بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على محمد وآله الطيبين الطاهرين سيما خليفة الله في الأرضين، واللعنة الدائمة الأبدية على أعدائهم أجمعين، ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم
مبادئ الاستنباط
مناقشة الدليل العاشر:
سبق في الدليل العاشر: (الثالث: ثبوت التقليد انّما هو بالسيرة والكتاب والسنّة، ولا يشمل شيء منها مبادئ الاستنباط.
اما الكتاب: فمثل قوله تعالى: (لِيَتَفَقَّهُوا فِي الدِّينِ) ونحوه، وليس معرفة القاعدة الأدبية أو معرفة حال راوٍ أنّه ثقة أم لا، من الدين.
واما السنّة: فالمستفاد منها جريان التقليد فيما يرجع الى الحلال والحرام ومعالم الدين ونحوهما وليست القواعد الأدبية منها...)
والجواب:
أولاً: ما سبق من ان علم الرجال والتفسير وشبههما هو من الدين، وتخصيصه بخصوص الفقه مجرد اصطلاح.
العلة الغائية هي ملاك تمايز العلوم وموضوعية الموضوع
ثانياً: ان العلة الغائية هي ملاك اندراج المسألة في علمٍ من العلوم أو عنوان من العناوين، كما انها هي علة موضوعية الموضوع، كما انها هي علة تمايز العلوم.
بيان ذلك: انه قد وقع الخلاف في ان تمايز العلوم بماذا؟ فذهب المشهور إلى انه بتمايز الموضوعات([1])، كتمايز علم الطب عن البيطرة بأن موضوع الأول بدن الإنسان وموضوع الثاني بدن الحيوان وكتمايز علم الهندسة عن علم الحساب بان موضوع الأول الكم المتصل القار والثاني موضوعه الكم المنفصل.
وذهب الآخوند إلى ان تمايزها بتمايز الغايات، والاغراض الداعية إلى تدوين ذلك العلم([2])، كتمايز علم النحو عن الصرف رغم وحدة موضوعهما وهو الكلمة بأن غاية الأول معرفة([3]) حالات الكلمة من إعراب وبناء والثاني معرفة حالاتها من صحة وأعتلال.
والحق التفصيل: بإن تمايز العلوم الحقيقية بالموضوعات وتمايز العلوم الاعتبارية هو بالغايات([4])، وتوضّحها الأمثلة السابقة، ومن ذلك: ان مسألة واحدة قد تندرج في الأصول وفي الفقه باعتبارين نظراً للحاظ غايتين فمثلاً مسائل (الاجتهاد والتقليد) تارة تُبحث من حيث حجية رأي المجتهد الميت أو الأنثى أو العبد أو غير الأعلم على العامي فالمسألة أصولية إذ موضوع الأصول هو (الحجة المشتركة القريبة في الفقه)([5]) وتارة تُبحث من حيث جواز الرجوع إليه ففقهية.
وبذلك يظهر حال المقام أيضاً فان دراسة المسألة الرجالية إن كانت لغاية دينية أو فقهية فهي مسألة دينية أو فقهية فإن الغاية تلوّن ذيها وتفصله وتنوعّه وتُمسألُهُ وتُموضِعُه.([6])
التقليد مصداق العلم
كما سبقت دعوى عدم جواز وعدم صحة تقليد المجتهد في الفقه المقلِّد في مبادئ الاستنباط، بدعوى ان التقليد ليس بمصداق للعلم أو المعرفة إذ انه يعني الإتباع من غير برهان أي بشكل أعمى فكيف يجوز تقليده فيما ابتنى على ما ليس بعلم؟
والجواب: انه لا فرق بين الاجتهاد والتقليد من حيث انهما ان كانا مصيبين مطابقين للواقع فكلاهما علم وإلا فكلاهما جهل مركب.
توضيحه: ان العلم هو الصورة الحاصلة من الشيء لدى الذهن، كما قال المنطقيون، فإن كانت الصورة الحاصلة هي من الشيء حقيقة أي كانت مطابقة له فهي علم من غير فرق بين كون منشئها الاجتهاد أو التقليد وإلا فجهل من غير فرق أيضاً.
ومزيد تحقيق هذا يرجع إلى تحقيق حقيقة العلم وانه من مقولة الكيف النفساني أو الإضافة المقولية أو الإشراقية أو الانفعال، فانه على كل الأقوال لا فرق بين كون ما حصل في ذهنه باجتهاد أو تقليد، في كونه كيفاً نفسانياً أو انفعالاً عن الحقائق أو إضافة بنوعيها.
