بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله رب العالمين وصلى الله على محمد وآله الطاهرين واللعنة الدائمة على اعدائهم اجمعين ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم.
لازال البحث حول فقه روايتنا المعهودة ,ووصلنا الى كلمة احكامهم وانها هل تشمل الاحكام التكليفية او لا ؟ وقلنا قد يفصل بانها لا تشمل العبادات هذا اولا , فلو انهم تركوا عبادة من العبادات فلا نلزمهم بها , وثانيا لا تشمل الحدود والتعزيرات ,وهناك شق آخر في التفصيل سنشير له لاحقا ان شاء الله تعالى .وقد ذكرنا ان المختار هو: ان الاحكام التي يلزمون بها لاتشمل الحدود والتعزيرات وكذا لا تشمل ما يرتبط بعلاقتهم بربهم ,وذكرنا دليلا اولا على ذلك وهو السيرة .
واما مبحثنا الان فهو الدليل الثاني على ذلك ,وهذا المبحث هو مبحث مستقل في حد ذاته ولابد من افراده وكانت النية معقودة لبحثه مستقبلا ولكن البحث له محل هاهنا ايضا ؛ولذا سنتطرق له ونقدمه فهومن المباحث المهمة في قاعدة الالزام وعليه تترتب ثمرات كثيرة جدا وهو: ان القاعدة هل هي واردة مورد الامتنان فتتحدد بحدوده او لا ؟ هناك خلاف بين الاعلام في ذلك , فبعضهم يرى ان قاعدة الالزام كقاعدة ( لا ضرر) في ورودها مورد الامتنان, فانه لو كان رفع الحكم عن المكلف على خلاف الامتنان فانه لا يرفع بقاعدة ( لا ضرر ) ,ومثله في الاضطرار فلسانها لسان الامتنان والتوسعة على العبيد ,فلو اضطر الشخص مثلاً الى ان يبيع بيته لإجراء عملية جراحية اضطرارية فلا تجري القاعدة هنا ولا ترفع صحة معاملة البيع؛ لان ذلك سيوقع المكلف في ضيق والقاعدة مسوقة مساق الامتنان وكلما لزم من اعمالها الضيق لم تجرِ .
بعض الاعلام يرى ان قاعدة الالزام كقاعدة لاضرر مسوقة مساق الامتنان, واذا كانت كذلك فقد سيقت بالنسبة لنا الشيعة للتوسعة علينا, فكلما لم يكن المورد مورد توسعة فالقاعدة لا تطبيق لها ,وكتطبيق لذلك العنوانان المذكوران سابقا ,أي عنوان العبادات حيث لا توسعة ولا امتنان علينا بها اذا الزمناهم بعباداتهم، فلا شمول للقاعدة, اذ هي وان شملت لفظا عباداتهم لكنها لورودها مورد الامتنان، لاتشمل عباداتهم لعدم الامتنانية علينا بذلك هذا اولا , وثانيا الامر كذلك في الحدود والتعزيرات عليهم, فانه لا توسعة ولا امتنان علينا فيها , وثالثا – وهي اضافة مهمة جدا- انه على مسلك من يرى ان قاعدة الالزام مسوقة مساق الامتنان فانها تختص بالعلاقة التي بيننا وبين الاخر – العامي او الكافر – لوجود الامتنان ههنا, كما في المخالف الذي طلق الامامية ثلاثا فنلزمه بذلك الطلاق , وبناءا على ذلك فان القاعدة لا تشمل مورد علاقة المخالف مع المخالف الاخر , فلو طلق مخالف زوجته المخالفة كذلك طلاقا بالثلاث ثم رجعت الينا في حكمها فهل لنا ان نتسلح بقاعدة الالزام ونقول لها الزميه بما الزم به نفسه ؟ والجواب : كلا ؛ لانه لا امتنان في هذا المورد علينا ؛ اذ التوسعة ستكون للمخالفة وهذا لا ربط له بنا.
