• الموقع : مؤسسة التقى الثقافية .
        • القسم : دروس في التفسير والتدبر ( النجف الاشرف ) .
              • الموضوع : 193- 4- مقاييس الاختيار الالهي : الجمع لإشراط الطاعات والاعداد المتواصل للنجاح في المنعطفات الكبرى .

193- 4- مقاييس الاختيار الالهي : الجمع لإشراط الطاعات والاعداد المتواصل للنجاح في المنعطفات الكبرى

بسم الله الرحمن الرحيم 
 
الحمد لله رب العالمين، بارئ الخلائق أجمعين، باعث الأنبياء والمرسلين، ثم الصلاة والسلام على سيدنا ونبينا وحبيب قلوبنا أبي القاسم المصطفى، محمد وعلى أهل بيته الطيبين الطاهرين الأبرار المنتجبين، سيما خليفة الله في الأرضين، واللعنة الدائمة الأبدية على أعدائهم إلى يوم الدين، ولا حول ولاقوه إلا بالله العلي العظيم. 
 
الاشراط والشروط في المنظومة الإسلامية 
 
يقول تعالى: 
 
(وَإِذِ ابْتَلَى إِبْرَاهِيمَ رَبُّهُ بِكَلِمَاتٍ فَأَتَمَّهُنَّ قَالَ إِنِّي جَاعِلُكَ لِلنَّاسِ إِمَامًا قَالَ وَمِنْ ذُرِّيَّتِي قَالَ لَا يَنَالُ عَهْدِي الظَّالِمِينَ)([1]) 
 
سوف يدور الحديث باذن الله تعالى وعلى ضوء مفردة (أتمهن) في الآية الشريفة، عن منظومة (الأشراط ) وفرقها عن منظومة (الشروط)، وهو بحث من النادر ان يطرح بهذا العنوان رغم جوهريته ومحوريته في شؤون الحياة، وفي شؤون الاخرة أيضاً. 
 
وقد سبق أن ذكرنا أن (الإتمام) له عدة معاني مضى الحديث عن بعضها، ومنها ما صرحت به الرواية الشريفة عن الإمام ( عليه السلام ) وهو (الجمع لأشراط الطاعة) واشراط الطاعة هي التي أشارت إليها الآية الشريفة: (قُلْ إِنَّ صَلَاتِي وَنُسُكِي وَمَحْيَايَ وَمَمَاتِي لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ * لَا شَرِيكَ لَهُ وَبِذَلِكَ أُمِرْتُ وَأَنَا أَوَّلُ الْمُسْلِمِينَ)([2])
 
فلا بد من التدبر في هذه المفردة المحورية التي استخدمتها الرواية الشريفة في تفسير هذه الآية الكريمة، فانها مفردة هامة جدا لكنها لا تزال في مجاميعنا شبه مهملة، ولعل أكثر الناس لم يسمع بها أبداً وهي (الجمع لاشراط الطاعة). 
 
ويتضح ذلك بدراسة الفرق بين (الشروط) وهي جمع (شَرْط)، وبين (الأشراط) والتي هي جمع (شَرَط) وكلاهما من الأساسيات في الحياة، والملفت ان نجد الإمام ( عليه السلام ) عندما تطرق لمعاني الإتمام في الآية الشريفة ذكر (الاشراط) لا (الشروط) حيث قال ( عليه السلام ): ((...ومنها: جمعه - أي ابراهيم ( عليه السلام ) - لأشراط الطاعات... )) وتمام الرواية هو: 
 
يقول الامام ع ( ...ثم الجمع لاشراط الطاعات في قوله: (قُلْ إِنَّ صَلاتِي وَنُسُكِي وَمَحْيَاي وَمَمَاتِي لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ * لا شَرِيكَ لَهُ وَبِذَلِكَ أُمِرْتُ وَأَنَا أَوَّلُ الْمُسْلِمِينَ) فقد جمع في قوله: (مَحْيَاي وَمَمَاتِي لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ) جميع أشراط الطاعات كلها حتى لا يعزب عنها عازبة، ولا تغيب عن معانيها منها غائبة...)([3]) 
 
