بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على محمد وآله الطيبين الطاهرين سيما خليفة الله في الأرضين، واللعنة الدائمة الأبدية على أعدائهم أجمعين، ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم
مبادئ الاستنباط
تتمة الجواب على الدليل الخامس
سبق قولنا (أمور أربعة ليست من دائرة وظائف المجتهد
وما هما فيه سواء، أُمور:
منها: الأمور الحسية، ومنها علم الرجال وعلم اللغة – على رأي - وكذا علم النحو والصرف اذ أن قواعدها غالبا سماعيات.
ومنها: الامور العقلية، ومنها: علم الكلام والمنطق والحكمة.
ومنها: الأمور العرفية، ومنها: الموضوعات الصرفة والمستنبطة العرفية.
ومنها: الأمور العلمية، ومنها: علم الحساب والرياضيات).
والجواب:
1- الرجال واللغة من الحدسيات
أولاً: ليس علم الرجال ولا علم اللغة كبعض نظائرهما من مبادئ الاستنباط، أموراً حسية، بل هي حدسية.
أ- علم اللغة حدسي
اما علم اللغة، فلأن اللغوي لم يسمع الوضع من الواضع (وهو الله تعالى مباشرة على رأي، أو يعرب بن قحطان على رأي، أو مجموعة واضعين تعاقبوا على مر الأزمان([1]) على رأي آخر) بل غاية ما رآه هو موار الاستعمال ثم انه انتقل منها عبر التبادر أو الإطراد أو صحة الحمل أو عدم صحة السلب، وهي علائم الحقيقة، إلى ان هذا المستعمل فيه هو الموضوع له الحقيقي، فهو إذن بالحدس عبر إحدى الأربعة([2])
نعم مجاميع اللغة العربية المستحدثة في الأزمنة المتأخرة([3]) تخبر شفاها او كتابة عن وضعها الألفاظ للمفردات المستحدثة.
ب- علم الرجال حدسي
واما علم الرجال: فلأن عمدة ما يتضمنه هو التوثيق والتعديل وكلاهما حدسي.
اما (التعديل) فهو حدسي سواء أقلنا بان العدالة (ملكة تعصم...) أو هي (الاستقامة على جادة الشرع)، اما على الأول فلأن الملكة حالة نفسية لا تُرى ولا تُحس بل يُحدَس من أفعال الجوارح وجودُها، مع ان الفعل لا جهة له فلعله لم يجترح الحرام لا لملكة عاصمة بل لطمعٍ أو خوفٍ أو عجزٍ أو غير ذلك، نعم الحدس يكون من (الظواهر) عليها.
واما بناءاً على انها الاستقامة على جادة الشرع، فكذلك هي حدسية إذ لا بد من ضميمة الاستقراء المعلل أو الاستصحاب – وكلاهما حدسي – لإثبات ان هذا الخبر الصادر منه الآن المشكوك بذاته كونه صدقاً أو كذباً هو صدق، اعتماداً على استقراء حالاته السابقة وكلماته وكونه صادقاً فيها بأجمعها عادلاً مستقيماً دائماً سابقاً.
وكذلك الحال في الوثاقة سواء أكانت ملكة تبعثه على الصدق وتردعه عن ان يكذب، او الاستقامة القولية، لنفس ما ذكر في العدالة.
نعم قد يقال (الجرح) حسي، وفيه انه حدسي لحدسية جهته فان الفعل لا جهة له تحس. فتدبر
ثم ان غاية ما يمكن ان يقال ان الرجال واللغة وشبهها هي حدسية قريبة من الحس وهي ملحقة في الأحكام بالحس، لكن سبق ان المدار ليس كون الشيء حسياً أو حدسياً أو أمراً متوسطاً بينهما، بل المدار على بناء العقلاء بصحة الإتباع، وقد استظهرنا أعمية بناءهم من الثلاثة كما حققناه سابقاً فراجع([4]).
2- علم التفسير والرجال و... من الدين
ثانياً: سلمنا انهما ونظائرهما حسيان، لكن اجتهاد الفقيه الذي يريد استنباط الحكم الشرعي، في الرجال([5]) والتفسير ونظائرهما فيما توقف الاستنباط عليه، هو من الدين فيشمله (لِيَتَفَقَّهُوا فِي الدِّينِ) ألا ترى ان البحث عن أحوال أصحاب الأئمة بما هم أصحاب لهم ورواة لأحاديثهم هو من الدين عرفاً. كما لا شك في ان (التفسير) من الدين، وقد سبق تفصيل ذلك وبيانه.
