بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على محمد وآله الطيبين الطاهرين سيما خليفة الله في الأرضين، واللعنة الدائمة الأبدية على أعدائهم أجمعين، ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم
مبادئ الاستنباط
منتخب من روايات المعاريض
قوله ( عليه السلام ) (انا لا نعد الفقيه منهم فقيهاً حتى يكون محدَّثاً)
فقه الحديث
1- معنى (الفَهْم)
مضى ان الفهم أخص مطلقاً من العلم وانه عرّف بـ(الإدراك الخفي الدقيق)
ونضيف: ان هناك تعاريف أخرى ذكرت للفهم:
منها: (حسن تصور المعنى) والظاهر انه مكِّمل للتعريف الأول وكلٌّ قد أخذ بجانب
ومنها: (الاستعداد التام لإدراك العلوم والمعارف بالفكر) وهو كسابقه
ومنها: (تصور المعنى من لفظ المخاطَب) أو (العلم بمعاني الكلام عند سماعه خاصة)
والظاهر انهما تخصيص من غير مخصص
2- الفَهِم غير (المفهّم)
ومما يلفت النظر ان الرواية أناطت الفقاهة بكون الفقيه مفهماً لا بكونه فَهِماً، والفرق بينها كبير فان (المفهَّم) كـ(المعلَّم) و(الفَهِم) كـ(العالم) وواضح الفرق بين (العالم والمعلم) كذلك الفرق بين (الفَهِم والمفهم) وحاصله ان المفهم من يفهِّمُه غيره فيدل على وجود شخص أو موجود آخر يفهِّمه عكس الفهم فانه قائم بالشخص نفسه.
3- توقف الفقاهة على المحدَّثية
ومنه يظهر ان الفقاهة([1]) متوقفة([2]) على ركن ثالث إضافة للركنين لمعهودين:
اما الركنان المعهودان فهما: الأول: (الذاتية) أي الاستعداد الذاتي وقوة العقل والفكر التي يمتلكها الشخص التي تجعل منه فقيهاً، عكس البليد بذاته أو الغبي أو خامل الفكر.
الثاني: (الاكتسابية) والتي تعني بذل الجهد والجد واستفراغ الوسع في تحصيل الأحكام والوظائف الشرعية من أدلتها التفصيلية.
واما الركن الثالث: فهو الذي أشارت إليه الرواية الشريفة وهو ان يكون محدَّثاً أي مفهَّماً وذلك يعني بإلهام إلهي أو بوحي من الملائكة أو شبه ذلك.
الإمكان ومقتضى الحكمة
ولا يستبعد ذلك فانه أ- ممكن ثبوتاً، ب- وقد وقعت نظائره، ج- وهو مطابق للحكمة
د- وقد دلت عليه الأدلة
أ- اما الإمكان فهو واضح.
ب - اما النظائر فكقوله تعالى: (وَأَوْحَيْنَا إِلَى أُمِّ مُوسَى أَنْ أَرْضِعِيهِ) و(وَأَوْحَى فِي كُلِّ سَمَاءٍ أَمْرَهَا) و(وَأَوْحَى رَبُّكَ إِلَى النَّحْلِ) وفي عكسه: (وَإِنَّ الشَّيَاطِينَ لَيُوحُونَ إِلَى أَوْلِيَائِهِمْ)
ج- اما انه مطابق للحكمة فلأن حكمة الله تعالى في الكون اقتضت مزج العوامل الغيبية بالعوامل المادية فبها جميعاً يكون الأثر، ويشهد له ملاحظة كل شيء من الولادة إلى الممات فان لها عوامل ظاهرية وأخرى غيبية([3]). قال تعالى: (أَأَنْتُمْ تَزْرَعُونَهُ أَمْ نَحْنُ الزَّارِعُونَ) ونظيره قوله تعالى: (وَمَا رَمَيْتَ إِذْ رَمَيْتَ وَلَكِنَّ اللَّهَ رَمَى)
وبالمزج بين النوعين من العوامل يتم الامتحان وتصقل النفوس وتهذب ويظهر من يتوكل على الله من غيره وتفصيل هذا موكول إلى مظانه.
بعض الأدلة الإثباتية
د- واما الأدلة الإثباتية فكثيرة:
ومنها: قوله تعالى: (وَالَّذِينَ جَاهَدُوا فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا)([4]) فـ(جَاهَدُوا فِينَا) من مصاديقه ما يبذلونه من جهد في استنباط الحكم الشرعي، وهذا هو ما بأيديهم ثم (لَنَهْدِيَنَّهُمْ) وهو ما يعود لعامل الغيب واللطف الإلهي والتسديد الغيبي([5]).
