بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله رب العالمين وصلى الله على محمد وآله الطاهرين واللعنة الدائمة على اعدائهم اجمعين ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم.
لازال الحديث في فقه روايتنا المعهودة, ووصلنا الى كلمة احكامهم ,وقلنا انه قد يتوهم بتضادها مع الفتوى ؛نظرا لان تعريف الفتوى يختلف بنحو التباين عن تعريف الحكم ,اضافة لما ذكرناه من فروق جوهرية بينهما و لكن بينا بان (احكامهم )تشمل الفتاوى ؛وذلك للصدق الحقيقي، اي صدق الحكم على الفتوى حقيقةً بالحمل الشايع الصناعي , حيث ان الفتوى متمحضة في الالية والمرآتية والكاشفية عن الاحكام الشرعية فهي مما به ينظر لا مافيه ينظر , هذا عنوان ما مضى .
اما كلامنا الان فهو بطرح اشكال في المقام 1 : ان ما ادعيناه من التقابل بين الحكم والفتوى هو فيما اذا نسبا للفقيه دون الامام عليه السلام حيث ان في الامام عليه السلام كل فتوى هي حكم وقلنا: ان الفتوى لا تطلق على المعصوم، فانه قد استشكل على كل ذلك بالآية الكريمة (( يستفتونك قل الله يفتيكم في الكلالة ))2,3 , ان الله تعالى اطلق الفتوى على نفسه فكيف لا تطلق كذلك على المعصومين ع ؟!
واذا نظرنا الى الآ’ية نجد ان اطلاق الفتوى على الله تعالى هو اطلاق حقيقي ؛حيث لا نجد اي نوع من المجاز والتعمل في هذا الاطلاق من خلال ملاحظة العلاقة المصححة بين الحقيقة والمجاز .
وفي جواب الاشكال نقول : ان الفتوى4 هي اعم من الاخبار القطعي المطابق للواقع عن الاعتبار الكلي الشارعي ومن الاخبار الظني المحتمل الاصابة لذلك الواقع عن الاعتبار الكلي الشارعي وهذا الاخبار الظني على قسمين: (الحجة) اي: الثابت بالظن النوعي و(غير الحجة) اي: اي ما كان بالظن الشخصي، والفتوى اعم من هذين الصنفين والموردين وعلى وجه- يمكن ان نقول باطلاقين- ولكنه ليس بدقيق, و الفتوى بالمعنى الاول تطلق على الله تعالى والرسول الاعظم صلى الله عليه واله والائمة عليهم السلام فيكون معنى الاية (( قل الله يفتيكم )) اي:يبين لكم الحكم اي يخبركم اخباراً قطعياً عن الحكم الشرعي، اي: انه اخبار قطعي مطابق للواقع عن الاعتبار الالهي.
ولكنها بالمعنى الثاني لا تطلق لا على الله تعالى ولا على المعصومين عليهم السلام ؛ لانه ظن وهم عليهم السلام لهم الاحاطة الكلية بالاشياء باذن الله تعالى فلا تصدق الفتوى بالمعنى الثاني عليهم بلا شك .
وقبل ان نكمل البحث لنرجع الى رأي اللغويين في المقام وهذا البحث سينفعنا مستقبلا ان شاء الله تعالى في موارد اخرى .حيث انهم قالوا ان الفتوى هي ( تبيين حكم )5 وعليه فيكون مورد الرواية ( لزمته احكامهم ) موضعا للاشكال السابق المذكور مرة اخرى وجوابنا عليه ما مضى من الجواب وهو ان الحكم قد لوحظ متمحضا في الطريقية ولذلك يصدق على ( التبيين للحكم ) انه حكم, والشاهد اننا نقول ان الاحكام الشرعية تؤخذ من الفقيه ولا نرى مجازا في قولنا هذا و على هذا التفسير, ولكن الفتوى قد فسرت بمعنى لغوي اخر وهو: ( تبيين المشكل من الاحكام ) 6 ولكن هذا التفسير هو تفسير بالاخص ,والاصح منه هو التفسير الاول , نعم تبيين الفرد المشكل هو الفرد الابرز والمصداق الاجلى للحكم ,والدليل على ذلك ان نفس صاحب لسان العرب يذكر المعنى الاول ثم بعد ذلك يذكر المعنى الثاني ,اي الاعم ثم الاخص ولكن مع قطع النظر عن هذا فان ما نفهمه من الفتوى هو الاعم من المشكل وغيره فكلاهما يصدق عليه انه فتوى, ونشير كذلك الى ان هناك تعبيرين لللغويين الاول : ان الفتوى هي (تبيين الحكم) والاخر هو: (الاجابة عن سؤال)، وفي ايتنا المذكورة كلا المعنيين ممكن فالله تعالى يبين لكم الحكم ويجيبكم على سؤالكم في ذلك، ومآل الامر واحد ولا اشكال في البين والظاهر ان (الاجابة على السؤال) هي تفسير بالمصداق لانها من مصاديق تبيين الحكم ومن انحائه.