3- توقف استنباط الحكم الشرعي عليها هو ملاك كونها وظيفة
ثالثاً: سلمنا ان تلك العلوم ليست من الدين، لكن لا شك في توقف استنباط الحكم الشرعي عليها، بل هو مفروض الكلام([6]).
فإذا كان ذو المقدمة من وظيفته كانت المقدمة المتوقف عليها من وظيفته قطعاً،([7]) غاية الأمر انها وظيفة تبعية لا أصلية أي غيرية لا نفسية، ثم غاية الأمر انها تكون وظيفة تخييرية لا وظيفة تعيينية وقد سبق بيان ذلك.
4- لا تلازم بين عدم كونه وظيفة وعدم جواز التصدي له
رابعاً: سلمنا انها ليست من وظيفته، لكن عدم كون أمرٍ من الوظيفة هو أعم من عدم الجواز وعدم الصلاحية، أي انها قد لا تكون وظيفة له لكنها تكون مباحة، والأصل لدى الشك الإباحة. إلا ان يقال الأصل في جواز الاتباع وحرمته، الحرمة؛ لرجوع ذلك إلى الشك في حجية قوله والأصل عدم الحجية فلا يجوز إتباعه، وأصالة الأباحة إنما تنفع لمجرد إثبات جواز اجتهاده فيها، لا لإثبات جواز تقليده. فتدبر
الجواب عن عدم كون العقليات وظيفة الفقيه
واما (الأمور العقلية) فالجواب أولاً: ان التفقه في بعضها، كعلم الكلام([8])، تفقه في الدين قطعاً بل هو الفقه الأكبر بل هو أساس الدين، نعم ذلك لا يشمل المنطق والفلسفة.
ثانياً: ان ما لا يعد تفقهاً في الدين، فانه حيث كان مقدمة يتوقف عليها التفقه في الدين، كان من وظيفته تبعاً تخييراً كما سبق.
ثالثاً: ان تلك العلوم – كالمنطق والفلسفة – وإن سلمنا ان الفقيه ليس مأموراً بها أمراً مولوياً فلا عقوبة على تركه الاجتهاد فيها، إلا انه لا ريب في كونه مشمولاً بالأوامر الارشادية، فإذا شملته الأوامر الإرشادية بالاجتهاد والإفتاء دلّت على صحة تقليده فيها أيضاً بالملازمة العرفية أو بدلالة الإيماء والتنبيه.
وذلك لانها مبادئ تصديقية للفقه والأصول، فهي من مصاديق الاعانة والمقدمة، والباعث إليها هو العقل، والأمر بها لو كان فهو إرشادي بناء على ان ما ورد في موطن المستقلات العقلية فهو إرشادي، وفيه تأمل من جهات، فتأمل.
وصلى الله على محمد وآله الطاهرين
([1]) اما بنحو الوضع التعييني أو التعيّني.
([2]) هذا مبني على ما حققناه سابقاً من ان اللغوي هو أهل خبرة في الوضع لا الاستعمال فقط، وانه متصدّ لذكر المعاني الحقيقية لا المجازية إلا نادراً وبالقرينة، لا مجرد موارد الاستعمال، نعم من يراه مجرد ناقل للاستعمال فهو حسي.
([3]) كمجمع اللغة العربية في مصر، أو الموجود – كان – في العراق وسوريا.
([4]) إضافة إلى ما حققناه في الدروس السابقة من شمول أدلة التقليد النقلية للحس والحدس جميعاً.
([5]) لا اللغة، على هذا الوجه، عكس الوجه الآتي، فهذا الدليل يخص بعض مبادئ الاستنباط.
([6]) إذ الكلام عن مبادئ الاستنباط.
([7]) اما عقلاً فقط أو عقلاً وشرعاً على الخلاف في مقدمة الواجب.
([8]) والتفسير، وكذا تاريخ المعصومين (عليهم السلام) وأحوالهم مما يرتبط بالرواة والروايات، لمعرفة جهة صدور الحديث وكونه تقية أو لا، ولمعرفة مطلق القرائن الحالية والمقالية.. |