بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على محمد وآله الطيبين الطاهرين سيما خليفة الله في الأرضين، واللعنة الدائمة الأبدية على أعدائهم أجمعين، ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم
مبادئ الاستنباط
تتمة مناقشة الوجه الحادي عشر
سبق (واما ما كان من مسائل الاصول ليست بشرعية سواءاً كانت لغوية كمسألة دلالة الامر على الوجوب ونحوها، أم عقلية كمسألة اجتماع الأمر والنهي، أم غيرها فلا يجوز تقليده فيها لما ذكرناه في عدم جواز تقليده في مسائل العلوم)([1])
أقول: الأدلة السابقة التي ذكرها في بحث التقليد في الموضوعات،([2]) هي:
أدلة التقليد مطلقة ولا إنصراف
1- (لعدم الإطلاق أو التعميم في أدلة التقليد) وقد سبق الجواب عنه تفصيلاً برهنّا عمومها وإطلاقها.
نعم ذكر السيد العم في بيان الفقه وجهاً آخر وهو (مستند القول الأول: وهو عدم جريان التقليد في مسائل أصول الفقه، ما يلي:
1- إنصراف أدلة التقليد إلى التقليد في الفروع دون مسائل أصول الفقه.
وفيه أولاً: أنّ الإنصراف غير محرز إن لم نقل بإحراز عدمه، كما سنذكره إن شاء الله تعالى.
وثانياً: الإنصراف إن تم فإنما هو في الأدلة اللفظية دون العقلية والعقلائية ممّا لا لسان لها، خصوصاً وأن عمدة أدلة التقليد هو بناء العقلاء – بل الفطرة كما تقدّم في أول الكتاب – على رجوع الجاهل إلى العالم، ولا مسرح للإنصراف في مثله([3]).
نعم قد يخدش فيه بان بناء العقلاء لبّي، والمتيقّن منه غير ذلك، فتأمل)([4])
والفرق بينه وبين ما سبقه هو ان الأول مشير إلى عدم المقتضي، وما ذكره السيد العم مشير إلى الصارف – وهو مانع – بعد قبول تحقق المقتضي.
وقد سبق ان بناء العقلاء عام لا شك في عمومه لمبادئ الاستنباط ومنها أصول الفقه لكونه رجوعاً للجاهل إلى العالم ولا شكَّ ليُقتصَرَ على القدر المتيقن.
دليل الانسداد جار في المبادئ في الجملة
2- (ودليل الانسداد والارتكاز لا يجري في الموضوعات لانفتاح باب العلم فيها)
أقول: اما دليل الانسداد فقد يدعى تماميته في بعض مبادئ الاستنباط، لكن المستظهر عدمه، والظاهر التفصيل وتماميته في بعض المسائل الخلافية أو التي قلّت أو عدمت فيها القرائن في اللغة والرجال والتاريخ والسيرة وبعض المبادئ الأخرى. وتحقيق ذلك موكول إلى محله
وعلى أي فلو تمت مقدمات الإنسداد في بعض المبادئ أو في بعض مسائل المبادئ أنتجت حجية الظن المطلق مطلقاً من حيث الأسباب أي من غير فرق بين أسبابه كما سبق ومن أسبابه قول الخبير المجتهد فيها.
دليل الارتكاز شامل للمبادئ
واما (الإرتكاز) فان المراد به الارتكاز العقلائي([5])، ومرجعه إلى ارتكازية رجوع الجاهل إلى العالم، ولا شك ان مبادئ الاستنباط صغرى هذه الكبرى.
بعبارة أخرى: لا شك في ان الارتكاز العقلائي على صحة تقليد الخبير المجتهد في مبادئ الاستنباط حتى مع انفتاح باب العلم فيها، كالفقه تماماً، فان ارتكازهم([6]) قائم على التخيير في كل العلوم بين الاجتهاد فيها أو الرجوع إلى المجتهد فيها.
وصفوة القول: ان مبنى التفريق هو عزل عنوان التقليد عن عنوان رجوع الجاهل إلى العالم وإذ اتضح انه صغراه([7]) اتضح انه لا فرق بين مبادئ الاستنباط ومسائل الفقه في صحة التقليد فيها جميعاً.
الجواب عن دعوى ان المسائل اللغوية والعقلية ليست مجعولات للشارع...
كما سبق (اقول: يمكن الاستدلال على ذلك بوجوه ثلاثة:
الاول: ان المسائل اللغوية او العقلية الاصولية ليست مجعولات للشارع كي يجعل (فتوى المجتهد) حجة عليها – وقد سبق تفصيله.
الثاني: انها لا اثر شرعي لها، بل اثرها اما عقلي او عرفي، وان كان لازم اللازم شرعياً.