ومنها: (ليس العلم بكثرة التعلم إنما العلم نوره يقذفه الله في قلب من يشاء)
ومنها: روايتنا (.. حتى يكون محدثاً... مفهماً)
ومنها: ما ذكره العلامة الأميني في (الغدير) إذ استعرض بعض روايات (المحدث) في كتب الخاصة والعامة إذ وردت به روايات كثيرة من طرقنا وطرقهم
اما من طرقهم قال: (أخرج البخاري في صحيحه في باب مناقب عمر بن الخطاب ج2 ص194 عن أبي هريرة قال: قال النبي (صلى الله عليه وآله وسلم ): لقد كان فيمن كان قبلكم من بني إسرائيل رجالٌ يكلّمون من غير ان يكونوا أنبياء، فإن يكن من أُمتي منهم أحدُ فعمر...)([6])
فليس لهم بعد ذلك رمينا باننا نقول الأئمة أنبياء إذ نقول انهم محدثون!
واما من طرقنا فالروايات كثيرة، وقد ورد قسم منها مؤكداً ان الأئمة محدثون كما أفاد قسم منها ان سلمان وأمثاله محدثون، ومن الواضح ان نوع المحدَّثية وكيفيتها وكميتها تختلف، فأين محدَّثية الأئمة الأطهار (عليهم السلام) من محدَّثية مثل سلمان؟ ثم أين محدثية مثل سلمان من محدثية الفقيه الورع المستجمع للشرائط؟
فمن الروايات:
قال: (فأخرج ثقة الإسلام الكليني في كتابه (أصول الكافي) ص 84 تحت عنوان (باب الفرق بين الرسول والنبي والمحدَّث، أربعة أحاديث منها بإسناده عن بُريد عن الإمامين الباقر والصادق صلوات الله عليهما في قوله عز وجل (وما أرسلنا من قبلك من رسول ولا نبي ولا مُحدث. قال بريد: قلت: جعلت فداك ليست هذه قراءتنا فما الرسول والنبي والمحدث؟ قال: ألرسول الذي يظهر له الملك فيكلّمه، والنبي هو الذي يرى في منامه، وربما اجتمعت النبوة والرسالة لواحدٍ، والمحدَّث الذي يسمع الصوت ولا يرى الصورة. قال: قلت أصلحك الله كيف يعلم ان الذي رأى في النوم حقُّ وانَّه من الملك؟ قال: يوفَّق لذلك حتى يعرفه، ولقد ختم الله عز وجل بكتابكم الكتب وختم بنبيكم الأنبياء...)([7]).
قال: (وروى شيخ الطائفة في أماليه ص 260 بإسناده عن أبي عبد الله ( عليه السلام ) قال: كان علي عليه السلام محدَّثاً، وكان سلمان محدّثاً قال: قلت: فما آية المحدَّث؟ قال: يأتيه ملكٌ فينكت في قلبه كيت كيت).
قال: (وبإسناده عن حمران قال: قلتُ لأبي جعفر ( عليه السلام ) ما موضع العلماء؟ قال: مثل ذي القرنين، وصاحب سليمان، وصاحب داود). فتأمل
ومنها غير ذلك مما يترك تفصيله لمظانه، وقد أشرنا إليه في بعض الكتب([8])
اشتراط العدالة لجهتين: المصلحة السلوكية والطريقية
4- الثمرة: ومن ذلك يظهر ان اشتراط (العدالة) في مرجع التقليد ليس للمصلحة السلوكية فقط بل لجهة طريقية العدالة للإصابة أيضاً.
اما المصلحة السلوكية فواضحة وبها يجاب عن إشكال اشتراط العدالة في المجتهد والإشكال هو: ان حجية رأي الفقيه([9]) هي لكونه أهل خبرة وكون رأيه كاشفاً نوعياً عن الواقع فلو كان الفاسق لا من جهة وثاقة اللهجة – كمن كان يغتاب الناس أو ينظر للأجنبيات – مجتهداً فلم لا يجوز تقليده؟.
والجواب الأول هو بالمصلحة السلوكية، فانه وإن كان المجتهد الفاسق أعلم فرضاً من المجتهد العادل إلا ان الشارع لم يُرِد ان يُسلّم قيادة الناس ومرجعيتهم بيد الفساق إذ ان ذلك يفتح باب واسعاً للفساد.