والشَرْط: هو التزام في التزام كما جاء في الأصول، وهو قد يكون شرط الصحة وقد يكون شرط القبول، ومثال الأول: الطهارة في الصلاة، ومثال الثاني: حضور القلب فيها وكذا الولاية لأهل البيت (عليهم السلام) في جميع الأعمال.([4]) 
 
لكن: للصلاة (أشراط) وهي غير (الشروط) بقسميها فعلينا بحثها ومعرفتها كما سياتي، ولنمثل بمثال اخر وهو: الحياة الزوجية السعيدة فان لها شروطا منها :ان تبتني على الأخلاق والدين ((اذا جاءكم من ترضون دينه وخلقه، فزوجوه، والا تفعلوا تكن فتنة في الارض وفساد كبير))([5])، لكن هناك (أشراط) للحياة الزوجية السعيدة وهي غير الشروط وهي عادة لا تبحث. 
 
والحاصل: ان هذا البحث بحث أساسي ومهم جداً، خصوصا مع ملاحظة ان الامام عليه السلام في الرواية الشريفة استخدم مفردة (أشراط) ولم يقل شروط الطاعات، فعلينا البحث في تعريف (الأشراط) وإلقاء الضوء حولها حتى يمكننا التفريق بين منظومة (الشروط) ومنظومة (الاشراط)، فنقول: 
 
ان الشَرَط: وجمعها أشراط، لها معنيان: 
 
1) العلامات، قال تعالى: (فَهَلْ يَنْظُرُونَ إِلَّا السَّاعَةَ أَنْ تَأْتِيَهُمْ بَغْتَةً فَقَدْ جَاءَ أَشْرَاطُهَا فَأَنَّى لَهُمْ إِذَا جَاءَتْهُمْ ذِكْرَاهُمْ)([6]) أي: علاماتها، وهذا المعنى هو من عالم الإثبات. 
 
2) المقدمات والممهدات، وهذا المعنى هو من عالم الثبوت. 
 
وقد فصلنا الكلام حول هذه المفردات في كتاب (المرابطة في زمن الغيبة) فراجع. 
 
أمثلة ونماذج من الاشراط 
 
والآن سنستعرض عدداً من نماذج ومصاديق الاشراط والشروط لتوضيح المطلب أكثر فأكثر: 
 
الطالب 
 
ان من (شروط) فهم الطالب لدرسه: هو حضور ذهنه أثناء الدرس، بينما (أشراط ) الدرس غير ذلك، فان منها: أن يحضر للدرس مبكرا بان يحتاط في الخروج مبكرا من المنزل؛ لأحتمال انسداد الطرق او غير ذلك، فالخروج مبكراً شَرَط وليس شرْطاً([7])
 
الخطيب الناجح 
 
كما أن من (شروط) الخطابة الناجحة ان يتميز الخطيب بالعلم والثقافة الواسعة والتحضير الجيد، بينما نجد ان من علامات وأشراط ذلك: تركيز الجميع وإنشدادهم الى حديثه حتى كأن على رؤسهم الطير إذ بذلك نكتشف ان هدوء الجمهور وسكون أعضاءهم وجوارحهم كلها فلا حركة ولا تململ هو من اشراط الخطابة الناجحة.([8]) 
 
الصلاة 
 
كما أن (شَرَط) قبول الصلاة: حضور القلب في الوضوء، وهو غير حضور القلب في نفس الصلاة والذي هو (شَرْط) وليس من الأشراط، وقد ذكرت بعض الروايات ذلك وأشارت الى ان استجماع الانسان لقلبه في الوضوء علة مُعِدَّة او مقدمة موصِلة بنحو الاقتضاء للدخول خاشعا متفكرا الى الصلاة . 
 
الحياة الزوجية السعيدة 
 
كذلك من (أشراط) الحياة الزوجية أو العائلية السعيدة: التزاور المكثف الذي يكشف عن العلاقة الطيبة الحميمية بين أفراد الأسرة، ونفس الأمر ينطبق على الجيران أو العشيرة أو المحلة أو الأمة الواحدة، فلو اردنا معرفة مدى سعادتها او تعاستها في العيش المشترك فما علينا إلا تتبع الاشراط بكلا معنييها: العلائم والمقدمات. 
 
