بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على محمد وآله الطيبين الطاهرين سيَّما خليفة الله في الأرضيين، واللعنة الدائمة الأبدية على أعدائهم أجمعين، ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم
مبادئ الاستنباط
الجواب عن الدليل الثالث: عدم عموم ادلة التقليد للمتجزي طولياً
سبقت دعوى ان ادلة التقليد لا تشمل باطلاقها المجتهد في الفقه – المقلد في بعض مبادئ الاستنباط ، استناداً الى عدم تمامية مقدمات الحكمة فيها اما لعدم احراز كون المولى في مقام البيان، او لوجود القدر المتيقن في مقام التخاطب او للانصراف بناءاً على انه[1] من مصاديق القرينة على الخلاف.
كما سبقت الاجابة عن الوجه الاول بان الاصل هو كون المولى في مقام البيان كلما جعل الكلي الطبيعي موضوعاً لحكمه او مادةً لامره.
الجواب الثاني : الظاهر شمول الادلة النقلية وغيرها للمجتهد المتجزئ طولياً
الجواب الثاني: ان الظاهر – وليس الاصل فقط – هو شمول الادلة النقلية للمجتهد في الفقه – المقلد في مبادئ الاستنباط؛ وذلك بوجهين : عقد الايجاب وعقد السلب
أ – عقد الايجاب
اما عقد الايجاب فنقول : انه لا ريب في صدق ( المتفقه في الدين ) عليه بالحمل الشائع الصناعي عرفاً؛ فان من اجتهد في فقه رواية (لا ضرر ولا ضرار) مثلاً وان مفادها النهي او النفي وهل هو نفي الحكم الضرري او نفي الحكم بلسان نفي موضوعه او غير ذلك ، هو متفقة في الدين وفي كلامهم ( عليهم السلام ) وان كان قد أخَذ وثاقة بعض من وقع في إسناد الحديث ، من النجاشي مثلاً ، بل وان اخذ حجية الظواهر من غيره
خاصة اذا لاحظنا بساطة الاجتهاد في ذلك الزمن ووضوح عدم تبحُّر الصحابة والتابعين في مبادئ الاستنباط كالبلاغة والنحو والصرف وقواعد الجرح والتعديل من علم الدراية، وكذا البلاغة المنطق وغيرها من المبادئ.
لايقال : ان تلك المبادئ كانت فطرية لديهم
اذ يقال : اولاً : لا تصح هذه الدعوى في العديد من قواعد علم الدراية[2] ولا القواعد المنطقية كشروط انتاج الاشكال الاربعة التي يتوقف عليها الاستدلال، ولا الاصولية[3] ولا نظائرها، وان كانت من حيث المجموع اسهل من هذا الزمن
ثانياً : انها ان صحت فقد تصح في خصوص البلاغة[4] والنحو الصرف ، ولكن مع ذلك لا تصح في هذه الثلاثة الا في العرب الاقحاح[5] ، ومن المعلوم ان كثيراً من اصحاب النبي( صلى الله عليه وآله ) والكثير جداً جداً من اصحاب الامام امير المؤمنين كانوا من غير العرب[6]
ومن الواضح ان الخطاب في ( ليتفقهوا ) لم يكن خاصاً بالعرب ، ولم يرَ احد انه خاص بهم ، وان المتفقهين كانوا من العرب وغيرهم ولم يخص احد الحجية بفقهاء العرب فقط كما هو واضح . فتأمل.
ب- عقد السلب
واما عقد السلب: فلما بنى عليه جمع من الاعلام من ان مبادئ الاستنباط كالنحو والصرف والرجال ، ليست من الدين بوجه
قال في التنقيح (( الصحيح عدم جريان التقليد في تلك الامور وذلك لان مشروعية التقليد انما ثبتت بالسيرة والكتاب والسنة، ولا يشمل شيء منها للمقام . أما الكتاب فلأن قوله عزّ من قائل ( فَلَوْلَا نَفَرَ مِنْ كُلِّ فِرْقَةٍ مِنْهُمْ طَائِفَةٌ لِيَتَفَقَّهُوا فِي الدِّينِ ) [7] انما يدل على مشروعية التقليد في الاحكام الشرعية الراجعة الى الدين ، ومن الظاهر ان القاعدة الادبية ، او وثاقة راوٍ وعدمها ليست من الدين بوجه.