واما الجواب الثاني: فهو الذي يُفهَم من أمثال هذه الروايات والتي تفيد جهة الطريقية وان الفقيه العادل مفهَّم ومحدَّث، عكس غير العادل فانه وإن امتلك الركنين الأوليين إلا ان يفتقد الركن الثالث للإصابة، وليس يمتنع في علم الله تعالى ان تكون نسبة خطأ الفقيه غير العادل أربعين بالمائة مثلاً ونسبة خطأ الفقيه العادل خمسة بالمائة مثلاً ولذا ورد في خطاب الناحية المقدسة للشيخ المفيد (منك الفتيا ومنا التسديد) وقد دلت عليه آية (وَالَّذِينَ جَاهَدُوا فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا) والروايات السابقة وغيرها أيضاً.
ثم انه إذ اتضح ذلك يتضح ان الفقهاء على درجات فكلما ازداد الفقيه تهذيباً للنفس وتزكية لها وتطهيراً ازداد محدثيةً وتسديداً
كما ان من ثمرات ذلك: ان على الفقيه ان يزكي نفسه إذا أراد التسديد الغيبي وأغلبية الإصابة.
النكتة في العدول عن (المحدث) إلى (المفهّم)
ومن كل ما سبق يظهر وجه قول الإمام (حتى يكون محدثا) ثم عدوله إلى تفسيره بـ(مفهما) فان الظاهر انه ليس إلا نوع تورية نظراً لصعوبة فهم ذلك على السامع ولذا استفهم مستنكراً أو مستغرباً ففسر الإمام المحدث بالمفهم بعدها. وبذلك جمع الإمام ( عليه السلام ) بين الحقين إذ ذكر الواقع ليصل بيد من يتحمله ثم فسره بالأخص الذي لا يضاده ليقبله الراوي فيرويه لغيره ايضاً فيصل إلى غيره وبذلك يكون مصداق (رب حامل فقه إلى من هو أفقه منه) فتدبر جيداً يرحمك الله.
وصلى الله على محمد وآله الطاهرين
([1]) أي الحصول على الملكة أو فعلية تحصيل الحجة أو الاصابة – فتدبر في التشقيق الثلاثي وفي توقف أي من الثلاثة في المتن على أي من هذه الثلاثة.
([2]) ببعض مراتبها.
([3]) فان الموت مثلاً عامله الغيبي قبض عزرائيل للروح واما عامله الظاهري فالأمراض والجلطة والاصطدام والانفجارات وغيرها وهكذا.
([4]) العنكبوت آية 69.
([5]) قال في تفسير التبيان: يعني جاهدوا للكفار بأنفسهم، وجاهدوا نفوسهم بمنعها عن المعاصي وإلزامها فعل الطاعة لوجه الله (لنهدينهم سبلنا) أي نرشدهم السبيل الموصل إلى الثواب، وقيل: معناه لنوفِّقنَّهم لازدياد الطاعات فيزداد ثوابهم، وقيل: معناه لنرشدنَّهم إلى الجنَّة) وقال في مجمع البيان: (أي جاهدوا الكفار ابتغاء مرضاتنا، وطاعة لنا وجاهدوا أنفسهم في هواها خوفاً منا. وقيل: معناه اجتهدوا في عبادتنا رغبة في ثوابنا، ورهبة في عقابنا (ولنهدينهم سبلنا) أي: لنهدينّهم السبل الموصلة إلى ثوابنا، عن ابن عباس. وقيل: لنوفقنَّهم لازدياد الطاعات، فيزداد ثوابهم. وقيل: معناه والذين جاهدوا في إقامة السنة، لنهدينَّهم سبل الجنة. وقيل: معناه والذين يعملون بما يعلمون، لنهدينّهم إلى ما لا يعلمون) والظاهر ان تلك مصاديق
([6]) الغدير ج5 ص42.
([7]) الغدير ج5 ص46 إلى49.
([8]) يراجع كتاب (الضوابط الكلية لضمان الإصابة في الأحكام العقلية).
([9]) بناءاً على ان مدركه هو بناء العقلاء، واما على الروايات فانه وإن كان لذلك أيضاً، للارتكازية، إلا انه أقرب لأن تؤخذ فيه الجهات التعبدية كالمصلحة السلوكية. فتدبر |