بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله رب العالمين وصلى الله على محمد وآله الطاهرين واللعنة الدائمة على اعدائهم اجمعين ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم.
لا زال الكلام في فقه روايتنا المعهودة ,وذكرنا ان كلمة ( احكامهم ) تشمل الاحكام الوضعية والتكليفية معا, وابتدأنا الحديث في الوضعية وقلنا انها مشمولة لروايتنا أي ان المقابل يلزم باحكامه الوضعية , هذا ما مضى , واما مبحثنا الان فهو: هل ان قاعدة الالزام تشمل الاحكام الوضعية بأقسامها الثلاثة التي ذكرها الآخوند قدس سره ام انها لا تشمل القسم الثالث حسب تسلسل كلامنا كما سيأتي ان شاء الله تعالى وكذا القسم الثاني بوجه ؟ إذن ينبغي اولا التطرق الى هذه الاقسام الثلاثة ثم بعد ذلك نرى هل ان القاعدة تشمل الجميع ام البعض من هذه الاقسام ؟ ونحن سنذكر تسلسلا لها وبتصورنا هو افضل من ذاك الذي ذكره وان كان الكلام كلامه على كل حال ,مع بعض التوضيح منا حول تلك الاقسام.
اما القسم الاول – وهو ثالث اقسام الاخوند-: فهو ما يمكن جعله بأنشائه(1) استقلالا, كما يمكن جعله تبعا للتكليف فالشارع مخير بينهما، وهو الذي بيده الاعتبار في ذلك ومثاله مختلف الاحكام الوضعية كالملكية والزوجية والرقية والولاية والقضاوة وكذلك الحجية,كل هذه الاحكام يمكن للشارع ان يجعلها ابتداءا بان يقول : اذا انشأت صيغة النكاح المستجمعة للشرائط فقد جعلتها زوجة لك , فالجعل هنا استقلالي والحكم الوضعي متعلق بالجعل بما هو هو وبالذات ابتداءا , كما يمكن ان يجعل الشارع الحكم الوضعي بتبع جعل التكليف فهو بدلا من ان يقول جعلتها زوجة يقول : اذا اجريت صيغة النكاح المستجمعة للشرائط فيحل لك النظر لها ومباشرتها ويجب عليك الانفاق عليها ومجموعة احكام اخرى , ثم ينتزع من مجموع ذلك زوجيتها، والشيخ الاعظم قدس سره يستظهر هذا المعنى لجعل هذه الاحكام ويقول في بعض كلماته: ان الاحكام الوضعية لم يجعلها الشارع ابتداءا(2) وانما جعل وجوبات ومحرمات فينتزع منها الحكم الوضعي, فالزوجية منتزعة من الوجوبات والمحرمات التكليفية، والنقاش مع الشيخ الاعظم واضح لان كلامه خلاف ظاهر كثير من الادلة والتي تدل على جعل الحكم الوضعي ابتداءا مثل: ( قد جعلته عليكم حاكما ) ويتفرع عليه انه لا بد من طاعته ومثل ( من حاز ملك ) فهنا كذلك جعل استقلالي للحكم الوضعي وان كان الشارع في احيان اخرى يجعل الحكم التكليفي مثل: ( واطيعوا الله واطيعوا الرسول واولي الامر منكم ) (3) فهذا هو القسم الاول من الاحكام الوضعية، وكلا القسمين ممكن، ولكن هل هذا القسم بكلا شقيه مشمول بقاعدة الالزام ؟
والجواب : نعم لا شك في ذلك سواء قلنا بان قاعدة الالزام عامة للاحكام التكليفية والوضعية معا او انها خاصة بالوضعية فان هذا القسم مشمول بالقاعدة لان الحكم الوضعي موجود في هذا القسم الى جنب الحكم التكليفي أي ان الشارع له في المقام كلامان فيقول هي زوجة وكذلك يقول يجب الانفاق عليها اذن هذا القسم لا كلام فيه في كونه مصداقاً لقاعدتنا , نذكر الان اربعة امثلة لمزيد التوضيح:
الاول :الدين او المذهب الذي يرى ان للاخ ولاية على البنت لا انها للاب والجد فقط ,او يرى ان الولاية للعم على بنت الاخ اوابن الاخ، فان القاعدة شاملة له؛ لان الولاية هي حكم وضعي من القسم الاول .
