بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على محمد وآله الطيبين الطاهرين سيما خليفة الله في الأرضين، واللعنة الدائمة الأبدية على أعدائهم أجمعين، ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم
مبادئ الاستنباط
مناقشة الدليل التاسع: موثقة مسعدة بن صدقة
سبق (الدليل التاسع: قيام الدليل الخاص على عدم حجية رأي الفقيه في الموضوعات قال في (النور الساطع): ولو سلمنا عمومها([1]) فهي مخصصة برواية مسعدة بن صدقة (( والاشياء كلها على هذا حتى يستبين لك غير ذلك أو تقوم به البينة )) ويؤيدها الرواية عن الصادق( عليه السلام ) المحكية في الكافي والتهذيب في الجبن _(( كل شيء لك حلال حتى يجيأك شاهدان يشهدان أن فيه ميتة)) ولا ريب أن بالتقليد لم يستبن الشيء ولم تقم عليه البينة فتكون مخصصة لأدلة التقليد كما تخصِّص أدلة حجية الخبر)([2]) - انتهى
أقول: (هنا نقاط) (الثانية: ان نتيجة قبول الموثقة بظاهرها هو:
1ـ عدم حجية خبر الثقة الواحد في الموضوعات
2ـ وعدم حجية فتوى الفقيه فيها، لكونها اخص مطلقاً منهما أي من أدلة حجية خبر الثقة([3]) وادلة حجية فتوى الفقيه([4]) وعليه فاللازم إخبار ثقتين لاحراز أيِّ موضوع من الموضوعات ، واللازم اجتماع نقل وكيلين لفتوى المرجع ليصح التقليد بل لابد من شهادتهما بأن هذه هي فتواه!).
لكن يرد عليه:
الجواب الأول: موضوع الرواية هو الأشياء من حيث الحل والحرمة لا مطلقاً
ان مرجع إسم الإشارة في قوله ( عليه السلام ) (والأشياء كلها على هذا..) هو (الشيء من حيث الحلية والحرمة)([5]) وانه كلما شك في شيء انه حلال أو حرام، كحرمة التصرف في الثوب المشترى أو العبد، تصرُّفَ الـمُلّاك أو في المرأة التي عقد عليها تصرُّفَ الأزواج، فهو حلال، فلا تشمل الرواية مبادئ الاستنباط وإن كانت موضوعات إذ ان الموضوع في علم الرجال مثلاً هو الشيء – كالرجل الراوي – من حيث وثاقته وعدمها وعدالته وعدمها وكونه إمامياً أو ممدوحاً أو غير ذلك، وكذلك الموضوع في اللغة هو الشيء – كلفظة الصعيد والكعبين – من حيث الظهور([6]) وعدمه لا من حيث الحلية وعدمها([7]) وان تفرّع عليه وترتّب الحكم وهو حِلّ التيمم به([8]) مثلاً([9]) وكذلك البحث في القواعد البلاغية والمنطقية كشروط إنتاج الأشكال الأربعة فانها ليست بحثاً عن الشيء من حيث الحِلّ والحرمة.
بل نقول: ان موضوع الرواية هو أخص من الشبهات الموضوعية ايضاً إذ لا تشمل الشيء من حيثيات أخرى غير حيثية الحل والحرمة، كما لو شك في ان هذا السائل ماء مطلق أو مضاف([10]) أو ان ما اشتراه معيب أم لا، مغشوش أم لا، أو ان ما سلّمه له هو نفس ما اشتراه منه لو كان البيع شخصياً أم لا؟ وهكذا
والحاصل: إن التقليد في مبادئ الاستنباط وبعض الموضوعات الصرفة خارج عن موضوع الرواية ومحمولها، وكذلك تقليد من قلّد في المبادئ واجتهد في الفقه
الجواب الثاني قول المجتهد في المبادئ استبانة عرفاً
إن قول المجتهد في المبادئ، وكذا قول المجتهد في الفقه الذي قلّد في المبادئ هو استبانة عرفاً إذ ان (يستبين لك غير هذا)([11]) يراد منه (يظهر لك) والظهور أعم من العلم ومن الاطمئنان فانه علم عرفاً.