ومن الغريب المؤسف ان نجد بعض الأعراف قد جرى ديدنهم على أن المرأة عندما تريد ان تتزوج، فان أهلها يثقلون كاهل الزوج بالمهر المرتفع، وهم يعتبرون ذلك (شَرْطا) في استمرار الحياة الزوجية ولكن ذلك من أكبر الأغلاط، لأن ذلك ليس شَرطا وعاملاً لتوفير الحياة السعيدة واستقرارها، بل هو متوهم الشرطية؛ لانهم يعتقدون ان الزوج سيتردد كثيرا في طلاق ابنتهم في حال كان مؤجل مهرها كبيراً، متناسين ان الزوج إذا كره زوجته - ولم يكن له دين - فانه سيؤذيها حتى تخضع وتتنازل عن مهرها, في حين ان العكس هو الصحيح فان تخفيف المهر يعتبر شرَطاً([9]) للحياة الزوجية السعيدة وقد ورد في الحديث ((خَيْرُ نِسَاءِ أُمَّتِي أَصْبَحُهُنَّ وَجْهاً وَ أَقَلُّهُنَّ مَهْراً))([10])
 
وصفوة القول: انه إذا اردنا معرفة مدى استمرارية هذا الزواج من عدمه، فان علينا ان نبحث عن (الأشراط) فمثلا علينا ان نلاحظ تعامل الزوج مع إخوته وسائر أفراد أسرته وعشيرته: هل يحترمهم ام لا؟ هل يضربهم ام لا؟ فان كان يضربهم مثلا فان ذلك علامة على انه بطريق اولى سيضرب زوجته ويهينها. 
 
كما ان الطالب أو الكاسب الذي يتطلع الى هذه الفتاة او تلك في الجامعة أو السوق مثلا، فانه يكشف بذلك عن انذار مبكر عن سلوكه المستقبلي، فعمله هذا (أي عدم نزاهة نظراته الآن) شَرَط أي علامة على وضعه وحالته في المستقبل. 
 
ان كل إنسان يُقدّم علامات و(أشراطاً) مسبقة قبل تبوءه أي عمل أو منصب وقبل تحوله من حالة (كالعزوبة) الى حالة أخرى (كالزواج)، وهذه الاشراط تكشف عن خبايا نفسه ومطويات سريرته، وعلينا ملاحظتها (أشراط حياته) والتدقيق فيها كيف كانت وبِمَ تنذر فانه حتى لو كان ألان مُستجمعا (للشروط) فانه لو افتقد الاشراط فانه مما يخشى منه. 
 
التبليغ 
 
فان ( شرط ) التبليغ هو معرفة ما تبلغ به، لكن (شَرَط) التبليغ واشراطه هي التاهيل والتدريب فاذا لم يكن المبلغ مُدرّبا ومتدربا فان هذا علامة على انه سيفشل في تبليغه, وعوداً على قضية النبي إبراهيم ( عليه السلام ) فاننا نجد ان إبراهيم نجح لا في الشروط فحسب بل في الاشراط أيضاً، فان حياته كلها كانت سلسلة من المقدمات والممهدات الموصلة للنجاح في مختلف تقلبات الحياة، كما كانت حياته تحتضن الكثير من العلامات المشرقة المبشرة بالنجاحات الآتية المنطقة النظير. 
 
كاشفية (الاشراط) عن سعادة النفس أو شقاوتها 
 
كان السيد الأخ (رحمه الله تعالى) يقول: تارة ننظر الى المعصية بما هي معصية فقد يستخف بها الانسان([11])، وتارة ننظر اليها باعتبارها حلقة من سلسلة تجر الإنسان الى النار والعياذ بالله تعالى، فان المعصية تستتبع معصية اخرى فهي علة معدة لما بعدها فثالثة ورابعة وهكذا، فالمجترح للمعاصي يحوك سلسلة كبيرة حول عنقه تجره لاحقا إلى الهاوية، فتكون كل معصية بذلك (شَرَطاً) وعلامةً على سوء مستقبله وخطورة أمره كما تكون شرَطاً وعلامة على خبث نفسه وشقاوتها... 
 