والحاصل : ان الفتوى هي اعم من التبيين القطعي اي التببين العلمي 7 , ولكنه كثر استعمالها فيما كان تبييناً للحكم الناشيء عن ممارسة عملية الاجتهاد ,والعرف ينسبق له هذا المعنى عند اطلاق الفتوى عليه, والدليل على ما نقوله ان (الوكيل) مع انه يبين الحكم للناس لكنه لايسمى مفتياً , نعم المعنى اللغوي للفتوى يشمله, ولكن بمرور الزمان فان كلمة الفتوى- في اذهان المتشرعة على الاقل- اضحت تسبق الى خصوص ما كان تبيينَ حكمٍ عن اجتهاد، اي: عن اعمال الملكة او بذل جهد وممارسة عملية الاستنباط، وبهذا المعنى العرفي المتداول لا تطلق على المعصوم عليه السلام لانه لايمارس عملية الاجتهاد ؛لوضوح الاحكام لديه ,فهي كالشمس في رابعة ورائعة النهار حيث لا احتمال للخطأ في ساحته .
إلا ان هذا المعنى الجديد والمصطلح المتشرعي المنسبق الى الاذهان العرفية لم يبلغ الى درجة هجر المعنى الاول ولذا لا يزال حقيقة فيه- أي في المعنى الاول – و لذا لتعيين المعنى المراد منهما لابد من قرينة معينة لا صارفة . نعم ان انسباق المعنى الثاني والمرتبط بممارسة عملية الاجتهاد هو اسرع من انسباق المعنى الاول والمرتبط بالله تعالى والمعصومين عليهم السلام إلا ان هذا الاختلاف في الانسباق لا يضر بحقيقية المعنى الاول, وقد سبق ايضاً في ذلك في بحوث سابقة فلا نعيد.
ومما يدل على ماذكرناه صحيحة ابي عبيدة الحذاء عن الامام الباقر عليه السلام حيث يقول : (( من افتى الناس بغير علم ولا هدى من الله تعالى لعنته ملائكة الرحمة وملائكة العذاب ولحقه وزر من عمل بفتياه )) فهذه الرواية بصدرها تبين ان الفتوى على ثلاثة اقسام :فالاول هو الفتوى بعلم وهي مصداق قوله تعالى (( قل الله يفتيكم )) , واما القسم الثاني فهو الفتوى بغير علم 8 , واما القسم الثالث فهو المستظهر من فقرة ( ولا هدى ) حيث ان المراد من ( بلا هدى ) هو الفتوى بلا حجة واما الفتوى بهدى اي بحجة فهي القسم الثالث من الاقسام , هذه تتمة ضرورية في المقام ونترك بقية الحديث لمظانه ان شاء الله تعالى .
مبحث جديد : ذكرنا سابقا ان كلمة احكامهم تشمل الاحكام الوضعية بأقسامها الثلاث وتساءلنا هل هي كذلك تشمل الاحكام التكليفية او لا ؟ وهنا موطن الاجابة فنقول : قد يقال بدوا بان احكامهم تشمل كافة الاحكام التكليفية نظرا للصدق الحقيقي عليها, ولكن هذا الاحتمال وان كان بلحاظ نفس كلمة احكامهم صحيحاً لكن وجود الادلة الخارجية والقرائن الداخلية التي توجب رفع اليد عن هذا الاحتمال ؛ولذا لابد ان نصير الى تفصيل في ذلك وسيأتي الدليل على كل هذا ان شاء الله.
