ، والتي بضمها الى صغرياتها تنتج الحكم الشرعي[2]
ثالثاً : ان يريد الظاهر والباطن معاً
فقد ورّى بالظاهر عن ارادة الباطن من غير نفي ارادة الظاهر ، عكس القسم الاول حيث نفي فيه
والى ذلك ينظر قوله ( عليه السلام ) ( العياشي ، في تفسيره عن حماد بن عثمان قال : قلت لابي عبد الله ( عليه السلام ) ان الاحاديث تختلف عنكم قال فقال : ((ان القران نزل على على سبعة احرف ، وادنى ما للامام ان يفتي على سبعة وجوه )) ثم قال ((هذا عطاؤنا فامنن او امسك بغير المصدر حساب )))
معنى ( نزل القران على سبعة احرف )
ولابد لتوضيح كلام الامام ( عليه السلام ) وكبرى البحث من ذكر الامور التالية :
1ـــ ان ( الحرف ) يراد به الطرف والجانب ومنه قوله تعالى (وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَعْبُدُ اللَّهَ عَلَىٰ حَرْفٍ ) وحالة[3] ، كحالة الصحة دون المرض
(مِنَ النَّاسِ مَنْ يَعْبُدُ اللَّهَ عَلَىٰ حَرْفٍ فَإِنْ أَصَابَهُ خَيْرٌ اطْمَأَنَّ بِهِ وَإِنْ أَصَابَتْهُ فِتْنَةٌ انْقَلَبَ عَلَىٰ وَجْهِهِ ...) او العكس[4] ، كحالة الفقر أو الغنى أو الضعف
فالمراد بـ ( نزل القران على سبعة احرف ) أي على سبعة انحاء واطراف و جهات ووجوه من غير تنافٍ بينها ، اذ قد يكون للكلمة او الجملة جهات واطراف وابعاد متعدد لا يلتفت اليها الا الفطن الذكي وعلى حساب درجات فطنته[5] وكذلك كلامهم ( عليهم افضل الصلاة والسلام )
وتقريب ذلك الى الذهن يظهر بالتدبر في كلام الامام الجواد ( عليه السلام ) اذ سأله يحيى بن أكثم فقال : أتأذن لي جعلت فداك في مسألة؟ فقال أبوجعفر( عليه السلام ): سل إن شئت .
قال يحيى : ما تقول جعلت فداك في محرم قتل صيدا؟ فقال أبوجعفر عليه السلام : قتله في حل أو حرم؟ عالما كان المحرم أو جاهلا؟ قتله عمدا أو خطأ؟ ، حرا كان المحرم أو عبدا؟ صغيرا كان أو كبيرا؟ ، مبتدئا بالقتل أو معيدا؟ من ذوات الطير كان الصيد أم من غيرها؟ ، من صغار الصيد أم من كبارها؟ مصر ا على ما فعل أو نادما؟ ، في الليل كان قتله للصيد أم في النهار؟ ، محرما كان بالعمرة إذ قتله أو بالحج كان محرما؟ . فإن كل حالة من هذه الحالات هي حرف وطرف ووجه والإجابة عنه تختلف عن الاجابة على الحالات الاخرى ، لكنها جميعاً صحيحة[6]
وجه اشتراك المعاريض مع المشترك اللفظي ووجه الافتراق
2ـــ ان المعاريض والتورية والبطون ، مما تشترك مع (المشترك اللفظي) من وجه وتفترق عنه من وجه
اما مابه الاشتراك فهو ان المشترك اللفظي يدل – بالوضع التعييني او التعيني- على اكثر من معنى فالافقه في اللغة هو من يعرف معاني المشترك وكلما عرف معاني اكثر من معانيه كان اعلم ، وذلك كالعين ومعانيها السبعين
واما وجه مابه الافتراق فهو ان دلالة المشترك اللفظي على الاكثر من المعنى هي بالوضع باحد قسميه ، لكن دلالة اللفظ على معاريضه – وكذا المورّى به عنه في بعض اقسامه – ليست بالوضع المعهود بل باحد انحاء ثلاثة :
أ ـــ السياق او القرائن الحالية او الخلفيات الذهنية والتراكم المعرفي
ب ـــ ان يكون بوضع ما ورائيِّ أي الهي غير معهود في اللغة اختص الله به انبيائه واوصيائهم( عليهم افضل الصلاة والسلام )
ج ــ ان لايكون بالوضع بل يكون بالالهام
تحليل وجه كون القرآن تبياناً لكل شيء
والظاهر ان دلالة القرآن على كل شيء وكونه تبياناً لكل شيء هو بأحد الوجهين الاخيرين ، بأن يكون البارئ تعالى قد أراد من الآية الواحدة ، بل الكلمة الواحدة بل الحرف الواحد ، الكثير من المعاني العرضية والطولية[7] ، وقد تبلغ المليارات أو الترليونات ، وذلك اما بوضعه الكلمة لكل تلك المعاني لكن بوضع غيبي لم يصل الينا ، أو لا بوضعٍ بل بالهام مباشر ، فإنه لا يعقل كون القران الكريم تبياناً لكل شيء بحسب الاوضاع اللغوية والصرفية المعهودة اذ لابد ان يكون الكتاب بمأت الالوف من المجلدات بل بالملايين بل بالمليارات كي يحيط بكل شيء ويبينه بل ومع ذلك لا يحيط بكل شيء قال الله تعالى( عز وجل ) (قُلْ لَوْ كَانَ الْبَحْرُ مِدَاداً لِكَلِمَاتِ رَبِّي لَنَفِدَ الْبَحْرُ قَبْلَ أَنْ تَنْفَدَ كَلِمَاتُ رَبِّي وَلَوْ جِئْنَا بِمِثْلِهِ مَدَداً )
وعن عبد الأعلى مولى آل سام قال: سمعت أبا عبد الله الصادق( عليه السلام ) يقول: ((والله إني لأعلم كتاب الله من أوله إلى آخره، كأنه في كفي، فيه خبر السماء وخبر الأرض وخبر ما كان وخبر ما هو كائن ))، قال الله: ( عز وجل ) (تِبْيَاناً لِكُلِّ شَيْءٍ)[8]
وعن الصادق ايضا قال: كتاب اللّه فيه نبأ ما قبلكم وخبر ما بعدكم وفصل ما بينكم ونحن نعلمه.وسئل الإمام الباقر( عليه السلام ) عن قوله تعالى: قل كفى باللّه شهيدا بينى وبينكم ومن عنده علم الكتاب. قال: إيانا عنى وعلىًّ( عليه السلام ) أولنا وأفضلنا وخيرنا بعد النبى( صلى الله عليه وآله وسلم ).