الثاني : المذهب الذي يرى ان الحاكم الفاسق ولي، فتلزم اؤلئك المؤمنين بذلك المذهب – كاكثر العامة - احكامه.
الثالث: ان العبد الذي عبوديته بوجه شرعي، جائز شراؤه وبيعه كما لو وقعت الحرب بين المسلمين والكافرين فعند استرقاقنا دون ان نمن عليهم او نأخذ منهم الفدية، يجوز ان نبيع العبد ونشتريه, ولكن الكفار لو وقعت بينهم حرب وأسر طرف من الاخر فهل يمكن لنا ان نشتري ذلك العبد المأسور؟ والوالد قدس سره طرح هذه المسألة وهنا احدى التطبيقات لذلك, فاذا كان في دينهم هذه الاسترقاق صحيحاً فانا نستطيع ان نشتري هذا العبد او الامة حيث انهم يرون ملكية الفاتح لأولئك المأسورين وهذه الملكية هي حكم وضعي فتشمله قاعدة الالزام
الرابع: وهذا المثال معاصر وهو كثير الابتلاء حيث ان كثيرا من الدول الغربية ومن سار على نهجها في قانونهم ,لو ان مدينا لم يدفع الدين لدائنه وان كان المدين معسرا فانهم يأخذون بيته(4) قسرا بواسطة البنك ويضعونه في المزاد ويباع ولعله بنصف القيمة او اقل او اكثر قليلا,وهذا الشخص اي المدين غير راض لان مال المرء لا يحل إلا بطيب نفسه هذا من جهة ومن جهة اخرى ان البيت عندنا لا يباع لتسديد الدين فهل يجوز والحال هذا ان نشتري هذا البيت ؟ والجواب نعم بحسب قاعدة الالزام لانه دينهم ,واما إن لم يكن ديناً لهم وانما كان قانونا وضعيا فقط فسياتي البحث فيه ان شاء الله تعالى . هذه هي الصورة الاولى للاخوند قدس سره مع امثلتها الاربعة .
واما الصورة الثانية التي ذكرها فهي تلك الاحكام الوضعية التي لا تقبل الجعل ابتداءا واستقلالا وانما تجعل تبعا للتكليف حيث تنتزع منه، مثل الجزئية والشرطية والمانعية والسببية للمكلف به, وفرق هذه الصورة عن الصورة التالية الثالثة هي في النسبة للمضاف اليه، حيث ههنا ( المضاف اليه هو المكلف به), واما في الصورة الثالثة فالمضاف اليه هو (التكليف) والاخوند قدس سره يعتبر هذه الصورة الثالثة مستحيلة، ونحن نرى انه حتى مع قبول هذه الاستحالة فان دليل الالزام شامل لهذه الصورة , ولنبين الصورة الثانية الان ومثالها شرطية الاستقبال وستر العورتين للصلاة وما اشبه، ففي هذه الاخوند يقول :ان الشارع لايمكن له ان يجعلها ابتداءا أي لا يمكن ان يقول جعلت الركوع جزءا للصلاة, بل يمكنه فقط ان ينشئ وجوبا منبسطا على عشرة اشياء مقيداً بشيء او بعدم شيء, فتنتزع الجزئية من كل من هذه العشرة .وعندما يجعل الوجوب المنبسط على عشرة اجزاء مقيدا بالاستقبال فعندها تنتزع شرطية الاستقبال وكذا عندما يقيد الوجوب بعدم كون لباس المصلي من اجزاء ما لا يؤكل لحمه فتنتزع المانعية للمكلف به ,فالشارع بيده التكليف ويتبعه بالوضع وليس بيده الوضع مباشرة ,فلو كان لدينا مركب فانه يستحيل ان يقول الشارع قد جعلت هذا جزءا منه (5), وهنا حتى بناءا على قول الاخوند نقول :ان قاعدة الالزام تجري كذلك كما سياتي توضيحه وبرهانه, ونذكر مثالا واقعيا من عالم المخالفين وهو: في طواف الوداع وهو مستحب ولكن عند أغلبهم - اي المخالفين - فان هذا الطواف واجب ,ومع انبساط هذا الوجوب عليه تنتزع منه الجزئية ,فلو ان مخالفا استأجر مخالفا اخر للحج فحج ولكنه لم يطف طواف الوداع، ثم بعد ذلك ترافعا إلينا فهل قاعدة الالزام شاملة لهم ؟ نحن نقول انها تشملهم على كلا الوجهين, أي سواء قلنا برأينا من ان الجزئية والشرطية للمكلف به قابلة للوضع ابتداءا او على رأي الاخوند، اما على القول بشمول القاعدة للاحكام التكليفية كالوضعية فلانه حيث كانت قاعدة الالزام شاملة للاحكام التكليفية كشمولها للاحكام الوضعية فلا مشكلة في البين؛ لان جعل الوجوب بيد الشارع حتى على مبنى الاخوند، وقد جعله منبسطا على طواف النساء عندنا وعلى طواف الوداع عندهم، ومع لزوم الاحكام التكليفية لهم فلا مشكلة في الامر, ولكن لو قلنا ان قاعدة الالزام لا تشمل الاحكام التكليفية وعلى رأي الاخوند ان الحكم الوضعي ليس بمجعول وليس باختيار المكلف فماهو المخرج ؟هنا نجيب حتى في هذه الحالة فلا اشكال في تطبيق القاعدة على هذا المورد ؛لانه على رأي الاخوند وان لم تشمل القاعدة الحكم التكليفي وهو الوجوب ولكنها تشمل الحكم الوضعي المتفرع على ذلك الوجوب، وذلك لصدق عنوان الحكم حقيقة على الوضع .