ومن هنا يتبين لنا ان هذا البحث هو بحث جوهري، وينبغي ان يعقد له مبحث مستقل، ونحن ندخل فيه وذلك من لمناسبة بحثنا عن فقه حديث (احكامهم) وهل تشمل تلك العناوين الثلاثة ام لا؟ فنقول: ان بعض الاعلام استدل بهذه الرواية وبهذا المبنى على ان احكامهم لا تشمل الحدود والتعزيرات, ونحن نضيف الى كلامه: انها لا تشمل العبادات ايضا ,ولكن ما هو الدليل على انها _ أي القاعدة – واردة مورد الامتنان ؟
والجواب : استدل على ذلك برواية واحدة لابد من التدبر فيها لنرى مدى الفائدة منها في تخصيص القاعدة بمورد الامتنان ,وكونها واردة مورد التوسعة علينا فقط , واما الرواية فهي : عن الحسن بن محمد بن سماعة – وهو ثقة– عن جعفر بن سماعة – وهو ثقة– فالحسن ينقل عن جعفر انه سئل عن امرأة طلقت على غير السنة 1 , أ لي ان اتزوجها؟ فقال : نعم فقلت له ( أي الحسن استشكل على جعفر) : ألست تعلم ان علي بن حنظلة روى ( إياكم والمطلقات ثلاثا على غير السنة فانهن ذوات ازواج )2 فقال جعفر: يا بني ان رواية علي بن ابي حمزة البطائني اوسع على الناس) اي: انها تتقدم على الاولى بملاك الاوسعية (روى عن البطائني عن ابي الحسن عليه السلام انه قال : الزموهم من ذلك ما الزموه انفسهم وتزوجوهن فلا بأس بذلك) . وهذه الرواية هي المستند الوحيد لبعض الاعلام على ذلك 3, أي على ان قاعدة الالزام واردة مورد الامتنان والاوسعية ولذلك فلا تشمل عبادات المخالفين وحدودهم وتعزيراتهم ؛لانه لا توسعة فيها علينا, وكذا الامر في الزام المخالفين في علاقة بعضهم بالبعض الاخر منهم، فلو كان في حكم ما ضررٌ عليهم ولم يكن فيه توسعة علينا فليس بمجرى لقاعدة الالزام .
مناقشة الرواية المذكورة: ان الاستدلال بهذه الرواية عليل وليس بتام لاربعة وجوه :
الاول: ان هذا الكلام هو كلام راو وفقيه وهو جعفر بن سماعة ولا حجية لحدسه واستنباطه على الفقيه الاخر حيث رأى الاوسعية ملاكاً للترجيح من خلال استنباطه ان قاعدة الالزام واردة مورد التوسعة , نعم لو كان المشهور قد فهموا ذلك لدخل في باب اخر وهو حجية فهم المشهور للرواية وان لم نفهم ما فهموه، وسيكون هناك كلام اخر.
الثاني :المفروض لجعفر بن سماعة ان يستدل في مرحلة التعارض والجمع بوجه اصولي معروف وواضح ,وهذا الوجه يحل المشكلة, وهو تقدم الخاص على العام, فان الرواية الاولى عامة والثانية خاصة وكما هو واضح فان الخاص يقدم على العام حيث ان الرواية الاولى ( اياكم والمطلقات ثلاثا على غير السنة ) والمطلق اعم من العامي والشيعي, واما الرواية الاخرى فهي خاصة بالمخالف ( ... وتزوجوهن فلا بأس بذلك ) فتخصص الرواية الثانية العام الوارد في الاولى،ولا نجد في لسان الرواية ما يفيد تحددها بحد الامتنان، والاستشعار غير حجة.
الثالث :نسأل جعفر بن سماعة -وهو من الفقهاء- هل ان من مرجحات باب التعارض التوسعة او الاوسعية ؟ أي لو كانت احدى الروايات مطابقة للامتنان والتوسعة والاخرى ليست كذلك فهل من الاصول الواردة في مبحث التعادل والترجيح ان نرجح احداهما على الاخر بملاك الامتنان؟ والجواب: انه لا يوجد هكذا مرجح في هذا المبحث ولم يعهد بين الفقهاء ذلك .