وبعبارة أخرى: أن نوع الناس عادة حتى الفضلاء منهم يحصل لهم العلم أو الاطمئنان من قول البلاغي في القاعدة البلاغية أو المنطقي في القاعدة المنطقية أو حتى الخبير في الموضوع، بل وحتى من قول الرجالي في الرجال لو لم يعارض؛ فان صورة المعارضة خارجة من محل البحث إذ يدخل به البحث في عنوان طارئ آخر([12]) ويوضحه أن عنوان المعارضة وحكمها يشمل حتى تعارض قول المجتهد المطلق مع آخر ولا يختص بصورة معارضة المجتهد المتجزي أو البلاغي أو الرجالي لغيره.
الجواب الثالث: ان قول المجتهد من مصاديق (البيّنة)
ان قولهما، مندرج في (البينة) حتى إذا استظهرنا عدم اندراجه في الاستبانة، على ما هو الأظهر من عدم كون البينة حقيقة شرعية في الشاهدين العادلين.
توضيحه: ان المحتملات في البينة ثلاثة:
الأول: انه حقيقة شرعية في الشاهدين العادلين
الثاني: ان المراد بها مطلق الحجج والأدلة فتشمل الإقرار والاستصحاب وحكم حاكم الشرع واليد والسوق وغيرها، إلا ان تدل القرائن الخارجية أو الداخلية كمناسبات الحكم والموضوع على إرادة المعنى الأول.
الثالث: ان المراد بها المعنى اللغوي وهو ما يتبين به الشيء، وهو أعم من سابقه لشموله لمثل التنجيم إذ يتبين به لكثير من الناس الحالُ، وكذا الأحلام لو تبين بها الحال للإنسان، بل وكذا القياس لولا الردع.
والظاهر انه لا دليل على كونه حقيقة شرعية في الشاهدين، كما استظهر في الجواهر ذلك في لفظ (الشهادة) وكما صرح به السيد الوالد في (الفقه) فيها([13]) أيضاً
قال السيد الوالد في الفقه: (ولقد أحسن الجواهر حيث قال: الأمر سهل بعد معلومية كون مرجع هذا التعريف إلى تحقيق المعنى العرفي للشهادة، ومن هنا كان الأصوب إيكال ذلك إلى العرف للقطع بعدم معنى شرعي مخصوص لها، والغالب في المعاني العرفية عدم إمكان ذكر حد تام لها شامل لجميع أفرادها – أنتهى).
وكيف كان، فإذا كان للشهادة أحكام خاصة وشك في فرد مثل: كلام المترجم والمقوم والقاسم انه شهادة أم لا، لم تترتب تلك الأحكام، لأن الموضوع يجب ان يعرف تحققه حتى يرتب عليه الحكم، فإذا لم يعلم تحققه لم يكن جه لترتيب الحكم كما هو ظاهر قول الجواهر في رد القوانين كلما عد فيه انه من الشهادة اعتبر فيه التعدد وغيره من الأحكام الثابتة للشهادة، وإلا كان من غيرها) ([14]) انتهى.
كما ان المعنى اللغوي أعم من موضوع حكم الشارع إذ يراد به([15]) البيّنة اللغوية أو العرفية التي أمضى الشارع حجيتها لا مطلقاً وإلا لشمل مثل الأحلام والتنجيم والقياس والرمل والأسطرلاب وما أشبه.