الثالث: ان جعل الحجية للفتوى انما هو للحاجة إلى المؤمِّن من العقاب او الى المنِّجز للتكاليف، ولا شيء من المسائل اللغوية او العقلية الاصولية مما عليها عقاب لتحتاج الى مؤمِّن)([8]).
الجواب أولاً: هي مجعولات للشارع تأسيساً أو إمضاءاً في خصوص أحكامه
والجواب:
أولاً: ان المسائل والأحكام اللغوية والعقلية وإن لم تكن بما هي هي مجعولات للشارع إلا انه لا شك في حاجتها([9]) للإمضاء في خصوص الأدلة على أحكامه، فان حجيتها ليست ذاتية بل هي بنحو المقتضي فللشارع – كغيره من الموالي – أن يسلك طريقاً آخر في حججه على أحكامه ومراداته بأن يجعل حججاً أخرى ويلغي الحجج العرفية واللغوية عن الحجية والدلالة على مراداته فله ان يقول بانه في أوامره مثلاً لا يبني على ما بنى عليه العرف من ظهورها في الوجوب بل يقول كلما استخدمت صيغة الأمر أردت بها الندب أو الجامع وهو مطلق الطلب أو حتى الإباحة بإرادة التخيير.
بل نقول ان له ان يجعل الحجية لما إعتبره العرف حجة، من غير لزوم تحصيل الحاصل أو اللغوية؛ فان سبق جعل العرف أو العقلاء لأمر – كخبر الثقة وظهور الأمر – حجة لا يضاد ولا يدفع إمكان وصحة جعل الشارع له حجة في خصوص ألفاظه وطرقه؛ لأن جعل الحجية اعتبار والاعتبار بيد من بيده الاعتبار ولا شك ان الشارع سيد - بل مبدأ المبادئ - لمن بيده الاعتبار.
وذلك كله واضح جداً بناء على تفسير الحجية بلزوم الاتباع.
واما بناءاً على تفسيرها بمعنى الكاشفية فحيث انها ليست ذاتية لغير العلم، ومنه الظواهر كلها وأخبار الثقات ما لم تتواتر، لذا أمكن إمضاؤها أو جعلها لها تأسيسياً([10]) أو سلبها عنها، والجعل التأسيسي متصوّر لما فصلناه في كتاب الأوامر من أن الأوامر الشرعية – (ونظائرها كمطلق مجعولاته) – الواردة في مورد المستقلات العقلية (وكل الأمور العرفية) يمكن ان تكون مولوية ولا إلجاء إلى القول بكونها إرشادية وذلك نظراً لتعريف المولوي بانه ما صدر عن المولى بما هو مولى معمِلا مقام مولويته. فليراجع ما هاهنالك وتأمل في تماميته في المقام.
ثانياً: انها مجعولات له والمصحح هو الغاية
ثانياً: ان كون لازم اللازم شرعياً يكفي مصححاً للجعل أو الإمضاء، والمسائل والأحكام اللغوية والعقلية([11]) بلحاظ الغاية منها والتي لأجلها بحثت في علم الأصول، هي ذات أثر شرعي([12]) كما انها بهذا اللحاظ موجبة لتنجز التكاليف فانها حجة عليها ولو بالواسطة طولياً، كما هي موجبة للمعذرية والأمن من العقاب لو لم تُصب([13]).
وصلى الله على محمد وآله الطاهرين
([1]) الاجتهاد والتقليد / درس 84، نقلاً عن النور الساطع ج2 ص88.
([2]) النور الساطع ج2 ص73 تحت عنوان (الموضوعات الصرفة والمستنبطة).
([3]) والحاصل ان الإنصراف مما يوصف به اللفظ المطلق ولا توصف به الأدلة العقلية واللبية.
([4]) بيان الفقه في شرح العروة الوثقى ج4 ص425.
([5]) وكذا لو كان المراد به إرتكاز المتشرعة.
([6]) وسيرتهم.
([7]) وسيأتي مزيد توضيح له بإذن الله تعالى.
([8]) الاجتهاد والتقليد / درس 84.
([9]) أي اللغوية اما العقلية فالقطعي منها لا شك في موافقة الشرع له.
([10]) بإلغاء احتمال الخلاف بل بكون مراداته بنحوٍ تكون الحجج العرفية كواشف عنها وان أمكنه ان يجعلها بنحو آخر ويوضحه انه كذلك – أي بنحو آخر – إذا كان في مقام التعليم دون الفتوى. فتأمل
([11]) الأحكام العقلية، للشارع ان يحكم على طبقها مولوياً أيضاً وليس إرشادياً فقط كما فصلناه في كتاب (الأوامر).
([12]) فان بها يثبت الحكم.
([13]) والحاصل ان الحكم اللغوي والعقلي بلحاظ وقوعه طريقاً لإثبات الحكم الشرعي مما يترتب عليه العقاب وإن كان طريقياً لا نفسياً وذلك مصحح لجعلها أو إمضائها شرعاً. |