وهذا نظير ما يثار في مبحث التجري، اذ ان الاطار العام في البحث فيه يتمحور حول (الاشراط)؛ لان الفعل المتجرى به، يكشف عن خبث نفس المتجري، ففعله علامة على ذلك وإن لم يكن الفعل في حد ذاته معصية. 
 
وقوله تعالى في الاية الشريفة: (لَا يَنَالُ عَهْدِي الظَّالِمِينَ)([12]) تشير الى (الشَرَط) باعتبار ان الانسان وإن كان عادلا الآن، لكنه ان كان قد ظلم ولو مرة واحدة فيما سبق فان عهد الله لا يناله؛ لأن الظلم السابق شرَط (أي انه ثبوتاً مقدمةٌ وإثباتاً هو علامة) لعدم نيله عهدَ الله وعدم نيل عهد الله له، نعم لا ينفي ذلك ان يكون شرْطاً أيضاً إذ قد يجتمع الشرْط والشرَط لأن النسبة بينهما هي العموم والخصوص من وجه. فتدبر جيداً 
 
اهدافنا وعلاقتها الجوهرية بالاشراط 
 
ان كلا منا يهدف إلى ان يصبح شخصاً ذا بال، فقد يسعى احدنا لكي يصبح مرجع تقليد، واخر قد يهدف ان يكون خطيبا عالميا او كاتبا او طبيبا او مهندسا مثاليا على مستوى العالم إذ انه يشار الى المؤلف المتميز او المهندس المبدع بالبنان، وفي ذلك رفعة للدين أو الوطن أو المذهب([13])، لكن ما لم تتوفر (الأشراط) لذلك، فان النجاح قد لا يكون حليف الانسان الطموح والساعي الى نيل العلياء، أما اذا لاحظ هذه (الأشراط) في نفسه باستمرار، فانها ستكون مقدمات وعلامات على نجاحه وتقدمه. 
 
الإمام الجواد ( عليه السلام ) يتفقد الرعية ويعوّض المتضررين 
 
وقد ورد في التاريخ عن الامام الجواد ( عليه السلام ): إن احمد بن حديد خرج مع جمع من صحبه الى حج بيت الله الحرام، لكن اللصوص اعترضوا طريقهم وسرقوا كل ما لديهم ثم بعد ذلك واصلوا مسيرهم الى المدينة المنورة فلما وردوها واستقر بهم الحال في محل سكناهم، واذا هم بالإمام الجواد ( عليه السلام ) يبتدرهم الى محل اقامتهم فيسلم عليهم مرحبا بهم ومتفقدا لأحوالهم... ثم انه عليه السلام أمر بكسوتهم جميعا ودفع اليهم أموالا كثيرة... وبعد ان خرج عليه السلام عدوا المال فوجدوه مطابقا لجميع ما سُرق من كل واحد منهم!!! وذلك رغم ان الإمام كان يمكن ان يبعث لهم من يتفقد أحوالهم ورغم كثرة مسؤولياته وجسامتها إلا انه ( عليه السلام ) لم يهمل حتى أولئك النفر القليل بل تكفل بكل ما سرق منهم! 
 
أين نحن من مأساة النازحين؟ 
 
ان علينا ان ناخذ العظة والعبرة من هذه القصة المعبّرة ونحن نعيش هذه الأيام محنة النازحين في العراق الذين بلغ عددهم ما يقرب من مليون وثمانمائة ألف نازح في الفتنة الداعشية الوهابية الأخيرة([14])، والنازحون بشتى ألوانهم هم بشر بينهم الشيخ الكبير والطفل الصغير والمقعد والمريض والمرأة الحامل والمرضع وقد اخرج الجميع من أرضهم وديارهم، ومشاكلهم المتنوعة واحتياجاتهم الكثيرة، والآن لنسأل أنفسنا: هل تأسينا بإمامنا الجواد في الاهتمام بمن دهمتهم الدواهي ونزلت بهم البلايا، ولو بالحد الأدنى؟ وهل نجد انفسنا قد أتممنا الامتحان الإلهي في النازحين – كنموذج -؟ ذلك اننا مسؤولون عنهم دون شك اذ ((كُلُّكُمْ رَاعٍ وَكُلُّكُمْ مَسْئُولٌ عَنْ رَعِيَّتِهِ))([15]) وذلك في حدود القدرة بطبيعة الحال. 
 