واما التفصيل فنذكر ان هناك وجوها فيه :
الاول : ان يقال بان قاعدة الالزام لا تشمل علاقة المكلف بربه ,وبتعبير اوضح لبيان المراد اي انها لا تشمل الاحكام الالهية العبادية ,و نحن قد مثلنا بمثل صلاة التراويح حيث انه لو وجد مخالف ولكنه لا يريد ان يلتزم بتعاليم مذهبه مثل هذه الصلاة او التكتف في الصلاة او غير ذلك من الاحكام التكليفية فهنا قاعدة الالزام لا تشمله ,وبالتالي لا نجبره على مثل صلاة التراويح او التكتف او غيرها من احكامهم التكليفية ,هذا هو التفصيل الاول حيث تخرج به الاحكام العبادية من دائرة قاعدة الالزام وتبقى فيها الاحكام التي تتعلق بعلاقة الفرد من العامة او من الكفار والمشركين بنا في الامور المالية والاجتماعية ولنضرب مثالين علي ذلك : اولا : في الامور المالية وذلك كما لو ان مخالفا طلق زوجته المخالفة او الامامية ( وهاتان صورتان )طلاقا بائنا ثم ادعت المرأة انها حامل وادعت ان حملها استمر سنتين على فتوى ابي حنيفة 9 فوضعت حملها وقالت انه من ذلك الزوج المطلق فهل نستطبع ان نلزمه بالنفقة ؟ ففي الصورة الاولى اي الزوجة المخالفة – بتعميم قاعدة الالزام فيما بينهم – فالجواب نعم يلزم بها وكذلك الامر في الصورة الثاني اي مع الزوجة الامامية فهو كذلك ملزم بالنفقه على الولد . ثانياً: في الامور الاجتماعية : لو ان الزوجة كانت مخالفة والزوج كان اماميا وكان في مذهبها وجوب الخدمة المنزلية – ونحن لا نرى ذلك على مذهبنا فللزوج ان يلزمها بذلك استنادا الى قاعدة الالزام هذا هو التفصيل الاول بمثالين .
واما التفصيل الثاني: فهو ان يفصل بين الحدود والتعزيرات وما اشبه، بان يقال بانها خارجة عن دائرة قاعدة الالزام وما عداها داخل,
إلا ان بعض الاعلام ارتأى صناعيا - ولعله افتى - بان القاعدة تشمل الحدود والتعزيرات ,فلو ان مخالفا تمتَّع فيجرى عليه الحد حسب هذا الرأي لان المتعة زنا عندهم 10 .
واما التفصيل الثالث : وهو التفصيل بين من هو داخل دائرة مذهبهم ودينهم اي المخالف والكافر فلا تجري القاعدة بينهم وانما مورد جريانها هو بخصوص علاقة الشيعي الامامي بالعامي او الكافر وسنبحث هذه النقاط مستقبلا ان شاء الله تعالى .
لكن الذي يهمنا الان هو ان قاعدة الالزام لا تشمل العبادات اولا و لا تشمل الحدود والتعزيرات ثانيا 11 .. لماذا ؟ وذلك لادلة ثلاثة نوجزها الان ونترك التفصيل مستقبلا ان شاء الله تعالى:
1-السيرة فان السيرة الشارعية والمتشرعية على مر التاريخ لم تكن على اجراء الحدود والتعزيرات على الكافر او المخالف لو اتبع الحق في مسألة مصداقية معينة وان كان يستحق التعزير او الحد على مذهبه وكذا الامر في العبادات فاننا لم نجد المعصوم عليه السلام رغم حكومته يلزم المخالف بان يعمل على طبق عباداته في علاقاته مع ربه وهذا دليل وبرهان واضح واما الدليلان الاخران فسيأتي عنهما الكلام ان شاء الله تعالى.
الهوامش ...........................
1) بعض الافاضل من الطلاب استشكلوا بهذا الاشكال بعد البحث
2) النساء / 176
3) الكلالة هما الاخ والاخت وهي عندنا خاصة بهم وبدليل الاية الكريمة فان الكلالة لا ترث مع وجود البنت والعامة يخالفون صراحة هذه الاية
4) فُتوى او فتيا بلهجات اخرى
5) كما في لسان العرب ومعجم مقاييس اللغة وغيرها وكما في تفسير (مجمع البيان) وغيره.
6) كما في مفردات الراغب ولسان العرب.
7) فان العلم يستبطن المطابقة بعكس القطعي ولذا فاننا في القطع اضفنا قيد المطابقة للواقع .
8) هناك قاعدة عامة في الاصول وهي قاعدة لغوية وهي ان التقسيم علامة الحقيقة فالشيء لا يقسم الى نفسه وضده والمقسم هو الموضوع له الحقيقي
9) وبعض العامة يقول ان الحمل 9 سنوات وهو مخالف لاول البديهيات العلمية
10) وهو رأي غير منصور لدينا
11) حسب ما نرى
|