وبعبارة أخرى: الظاهر هو الحقيقة الشرعية([16]) بالمعنى الأعم – وهو المعنى الثاني – لا بالمعنى الأخص وهو المعنى الأول
وعلى أية حال فان البينة – سواء أخذنا بالمعنى الثاني أو الثالث أو أرجعنا الثالث للثاني بدعوى ان تلك الأمور([17]) ليست بينة عرفاً ولا لغة أيضاً – تشمل قول المجتهد في المبادئ وكذا المقلد فيها المجتهد في الفقه مما تفرع عليها.
الجواب الرابع: موثقة مسعدة مخصَّصة بسائر الحجج
ان الحصر في (والأشياء كلها... البينة) إضافي وليس حقيقياً، أو ان شئت فقل الرواية مخصَّصة قطعاً بسائر الحجج كالإقرار واليد والسوق والاستصحاب الجاري في الموضوعات([18]) وحكم الحاكم وكذا قول الفقيه فانه حجة بأدلته وقد سبق ان أدلته من بناء وسيرة وكتاب وسنة على الأعم من المطلق والمتجزي.
وصلى الله على محمد وآله الطاهرين
([1]) - أي ادلة التقليد
([2]) الاجتهاد والتقليد / الدرس 81.
([3]) - كـ(إِنْ جَاءَكُمْ فَاسِقٌ بِنَبَأٍ) اية: 6 سورة الحجرات - فإنه اعم من الاخبار عن الموضوع او عن الحكم ، ان لم نقل انه خاص بالاخبار عن الموضوعات.
([4]) - كـ(لِيَتَفَقَّهُوا فِي الدِّينِ وَلِيُنْذِرُوا قَوْمَهُمْ إِذَا رَجَعُوا إِلَيْهِمْ لَعَلَّهُمْ يَحْذَرُونَ) اية : 122 سورة التوبة - فإنه اعم من التفقه في الحكم او في تنقيح الموضوع وقد يناقش بإختصاصها بالحكم وسيأتي في المتن.
([5]) إذ صدر الرواية (كل شيء لك حلال حتى تعلم انه حرام بعينه فتدعه من قبل نفسك.... والأشياء كلها على هذا حتى يستبين لك غير هذا...)
([6]) أي ظهور الصعيد في خصوص التراب أو مطلق وجه الأرض.
([7]) أي حِلّية التيمم بمطلق وجه الأرض.
([8]) بل الحل في الرواية يراد به الحكم التكليفي في مقابل الحرمة، وحل التيمم يراد به صحته.
([9]) لكنه لا يترتب عليه وجوب المسح إلى الكعب بمعنى مفصل الساق، أي هو خارج من موضوع الرواية إذ موضوعها الشيء من حيث الحل والحرمة لا الجواز والوجوب إلا على تنقيح المناط - فتأمل
([10]) ليصح الوضوء به أو عدمه.
([11]) ورد في بعض النسخ (حتى تستبين) والفاعل المحذوف اما هو (أنت) والمفعول هو الشيء أي حالُهُ من حيث الحل والحرمة، أو الفاعل هو (الأشياء) أي لك
وقد يفرق بينهما بان ظاهر الأول الطلب لظاهر باب الاستفعال وظاهر الثاني حصول الاستبانة عفواً أو طبعاً للقرينة المقامية، كما ان هذا الأخير هو ظاهر (حتى يستبين لك غير هذا) فتأمل
([12]) فان الحجج كلها، حتى المسلّم منها، فانها لدى المعارضة اما ان يقال بتساقطها أو التخيير بينها مع التساوي.
([13]) أي في الشهادة.
([14]) الفقه ج86 ص10
([15]) أي بموضوع حكم الشارع.
([16]) بمعنى تضييق الشارع دائرة البينة فقط.
([17]) الأحلام والتنجيم والرمل والقياس... الخ.
([18]) بل والأحكام أيضاً لو قيل بشمول الرواية للشبهات الحكمية كما ذهب إليه الآخوند إذ قال (دل على حلية ما لم يعلم حرمته مطلقاً ولو كان من جهة عدم الدليل على حرمته). |