والغريب ان البعض لا يفكر حتى مجرد تفكير في مساعدة النازحين والمهجرين أو المطاردين أو المستضعفين ولا يبذل أي جهد ولو اليسير منه، ألا يكشف ذلك عن البعد الشاسع بينه وبين الامام الجواد ( عليه السلام ) الذين يذعن بانه له شيعة!! 
 
والأمر لا يقتصر - في المسؤولية والتفكير على الاقل - على نازحي العراق فقط ومستضعفيه، بل يشمل كل مهجر أو مطارد او سجين بل أي مظلوم في أي مكان كان: في لبنان أو سوريا أو افغانستان أو غيرها. 
 
ولعل سائلاً يسأل: كيف لنا ان نهتم بكل النازحين فكيف بكافة المستضعفين مع ان قدراتنا محدودة جداً؟ والجواب: 
 
ان القدرة على رعاية النازحين وغيرهم تتوقف على مقدمات و(اشراط) ومنها الاستعداد المسبق عبر تأسيس الحواضن وشتى أنواع مؤسسات المجتمع المدني وعبر التأهيل المسبق حتى يمكن احتواء أمثال هذه المأساة الكبيرة التي حلت بالعراق وغيره من دول الجوار بل سيمكن بذلك الحيلولة دون حدوث أمثال هذه الفجائع (دفعاً لا رفعاً فقط). 
 
حوار غريب بين ابنة هولاكو واحد علماء الإسلام 
 
كما يحكى ان ابنة هولاكو زعيمِ التتار – وهم وحوش بشرية أهلكوا الحرث والنسل ودمروا البلاد، قبل أن يسلموا([16]) - كانت تطوف في بغداد تتفحص الأحوال – ويبدو من قصتها انها كانت مثقفة حصيفة - فرأت جمعاً من الناس يلتفـون حول رجل معمم، فسألت عنه، فقالوا انه عالم من علماء المسلمين، فأمرت بإحضاره، فلما حضر سألته: ألستم من المؤمنين بالله؟ 
 
قال: بلى. 
 
قالت: ألا تزعمون أن الله يؤيد بنصره من يشاء؟ 
 
قال: بلى. 
 
قالت: ألم ينصرنا الله عليكم؟ قال: بلى. 
 
قالت: أفلا يعني ذلك ان الله يحبنا ويبغضكم ويبغض دينكم؟ 
 
قال: لا، قالت: لم؟! 
 
قال: ألا ترينَ راعي الغنم؟ قالت: بلى. 
 
قال: ألا يصطحب قطيعه بعض الكلاب؟ قالت: بلى. 
 
قال: فما يفعل الراعي إذا شردت بعض أغنامه وخرجت عن سلطانه؟ قالت: يرسل عليها كلابه لتعيدها إلى قطيعه وسلطانه. 
 
قال: فكم تستمر الكلاب في مطاردة الخراف؟ قالت: ما دامت شاردة. 
 
قال: فأنتم - ولله المثل الأعلى - أيها التتار كلاب الله في أرضه وطالما بقينا شاردين عن منهج الله وطاعته فستبقون ورائنا حتى نعود إلى طاعته ومناهجه وقوانينه!. 
 
