بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله رب العالمين والصلاة على محمد واله الطاهرين واللعنة على اعدائهم الى يوم الدين ولاحول ولا قوة الا بالله العلي العظيم .
لا زال الكلام في قاعدة الالزام والحديث حول رواية (من كان يدين بدين قوم لزمته احكامهم ),وقد بدأنا في فقهها بعد الانتهاء من بحثها السندي ,وقد ذكرنا فيما سبق اربعة وجوه ل (كان) و لكن لا يخفى انها كلها معان مجازية ,ولكن هنا يرد تساؤل وهو لماذا لم نتحفظ على المعنى الحقيقي المراد من (كان) اي كونها ناقصة متضمنة لمعنى المضي من الزمان ؟ والجواب: ان السبب في ذلك هو ان هذا المعنى لايمكن ان يراد في الرواية المزبورة وذلك لوضوح ان المعنى المراد منها ليس فقط من كان يدين بدين القوم في الماضي دون الحال، بل المتفاهم عرفاً منها هو من هو متدين بدين قوم لزمته احكامهم، وهي القرينة المقامية الجلية، والتي ساقت لرفع اليد عن ذلك المعنى الحقيقي الى الوجوه الاربع الاخرى المجازية ل (كان).
اللهم الا ان يقال :ان المعنى الحقيقي بارادة الماضي لا مانع منه، بتوجيه ان الرواية هي بصدد الاشارة الى ابقاء ما كان على ما كان ,اي انها بصدد تقرير حالة الاستصحاب فمن كان يدين بدين قوم سابقا تلزمه الآن احكامهم وان لم نعلم حالة تدينه الان, اي: انه يلزم باحكامهم حتى مع عدم العلم بحاله الآني ما دام لم تقم قرينة على الخلاف، و لم ينتقض يقينه السابق بيقين معاكس فنبقي ما كان على ماكان , وهذا المعنى محتمل ومع اللجوء اليه يمكن التحفظ على المعنى الحقيقي ل (كان),ولكنه معنى مستبعد عن الفهم العرفي فمثلا لو قال احدهم ( من كان يوالي عليا ع فأكرمه ) فالمفهوم منه عرفا اكرم الموالي الحالي وليس المقصود من العبارة من كان في الماضي موالياً فهو يستحق الاكرام بناءاً على استصحاب حالته السابقة, وهذا الوجه نفسه وتلك الوجوه ايضاً، تقال عن روايات اخرى متشابهة، وهي تلك التي تشتمل على فعل الماضي بنفس المضمون السابق مثل ( من دان بدين قوم ) فدان هو فعل ماض، والكلام الكلام.
وهنا نضيف: لو ان شخصا استظهر هذا المعنى المستبعد عرفا فان ذلك لا يخل بمقصودنا بل يزيدنا فائدة وتأييدا ؛حيث يكون المعنى من دان بدين قوم سابقا وشككنا الان في حاله فيلزم بأحكامهم استصحاباً لحالته السابقة , وهنا نقول فكيف بمن قامت الحجة والامارة على كونه متدينا بذلك الدين الان فهي اقوى من الاستصحاب الادنى رتبة من الامارات اذ هو ( فرش الامارات) وان كان (عرش الاصول) .
ولنرجع الان الى بقية مفردات الرواية ونتناول كلمة دين في (دان بدين قوم ) ,وسنستعرض المعاني المرادة اوالمحتملة في كلمة( دين ) .
معاني كلمة (دين ) :
ذكر اللغويون معاني عديدة لكلمة دين، لكن الاستعمال اعم من الحقيقة، وعلى هذا يحتمل ان تكون من قبيل المشترك اللفظى، وقد تكون من قبيل المشترك المعنوي او تكون بنحو الحقيقة والمجاز او بنحو النقل على تفصيل يأتي ان شاء الله .
بحث لغوي في كلمة ( دين ) :
وهنا لدينا اثنا عشر معنى لكلمة دين سنذكرها تباعا ,
اما المعاني الثلاث الاولى فهي الجزاء ، الحساب ، الحكم, وهذه كلها معان محتملة في ( مالك يوم الدين ) أي مالك يوم الجزاء او الحساب او الحكم والفصل، وقد ذكرها المفسرون، وكذلك القول في ( ان الدين لواقع ) أي إن الجزاء لواقع او ان الحساب لواقع او ان الحكم لواقع .
المعنى الرابع : الطاعة كما في قوله تعالى (( وله الدين واصبا ) أي له الطاعة دائماً.
المعنى الخامس : هو الطريقة , ولم نجد في استقراء ناقص من اللغويين من ذكر هذا المعنى، ولكن السيد الوالد ( قدس سره ) قد ذكر هذا المعنى في تفسيره للدين في آية (( ومن أحسن ديناً ممن اسلم وجهه لله وهو محسن )) , أي ومن أحسن طريقة , والظاهر أن هذا المعنى هو الاقرب من تفسير ( ديناً) بـ(طاعةً) .
