بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على محمد وآله الطيبين الطاهرين سيما خليفة الله في الأرضين، واللعنة الدائمة الأبدية على أعدائهم أجمعين، ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم
مبادئ الاستنباط
منتخب من روايات المعاريض
خمسة معاني لـ(الحقيقة):
قوله ( عليه السلام ) (ان لكل حق حقيقة)
وموجز فقه الحديث: ان (الحقيقة) لها معانٍ عديدة:
1- جوهر الشيء ولُبّهُ
فمن معانيها: جوهر الشيء ولُبّه، وقد سبق
2- مرجعه ومآله
ومنها: مرجعه ومآله، فحقيقة الشيء أي ما يرجع الشيء إليه.. وتوضحه الأمثلة التالية:
- القول بان حقيقة وجوب إقامة الحدود هو ولاية الإمام ( عليه السلام ) ثم ولاية الفقيه على القول بها، أي ان مرجع هذا إلى ذاك.
- قولك للخصم: ان حقيقة كلامك هي إذعان بمدّعاي وكلامي مثلاً قولك لمن جادلك في وجود البارئ بدعوى ان المادة الأولية هي الخالق للكون: بان حقيقة كلامك هي الإذعان بوجود الله لكن نقاشك في المصداق فقط([1]) أي مرجع كلامك إلى الإذعان.
- قول بعض الفقهاء فيما نسب إليهم، ان حقيقة اشتراط إذن الزوج في خروج الزوجة هو (حق الفراش) بمعنى انه ليس له عليها حقان بل له حق الفراش فقط، والاستئذان في الخروج طريقي أي كي لا يُخِلَّ بحق الفراش فلو لم يخل فلها الخروج دون إذنه على هذا الرأي – وهو مخالف للمشهور كما لا يخفى. فقوله حقيقة اشتراط إذن... يعني ان مرجعه إلى حق الاستفراش.
3- ما به الشيء هو هو في ذاته أو تشخُّصه
ومنها: ما به الشيء هو هو في ذاته، أو ما به الشيء هو هو في تحقُّقِه وتشخُّصِه، والأول على مبنى أصالة الماهية والثاني على مبني أصالة الوجود([2])
فمثلاً: الصلاة حقيقتها الأركان لا سائر الأجزاء ولذا لو تركها حتى لو كان سهواً أو نسياناً بطلت، فعلى هذا يكون المراد من (لكل حق حقيقة) أي لكل حق ما به هو هو أي جنسه وفصله أو ما به تشخصُّه.
4- ما يقابل الزيف
ومنها: الحقيقة في مقابل الزيف، فيكون المراد من (لكل حق حقيقة) أي لكل أمر من عالم الثبوت حقيقة دالة عليه من عالم الإثبات فيجب البحث عنها أي عن الأدلة الصحيحة لا الزائفة أو غير التامة، فمثلاً (القياس) و(الاستحسان) ليسا بحقيقة فلا يوصلان للحق، فهما زيف وكذا الاستقراء الناقص، بل وكذا الشهرة لو قلنا بعدم حجيتها وعدم جابريتها وعدم كاسريتها.
5- ما يقابل المجاز
ومنها: الحقيقة في مقابل المجاز، وعليه يجب البحث عن الأدلة التي أريد بها معانيها الموضوع لها لا التي أريد بها مجازاتها ولم تكن بظاهرها مراده.
بل على الأخيرين يمكن تعميم الحق للعوالم الأربعة: الوجود العيني والذهني واللفظي والكتبي، ولكل منها حقيقة أي دال عليها، وتكون دلالة الإيماء والتنبيه، ودلالة الاقتضاء وغيرها منها فتدبر جيداً.
ولا بأس بنقل ما قاله في الفروق اللغوية: (الحقيقة: ما وضع من القول موضعه في أصل اللغة حسناً كان أو قبيحاً والحق: ما وضع موضعه من الحكمة فلا يكون إلا حسناً)
وكلامه ينطبق على المعنيين الاخيرين.
وعليه: فـ(الحقيقة) تشمل الحسن والقبيح فالأول: كالصلاة والصدق والثاني كالسرقة والكذب فان السرقة والكذب، حقيقة لكنهما ليسا بحق بل هما باطل إذ أريد بالحقيقة اللفظ الموضوع لمعنى، وأريد بالحق ما يقابل الباطل.