وقد قال الامام الباقر ( عليه السلام ) ( والله اني لأعلم كتاب الله من اوله الى آخره كأنّه في كفي فيه خبر السماء وخبر الارض وخبر ماكان وما هو كائن قال تعالى( عز وجل ) ( وَنَزَّلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ تِبْيَانًا لِكُلِّ شَيْءٍ) [9]
وخاصة مع قوله تعالى ( وَلَا رَطْبٍ وَلَا يَابِسٍ إِلَّا فِي كِتَابٍ مُبِينٍ ) فكيف يكون ذلك لولا أحد الوجهين الاخيرين ؟
والحاصل : ان كلماتهم مثل القران الكريم لها بطون ولبطونها بطون وهكذا ، كما لها معاريض لا تحصى كثرة وليس المرجع فيها الا الرسول وأهل بيته اذ هذا علم اختصه الله تعالى به وليس مما اعطي للبشر
لزوم الفحص عن روايات التأويل كروايات التفسير ، في عملية الاستنباط
وعليه : فلابدّ قبل الحكم والاستباط والاجتهاد من الفحص عن كافة المخصصات والمقيدات وعن كافة القرائن المتصلة والمنفصلة التي ترتبط بالتفسير والتأويل والظاهر والباطن والتصريح والتلميح والتلويح والمعاريض والتوريات وشبهها ثم البناء على مااستبط بعدها[10]
لايقال : لم تصلنا الكثير من الروايات التي تفيد التأويل او المراد المورّى عنه او المكنى عنه او الذي كان في عرض الكلام ومعاريضه؟
اذ يقال: ان ذلك غير مسقط للباقي عن الحجية وصحة الاحتجاج كما لم يسقط عدمُ وصول الكثير من الروايات عن الحجج الظاهرية الينا ، الباقي عن الحجية[11] وللحديث صلة...
وصلى الله على محمد وآله الطاهرين
[1] - أي ملاك الاعلمية اجودية الفهم للاخبار
[2] - قال الميرزا النائييني في فوائد الاصول ج1 ص19 ( ان علم الاصول عبارة عن العلم بالكبريات التي لو انضمت اليها صغرياتها يستنتج منها حكم فرعي كلي )
[3] - قال الشيخ الطوسي في التبيان ( والحرف والطرف والجانب نظائر ) وذكر اقوالاً اخرى فراجع وقال السيد الوالد في التبيين ((على حرف )) طرف من الدين لا على كل الاوجه والتقلبات )
[4] - فان البعض تقيّ في حالة الفقر فإذا اغتنى بطر ، والبعض بالعكس اذا افتقر كفر
[5] - هذا في حدود القدرة البشرية ، لكن معاني القران لا متناهية لا يحيط بها الا الله تعالى والراسخون في العلم ، والمراد اللامتناهي اللايقفي لا اللامتناهي المطلق
[6] - البحار ج50 ص 74
[7] - العرضية هي التي تدل عليها المعاريض والطولية هي المقصودة بالتورية ، على ما ذهبنا اليه
[8] - النحل:89, أصول الكافي: ج1، ص229، ح4، وفيه فيه تبيان كل شيء
[9] - النحل 89 اول الكافي ج1 ص229 ينابيع المودة : ج3 ص169 الزام الناصب : ؛ يوم الخلاص : ص327.
[10] - فاللازم في التفسير مثلاً اضافة الى مراجعة التبيان للشيخ الطوسي ، مراجعة البرهان للبحراني ايضاً
[11] - فقد ضاع العديد من الاصول الاربعمائة كما ضاع كتاب ( مدينة العلم ) للشيخ الصدوق وغيره ، ومع ذلك فباب العلم لم ينسد |