المعنى السادس : وهو معنى معهود , ان المراد من الدين (مجموع العقيدة والشريعة) ، ولكن هذا المعنى هل هو معنى لغوي او شارعي او متشرعي ؟ او ما قبل شارعي ؟ سيأتي بيان ذلك ان شاء الله تعالى .
و البعض عرف هذا المعنى بـ( وضع إلهي لأولي الالباب يتناول الاصول والفروع , ولكن ما ذكرناه أيسر وأوضح .
ومثاله قوله تعالى ( لكم دينكم ولي دين ) , حيث ان الظاهر هو لكم شريعتكم وعقيدتكم ولي شريعتي وعقيدتي .
فائدة: ما هو المراد من ( لا إكراه في الدين ) ؟
إن الاحتمالات الجارية في المقام هي : إما ان يكون المراد هو: لا إكراه في الطاعة ، أو يكون المعنى المراد لا إكراه في الشريعة .
و على كلا التقديرين فهل ( لا ) في المقام هي اداة نفي تفيد الاخبار -اي : لا يوجد ولا يتحقق في الخارج اكراه في الدين -أم اداة نهي تفيد الانشاء اي: -لا تكرهوا في الدين احداً -نظير ما ذكر في لا ضرر وانه نفي او نهي كما احتمله بعض الاعلام ؟
فأن كانت اداة نفي فهي دالة على نفي وقوع الاكراه في الدين، ولكن قد يستشكل بان ذلك خلاف الوجدان لكثرة من اكره من الناس في الدين كما في كثير من المسلمين الذين يكرهون على الكفر .
والحاصل: انه ان افادت الاداة الإخبار، فان الاشكال وارد ان كان المراد من (الدين ) هو مجموع العقيدة والشريعة .
ولكن لو أريد من الدين الطاعة، فان النفي تام ولا اشكال في المقام لان الطاعة لا تكون عن اكراه ابدا , اذ هي متقومة بقصد القربة والاخلاص الذين لا يجتمعان مع الاكراه ومن هنا نجد انه تبعا للمعنى المراد من ( الدين ) يمكن ان يكون الكلام صحيحا ويمكن ان لا يكون كذلك.
واما الاحتمال الاخر في ( لا اكراه في الدين ) فهو ان تكون ( لا ) اداة نهي، ويكون المعنى منها ( لا تكرهوا الناس في دينهم ) ولنترك تحقيق هذا البحث الى محله ان شاء الله .
المعنى السابع : الدين هو ما يتدين به الرجل وهو معنى لو استظهر لأعطى معناً وسيعاً لقاعدة الالزام.
المعنى الثامن : العادة والشأن , ومثاله العرفي ( مازال ذلك ديني وديدني ) عند الاشارة لعادة من العادات يتلبس بها الشخص, أي مازالت تلك عادتي , وهذا المعنى سينفتح منه باب واسع كذلك لو التزمنا به في قاعدتنا , وقد قيل: ان النبي صلى الله عليه واله: ( كان على دين قومه ) فلو صح الحديث لكان المراد هنا احد احتمالين هما :
1. اما ان يكون المراد انه ( صلى الله عليه واله )كان على عادة قومه في شيمهم المعروفة من الكرم والجود والشهامة وغيرها .
2. او يكون المراد انه ( صلى الله عليه واله ) كان على ما تبقى في قومه من دين ونهج ابراهيم ( عليه وعلى نبينا وآله السلام) في التوحيد والحنفية الخالصة .
المعنى التاسع : هو السلطان وسيأتي مثاله .
المعنى العاشر : القضاء , قال تعالى: ( ماكان ليأخذ أخاه في دين الملك ) و قد ذكر المفسرون أن المراد هو قضاء الملك، وقيل: سلطان الملك، و الاحتمال الاخر هو عادة الملك و ما جرت عليه عادته واعرافه في التعامل مع السارق .
المعنى الحادي عشر: الخضوع تقول: دان نفسه اي اذلها واستعبدها ومنه ( دانت له الرقاب ) أي خضعت له الرقاب .
الى هنا ينتهي هذا الاستعراض السريع لموراد استعمال كلمة( دين )والتي هي اعم من الحقيقة .
بحوث في المقام :
بحث في فقه اللغة:
اولاً: هل ان لفظة ( دين ) مقولة على هذه المعاني المتعددة بنحو الاشتراك اللفظي فتكون حقيقة فيها باجمعها ,وهنا يوجد بحث حول الاشتراك اللفظي ومنشأه، فان البعض يرى انه نشأ من تعدد الوضع , والبعض الاخر من المؤرخين فيما نقل عنه الميرزا النائيني قدس سره ،يرى انه نشأ من دمج اللغات العربية المختلفة فتولد الترادف والاشتراك ، والصحيح انه نشأ من هذا وذاك اي من الامرين معاً، وتفصيل الكلام في محله .
ثانياً: يحتمل ان يكون الدين مشتركاً معنوياً، بين كل المعاني التي ذكرت والجامع لها هو معنى الخضوع والانقياد وهو معنى سيال بين جميعها , فالقضاء والحكم والجزاء كلها تتوافر على الخضوع والانقياد . وكذلك باقي المعاني .
وسياتي تفصيل الحديث باذن الله تعالى.