فبعضه كيفية نفسية
فههنا أبحاثه حرية
من تلك ان في جنسه أقوال
كيفٌ، إضافةٌ، او انفعال([7])
لا إطلاق لكون التقليد أخس وأردأ من الاجتهاد
كما سبقت دعوى ان التقليد هو الفرد الأردأ فلا يصح الرجوع للمقلد في المبادئ وإن اجتهد في الفقه مع وجود المجتهد في كليهما.
والجواب: إضافة إلى ما سبق بالتفصيل من الجواب بوجوه عن دعوى ان النتيجة تتبع أخس وأخص المقدمتين:
انه لا إطلاق لذلك بل ملاك الاشرفية كما 1- قد يكون في الطريق (وهو الاجتهاد أو التقليد) 2- قد يكون في ذات الشيء 3- وقد يكون في المنشأ 4- وقد يكون في المصبّ والمتعلق 5- وقد يكون في البراهين.
الكلام هو أشرف العلوم لا الفلسفة
توضيحه: انه ذهب بعض الفلاسفة([8]) إلى ان الفلسفة هي اشرف العلوم لانّ موضوعها أشرف الموضوعات وغاياتها أشرف الغايات وبراهينها أشرف البراهين لأنها يقينية.
ويرد عليه: ان موضوع الفلسفة هو الموجود من حيث هو موجود مع قطع النظر عن تعيناته وخصوصياته([9])، اما موضوع علم الكلام فهو المبدأ جل اسمه والمعاد على كلام، ولا شك ان الله تعالى اشرف من الموجود بما هو موجود المنطبق على الواجب والممكن، وليست الأعمّية ملاك الاشرفية بالبداهة.
واما كون براهينها أوثق البراهين فان أريد انها تفيد القطع الأعم من الجهل المركب ففيه انه لا شرف في القطع في ضمن فرده الثاني وهو الجهل المركب.
وإن أريد انها تفيد العلم المطابق للواقع – وهو ظاهر قولهم وتعبيرهم بإفادتها اليقين - ففيه بداهة بطلانه لتناقض الأقوال الفلسفية على المسالك من إشراق ومشاء وحكمة متعالية فكيف يدعى بان براهينها كلها تفيد العلم المطابق للواقع؟
ويكفي اختلافهم في (الوجود الذهني) على ستة أقوال:
فانكر الذهني قوم مطلقاً
بعض قياماً من حصـول فرّقــــــــا
وقيل بالأشباح الأشيا انطبعـــــت
وقيل بالأنفـس وهـــــي انقلبـــــت
وقيل بالتشبيه والمســـــامحـــــة
تسمية بالكيف عنهم مفصحة
وكذلك الغايات فان غاية الفلسفة معرفة الأحوال العامة للموجود بما هو موجود واما غاية الكلام فمعرفة ما يتعلق بالمبدأ جل اسمه وهو أشرف دون شك.
أقول: اما الاجتهاد والتقليد فلا إطلاق لدعوى أشرفية الاجتهاد من التقليد نعم ان كان كلاهما مصيباً كان الاجتهاد أشرف الفردين، لا في غير هذه الصورة فان الاشرفية
أ- قد تكون بلحاظ الذات فلو كان التقليد مطابقاً للواقع كان أشرف من الاجتهاد المخالف له، فذاتُ هذا أشرف من ذات ذاك بلحاظ الإصابة والكاشفية وعدمها فان مطابقة الواقع هي المطلوب بالذات من الاجتهاد أو التقليد أو غيرهما.
ب- وقد تكون الاشرفية بلحاظ المنشأ، فان تقليد المعصوم وإتباعه أشرف من الاجتهاد وإن جاز، بل وتقليد الأعلم أفضل وأشرف من اجتهاد المفضول إذا كان المطلوب الذاتي هو الاقربية في الوصول للواقع. وللحديث صلة وتتمة
وصلى الله على محمد وآله الطاهرين
([1]) وهو الجامع بين موضوعات المسائل. كما قال قوم بان تمايزها هو بتمايز المحمولات.
([2]) الكفاية / المقدمة/ الأمر الأول.
([3]) هذا ثبوتاً واما إثباتاً فذكروا انه حفظ اللسان عن الخطأ في المقال من حيث الاعراب والبناء للنحو أو الصحة والاعتلال للصرف.
([4]) هذا لو كان موضوع العلمين واحداً، وإلا فبالموضوعات.
([5]) كما فصلناه في (الحجة معانيها ومصاديقها) وأجبنا عما قد يورد على المدعى.
([6]) مصدر جعلى مخترع من المسألة والموضوع.
([7]) المنظومة للسبزواري.
([8]) كما في منظومة السبزواري وغيره.
([9]) اما سائر العلوم فموضوعها الموجود بلحاظ إحدى تعيناته، كتعينه بجسم الإنسان الموضوع لعلم الطب أو تعينه بالكم المنفصل الموضوع لعلم الحساب وهكذا. |