ان هذه حقيقة عظيمة عامة وسيالة فما دمنا بعيدين عن طاعة الله وعن قوانينه ومناهجه – كالتعاون والإيثار والصدق والوفاء والحريات والنزاهة والأمة الواحدة - فان البلاء سيستمر حتى نعود الى الله وكتابه ورسوله وعترته، والأمر أعظم مما نتصور فانه لا يقتصر على هذه الفتنة الأخيرة وخروج داعش، بل ان دوائر الاستكبار العالمي ومراكز دراساتهم تعد منذ عشرات السنين جماعات ومنظمات إرهابية ومذاهب مبتدعة هدفها تدمير بلاد المسلمين، فقد خرجت علينا الوهابية ثم طالبان والقاعدة ثم داعش وجبهة النصرة ثم ان مخابراتهم تحذر الان من خروج ما هو اخطر من داعش([17])
 
لقد خططوا لذلك وغيره من عشرات السنين، ويكفي ان نعلم ان بعض الصحف الخليجية نشرت مقالاً عن إحدى الصحف الغربية جاء فيه: ان العراق سوف يقسم الى ثلاث دول تبدأ بالفدرالية ثم الكونفدرالية ثم التقسيم التام وكذا السعودية وايران وسوريا ولبنان. 
 
فالغرب يعمل على (الاشراط) التكوينة ويعد ويستعد قبل ان يقوم باي عمل وقد يخطط للخمسين أو المائة سنة القادمة – أو أكثر -، ولا زالوا يخططون، بينما تجدنا لا زال عازفين عن الانشغال بالإعداد الجاد والتخطيط البعيد المدى بل ولا توجد لدينا مراكز دراسات جادة بمستوى التحديات، ولذا لا نرى العلامات والاشراط ولا نشعر بالنُذُر رغم وجودها في كثير من الأحيان. 
 
ويكفي ان نشير إلى ان من اشراط فشلنا وتخلفنا انك تجد في طول بلاد الإسلام وعرضها أية جهة تصل الى السلطة فإنها تستاثر بها وتتمسك بدل اللجوء إلى التداول السلمي للسلطة بشكل طوعي بل وبإندفاع وبدل (أحب لغيرك ما تحب لنفسك) بل قد تجد البعض([18]) يتخلى عن انتماءه الى بلده فيكون اداة طيعة بيد الغرب كي يضمن له الجاه والسلطان!! 
 
مخططات المأمون للنيل من الامام الجواد ( عليه السلام ) 
 
لقد كان المأمون يعرف الإمام الجواد ( عليه السلام ) بل كان منذهلاً لعظمته وسموه في عليائه، لكنه مع ذلك لجأ إلى مجموعة من الخطط الشيطانية محاولا بذلك إستمالة الإمام وجره معه إلى حضيض عَرَض الحياة الدنيا حيث توهم ان الإمام قد تزل قدمه أمام امتحان دنيوي قوي وشديد جاهلاً أو غافلاً ان الامام قد اتم الامتحانات الالهية الكبرى بنجاح منقطع النظير في العوالم السابقة وفي هذا العالم أيضاً!! 
 
وكان من خطط المامون: انه بدأ يغدق على الامام الجواد ع الأموال والهدايا حتى بلغت فترة من الفترات: مليون درهم كما صرح بذلك المؤرخون وهو مبلغ كبيراً جداً بالنسبة لشاب بين التاسعة من العمر والأكثر خاصة إذا لاحظنا ان القيمة الشرائية لمليون درهم كانت كبيرة جداً، قد تعادل (20) مليون دولاراً في هذا الوقت([19])
 
وذلك كله ظنا منه بان الإمام عليه السلام سوف يتشرب حب الأموال وينجذب إليها، لكنه – بأبي وأمي - انفق كل هذه الأموال في طريق الله تعالى، وواسى بها المضطهدين والفقراء من شيعته وغيرهم. 
 
ان هذا الامتحان وان كان بسيطا بالنسبة الى الامام ( عليه السلام )؛ لانه عليه السلام تجاوز ماهو أعظم منه بكثير، لكن الغرض من ذلك العبرة والتوقف عند حالنا عندما تصلنا مثل هذه الأموال الطائلة وتكون الدنيا بين ايدينا فما نحن فاعلون؟ خاصة إذا لاحظنا انه لا تقتصر الامتحانات الالهية على الأموال بل هناك المناصب والجاه وغير ذلك. 
 
ان على الإنسان ان يعدّ نفسه باستمرار كي ينجح في الاختبار الإلهي، وهذا الإعداد هو الشَرَط وهو الأساس في صناعة مستقبل الانسان. 
 