لكن تخصيصه بالقول لا وجه له بل تشمل الحقيقة مطلق المبرِز كالإشارة مثلاً
واما (الحق) فله تفسيرات وتعريفات ومنها الحق قبال الباطل فالمراد به الثبوت بمراتبه الأربعة. ومنها: الثابت الذي لا يسوغ إنكاره فيشمل العقائد والأقوال. ومنها: الموجود حقيقة لا توهماً. ومنها غير ذلك مما لا يهم تحقيقه الآن
قوله ( عليه السلام ) (ولكل صواب نوراً)
تحقيق المراد بالنور
أقول: تفيد هذه الجملة من الرواية ان النور يدل على الصواب بالبرهان الإنِّي فإذا أردت ان تعرف الصواب من ما نسب إليهم صلوات الله عليهم من الأقوال فانظر إلى ان له – أي لهذا الكلام المنقول – نوراً أم لا، لكن ما المراد بالنور؟
قد يقال: ان المراد هو معناه الأخص، ولا يبعد ذلك، بان يكون للكلام الصادق نور تراه العين البرزخية مثلاً واما الكلام الكاذب فليس له إلا الظلام – وقد فصلنا ذلك في بعض مباحثنا([3])
وقد يقال: ان المراد به المعنى الأعم وهو (المنكشف بنفسه الكاشف لغيره) وحاصل المراد على هذا ان لكل صواب من أقوالهم نوراً أي كاشفاً عنه وهذا الكاشف هو الحجج الجلية، والحجج الخفية وهي المعاريض ولحن الكلام وشبهها فيجب البحث عنها والتعرف عليها([4]).
من طرق رؤية هذا النور
ثم ان من طرق التعرف على هذا النور هو الإحاطة بمجموع الآيات والروايات وتاريخ المعصومين (عليهم السلام)، فان بعضها يفسر بعضاً ويشرحه ويكون قرينة عليه، ويظهر ذلك بملاحظة حال من يَفِد على قومٍ غرباء فانه سوف لا يفهم كثيراً من إشاراتهم ومعاريضهم وغيرها إلا لو تعرّف على مجمل عاداتهم وتقاليدهم وتاريخهم ومختلف معارفهم وإلا لاخطأ كثيراً في فهم كنايةٍ أو مجازٍ أو مِعراضٍ أو غير ذلك.
وثاقة هذا الخبر وسنده
واما سند هذا الحديث، فحيث انه مرفوع، فان قلنا بحجية مراسيل الثقاة فالأمر سهل، وإلا امكن الاطمئنان به (ووثاقته كخبر ورواية) عن طريق برهانية مطابقة مضمونه للأصول والقواعد، بل نقول: ان مطالبه من المستقلات العقلية دون ريب.
فتدبر في المقاطع الثلاثة (حديث تدريه خير من عشرة ترويه) لأن ما تدريه ينفعك دون ما ترويه من دون ان تدريه، وهذا بديهي فان من يدري ويعرف محتوى الدواء أو وصفة الأطباء هو من ينتفع بها وينفع غيره بها، دون من يحفظ ألفاظ الوصفة دون معرفة معناها ولا موارد استعمالها ولا فوائدها ولا ما يضادها مما لا تجتمع معه.. وهكذا
وكذلك الحال في (لكل حق حقيقة) و(لكل صواب نوراً) كما سبق بيانهما فانهما من ما يستقل العقل بصحته ويدركه المرء بوجدانه لو التفت إلى معنى الكلام.
قوله ( عليه السلام ) (انا لا نعد الفقيه منهم فقيهاً حتى يكون محدثا)
فقد روى الكشي قال: (قال الصادق ( عليه السلام ) اعرفوا منازل شيعتنا بقدر ما يحسنون من روايتهم عنا، فانا لا نعد الفقيه منهم فقيهاً حتى يكون محدَّثاً، فقيل له أويكون المؤمن محدثاً؟، قال يكون مفهَّما، والمفهم المحدث) وإنما سأل عن المحدثين، لورود روايات عديدة لدينا([5]) بان الاوصياء محدثون.
وبعض فقه هذا الحديث:
تحقيق معنى الفهم
1- ان الفهم غير العلم، فان الفهم هو إدراك خفي ودقيق فهو أخص من العلم مطلقا ولذا قال تعالى: (فَفَهَّمْنَاهَا سُلَيْمَانَ وَكُلاًّ آتَيْنَا حُكْماً وَعِلْماً) فان داود أيضاً أوتي العلم لكن التفطن والفهم للأصلح بحال طرفي النزاع هو الذي أفهمه الله تعالى لسليمان، مع كون حكم كليهما حقاً إذ كان كلا الحكمين صغرى العدل وإحقاقه إلا ان حكم سليمان كان الأرجح والأفضل من مصداقي العدل. وللحديث صلة
وصلى الله على محمد وآله الطاهرين
([1]) فانت تقول: المادة الأولية، ونحن نقول: الواجب المجرد.. الخ، فلنناقش في المصداق إذن، بعد قبولك أصل وجود المنشأ أو الخالق. وهنا نناقشه بان المادة الأولية لا يعقل ان تكون هي المصدر الأول للخلقة لانها ممكنة ومحتاجة.. الخ
([2]) ومثال الأول قولك حيوان ناطق في جواب ما الإنسان، فان الحيوان الناطق هو حقيقة الإنسان على أصالة الماهية كما قالوا.
([3]) وفي كتاب (الضوابط الكلية لضمان الإصابة في الأحكام العقلية).
([4]) ويحتمل في (لكل صواب نوراً) ان يكون المراد: ان الصواب له نور كاشف عن الحقائق فتدبر
([5]) بل ولدى العامة أيضاً. |