واما السنة فلأن المستفاد من الروايات انما هو مشروعية التقليد فيما يرجع الى الحلال والحرام أو معالم الدين ونحوها ، ولاينطبق شيء من ذلك على القواعد الادبية أو الرجالية لوضوح عدم كونها من الحلال والحرام ولا أنها من المعالم كما لا يخفى .))[8]
اقول: فاذا لم تكن من الدين ابداً فكيف يتقوم ( التفقه في الدين ) بها ؟
لا يقال : لكنها مقدمات يتوقف الاجتهاد عليها ؟
اذ يقال : التقُّوم الماهوي مغاير للتوقف الوجودي ، والكلام في التقوم الماهوي وانَّ الاجتهاد في حقيقتة وجوهره وذاته متقوِّم بالاجتهاد في الفقه والمبادئ معاً او لا، وتوقف شيء على شيء وجوداً دليل على مغايرته له اذ لا يعقل توقف الشيء وجوداً على نفسه فلا يعقل كون الاجتهاد في المبادئ المتوقف عليه – فرضاً – وجود الاجتهاد في الفقه ، جنساً او فصلاً او مقوماً ذاتياً للاجتهاد في الفقه.
واما عدم تحققه خارجاً الا به[9] فاول الكلام ومدّعى لادليل عليه، بل الظاهر توقفه على حصول المعرفة بها – اي المبادئ - سواءاً احصلت عن اجتهاد ام تقليد ام الاخذ بقول باهل الخبرة بناء على كونه شقاً ثالثاً[10]
والحاصل : ان الاجتهاد في الفقه متوقف على اصل المعرفة بالمبادئ[11] لاعلى خصوص المعرفة الاجتهادية.
ثم انه سيأتي منّا ان المبادئ بلحاظ وقوعها طريقاً لاستنباط الاحكام الشرعية هي من الدين، وليس كما ذكرهu ، لكن الكلام في (عقد السلب) هو بنائيٌ الزامي، واما المنصور فهو ما ذكر في عقد الايجاب. فتدبر جيداً.
الادلة غير النقلية عامة ايضاً
واما الادلة غير النقلية كبناء العقلاء فان الظاهر انها شاملة للمجتهد المتجزئ الطولي ، والعقلاء ببابك .. الا ترى الناس يرجعون لاهل الخبرة في كل الحقول ، من طبيب ومهندس وغيرهما ، مع ان من الواضح ان الاطباء والمهندسين وعلماء الفيزياء والكيمياء ليسوا مجتهدين في كل مبادئ واصول علومهم بل هم مجتهدون في المسألة المندرجة في حقل تخصصهم وبعض الاصول العامة القريبة المبتني عليها ذلك العلم ، دون المبادئ البعيدة بل دون مطلق مما يسمى بالمبادئ التصورية والتصديقية للعلم[12] وللحديث صلة ...
وصلى الله على محمد وآله الطاهرين
[1] - اي بلحاظ وجهه ومنشأه
[2] - مثل الحكم لدى تعارض الجرح والتعديل.
[3] - كالحكم عند اجتماع الامر والنهي او الترتب او تعارض الادلة الثلاثة في مبحث انقلاب النسبة وغير ذلك.
[4] - بل في أولياتها فقط لافي دقائقها ، ويظهر ذلك بوضوح بمراجعة امثال المطول بل ومختصر المعاني ايضاً.
[5] - وهم العرب المنحدرون من اصل يعرب بن قحطان الذين لم يخالطهم عرق آخر بالمصاهرة ولم تتشوه سليقتهم بالمخالطة .
[6] - فمن اصحاب النبي( صلى الله عليه وآله ) صهيب الرومي وبلال الحبشي وسلمان الفارسي وهكذا، واما زمن الامير( عليه السلام ) وبعد دخول الناس في دين الله افواجاً وبعد الفتوحات، فلعل اكثر المسلمين كانوا من غير العرب.
[7] - سورة التوبة : اية 122
[8] - التنقيح في شرح العروة الوثقى ، الجزء الاول صفحة 351
[9] - اي لا بخصوص الاجتهاد في مبادئ الاستنباط، وعدم كفاية التقليد فيها او الاخذ بقول الغير فيها
[10] - كما اوضحناه في مبحث سابق ضمن الاشارة الى المكلَّف اما مجتهد او مقلد او مستعلِم او محتاط ، ثم في بحث آخر ضمن الاشارة لتقسيم رباعي آخر فراجع .
[11] - اي احكامها ونتائجها واحوالها
[12] - كما فصلنا الحديث عنها في مقدمة كتاب ( المبادئ التصورية والتصديقية للفقه والاصول ) وبتفصيل اكثر في ( رسالة في المبادئ التصورية والتصديقية للعلوم ). |