هل ان عبادتنا ومناسكنا لله تعالى؟ 
 
وان الرواية السابقة الذكر تصلح خير دليل لنا في معرفة اشراط السعادة والفلاح والنجاح إذ يقول الإمام ( عليه السلام ) (...ثم الجمع لاشراط الطاعات في قوله: " إن صلاتي و نسكي ومحياي ومماتي لله رب العالمين ....) فان الآية – التي شرحت بها الرواية كلمة (اتمهن) في الآية الأخرى – واضحة في ان اشراط الطاعات هي ان تكون أمور أربعة كلها لله تعالى وهي: - الصلاة والنسك والمحيا والممات.. ولكن ماذا تعني النسك التي جعلت من اشراط الطاعات؟ 
 
معاني النسك: المذهب والمسلك و... 
 
ان المعاني التي تفسر بها كلمة النسك هي عدة معاني متدرجة من الدائرة الأضيق إلى الدائرة الأوسع: وهي: 
 
1) الذبيحة المتقرب بها الى الله تعالى. 
 
2) كل أفعال الحج، ولذلك جرى التعبير بـ(مناسك الحج). 
 
3) العبادة، فيكون معنى الآية على هذا: ان صلاتي وعبادتي لله رب العالمين . 
 
4) النسك هو المذهب أي مايذهب اليه الانسان أي الطريقة او الشريعة([20])، فكل مسلك يسلكه الشخص وكل طريق يذهب فيه فهو نسك، وعلى هذا فان المنسك هو المســلك وليسا أمرين مختلفين. 
 
وعلى هذا الأخير فان الآية تدل على ان كل لحظة من لحظات حياة الرسول ( صلى الله عليه وآله ) - وكذلك إبراهيم ( عليه السلام ) وسائر الأنبياء والأوصياء بأدلة اشتراكهم في ذلك ونظائره – هي (لله رب العالمين). 
 
إن علينا ان نراقب كل أفعالنا حتى المباحة منها وان نضعها في المقياس الإبراهيمي الدقيق حتى مثل الأكل والشرب او تصفح الانترنيت أو مشاهدة التلفاز أو حتى الرياضة او غير ذلك، وان نسعى لأن نجعل ذلك كله لله رب العالمين وذلك إذا نوينا بذلك([21]) التقوي على العلم والعبادة أو قصدنا ان نثري معلوماتنا بمشاهدة البرامج العلمية أو الاجتماعية أو حتى برامج عن الطبيعة وغيرها في الانترنيت والتلفاز، كي نعرف ما هو الداء وما هو الدواء وما هي أسرار التخلف والتقدم أو السعادة والنجاح وغير ذلك، لا ان يكون ذلك من اجل التلذذ مجردا عن كل قصد عقلائي. 
 
ومقياس ذلك ان نلاحظ مادة افتراق (المفيد) عن (اللذيذ) فالاكل مثلا: قد يكون صحيا لكنه ليس بلذيذ او بالعكس أي قد يكون لذيذاً لكنه ليس بصحي... فمن كان همه لله وحياته لله فانه لا يأكل الا ما كان صحيا فحسب كي يتقوى به على العلم والعمل الصالح والجهاد أو العبادة، أما الغافل فلا يأكل إلا ما كان لذيذا وإن لم يكن صحياً([22])!! 
 
ان من تضعف شهوته عن مقاومة نوع من انواع الحلويات المستوردة من الغرب أو غيره([23]) فانه سيحقق بذلك شرَطاً من اشراط الفشل في امتحاناته القادمة الكبرى، كما ان عدم مقاومة الشهوة المحللة يُعَدُّ من (أشراط) النجاح في مقاومة الشهوة المحرمة. والمستعان بالله تعالى على ذلك كله أولاً وأخيراً. 
 
وآخر دعوانا ان الحمد لله رب العالمين وصلى الله على محمد واله الطيبين الطاهرين 
 
============================================= 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
* نهج البلاغة ص535. 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 

  • المصدر : http://www.m-alshirazi.com/subject.php?id=932
  • تاريخ إضافة الموضوع : الأربعاء 28 ذو القعدة 1435هـ
  • تاريخ الطباعة : 2024 / 03 / 28