ان قلت: لكن الحكم الوضعي ليس باختيار المكـلِّـف ليكون رفعه بيده، فكيف تشمله القاعدة ؟ قلنا: انه اختياري باختيارية مقدماته, فصحيح ان الحكم الوضعي بما هو هو ليس قابلاً للجعل بنفسه، ولكن الاختيارية اعم من قدرتك على الفعل مباشرة او بالتسبيب مثل مسألة الاحراق اذن هذا القسم مما لا اشكال فيه.
وخلاصة القول :ان الاحكام الوضعية الانتزاعية غير المجعولة للشارع ابتداءا تكون مشمولة لقاعدتنا لصدق الحكم عليها حقيقة من غير ورود اشكال الاختيارية عليها .
واما الكلام في القسم الثالث : فهذا القسم وان كان قد يتوهم عدم امكان شمول قاعدة الالزام له لان ( وضعه) مستحيل مطلقاً فكذلك (رفعه)، ولكن – ولله الحمد – لنا المخرج منه وان كان يحتاج الى مزيد وذلك : ان الاخوند يقول ان هذا القسم مستحيل فان السببية والشرطية وغيرها للتكليف لا يعقل جعلها ,لا ابتداءا ولا بالتبع والواسطة , ومثله الحيض المانع عن اصل التكليف بالصلاة - وهذا بخلاف اللباس بما لا يؤكل لحمه فهو مانع من صحة الصلاة لا من اصل وجوب الصلاة والتكليف-، وفي مثال اخر البلوغ فهو شرط لنفس الاحكام ولاصلها،وكذا الدلوك فهو شرط لاصل وجوب صلاة الظهر،وكذا الاستطاعة فهي شرط لوجوب الحج لا للواجب والاخوند يقول : هذه الاقسام والاحكام يستحيل جعل الشارع لها ابتداءا بالاستحالة العقلية وكذا بالتبع كان يقول جعلت الصلاة عند الدلوك ودليله دقيق بالمقام، وقد اجبنا عن ذلك في (المبادئ) (6) بخمسة اجوبة، ولكن نقول: حتى لو فرضا قبول الاستحالة المدعاة في المقام لكن قاعدة الالزام شاملة لهذا القسم كذلك ولكن كيف المخرج والجواب.؟ وتتمة الكلام ستأتي ان شاء الله تعالى .
الهوامش .........................................................
1) لاننا نبحث عن عالم الاعتبار والاحكام الوضعية اعتبارات توجد بالانشاء.
2) كلام الاخوند هو رد لكلام الشيخ الاعظم قدس سرهما
3) سورة النساء الاية 59
4) اذا كان قد اشتراه بالاقساط ولم يسدد بعضها.
5) لان الجزء لو كان جزءا تكوينيا فما يجعله الشارع هو تحصيل للحاصل ,وان لم يكن جزءا فكيف يحعله جزءا؟! أي ان الجزئية لا يعقل ان تجعل بجعل مستقل علماً ان الاخوند قدس سره استدل بوجه اخر فراجع.
6) كتاب المبادئ التصورية والتصديقية في علم الفقه والاصول
|