اللهم إلا ان يوجه ذلك ببيان 4: انه يوجد بحث في علم الاصول – كما في العدة للشيخ الطوسي قدس سره – مطروح بشكل مفصل سابقا ولكن المتأخرين اوجزوا البحث عنه ونحن نشير بمقدار العنوان للدفاع عن وجه استناد جعفر بن سماعة للاوسعية لترجيح خبر البطائني, وهو: ان الاصل في الاشياء هو الاباحة) وهذا هو رأي كثير من الاصوليين, في مقابل من يقول: ان الاصل هو الحظر) أي على مسلك حق الطاعة، و لعل جعفر بن سماعة كان يرى ان الاصل هو الاباحة ,والرواية التي اجازت لنا الزواج بالمطلقة ثلاثاً، يعمل بها ؛لانها مطابقة لذلك الاصل واما الرواية الاخرى فهي تطابق اصل الحظر، ومادام اصل الاباحة مع احداهما فهي المتقوية والمتقدمة لذلك الاصل فترجح , وهذا نوع توجيه لالاوسعية التي ذكرها جعفر بن سماعة , لكن يرد عليه: ان الاصل اصيل حيث لا دليل , فان الاصل الاولي هو الاباحة ولكنه رفع اليد عنه بالادلة الخاصة المضيقة, والتي ازالته عن الوجود فكيف يصلح مرجحاً؟؟
وبيان ذلك :لدينا اولا اصل الاباحة, ثم جاءت بعد ذلك ادلة خاصة تدل على الحظر, ثم بعده وجدت روايتان متعارضتان احداهما مطابقة للاصل الاولي والثانية مطابقة للاصل الثانوي أي الدليل الاجتهادي ,ولكن حيث ان هذا الدليل الاجتهادي رافع للاصل الاولي، ولذا فالمقدم في المقام هي الرواية الثانية المطابقة له حيث انها معتضدة بذلك الدليل الاجتهادي ومتقوية به , والمتحصل ان هذا التوجيه غير تام .
اللهم 5 إلا ان يقال : لو كان هناك اصل اولي عام ومبيح ثم وجد بعد ذلك دليل اجتهادي وحاظر فالدليل الحاظر يتقدم على المبيح بلا شك, ثم انه لو وجدت روايتان احداهما مطابقة للحاظر والاخرى مطابقة للمبيح فان المطابقة للمبيح ترجع للاصل الاولي وتكون في رتبته، ولكن المطابقة للحاظر تتقدم عليهما معا فتامل.
ولكن لو وجد اصل مبيح عام ثم وجد بعد ذلك اصل اجتهادي حاظر ثم شك في حدود هذا الاصل الحاظر وفي دائرته هل هي واسعة بسعة الاصل الاولي ام انها ضيقة في بعض مجالات الاصل ؟ فما هو المرجع.؟
والجواب : اننا في الباقي المشكوك نرجع الى الاصل , هذه هي القاعدة والمقام من هذا القبيل .. كيف ؟ بيان ذلك : بان يقال ان الاصل هو الاباحة ,ثم بعد ذلك جاءت قاعدة الالزام وهي دليل اجتهادي ,ولكننا في المقام نشك هل هي واسعة لتشمل جميع مجالات الاصل ام هي خاصة بعلاقتنا مع الاخر – العامي والكافر - ؟ والجواب: انه في مورد الشك نرجع الى الاصل , والامر كذلك عند الشك في انها شاملة للعبادات اولا؟ والكلام نفسه في الحدود والتعزيرات، أي: المرجع في كل ذلك الى الاصل عند الشك , وهنا نقول: لعل جعفر بن سماعة كان مقصوده من (اوسع على الناس) ما ذكرناه من تحليلنا الاصولي من ان الرواية المبيحة مطابقة للاصل الاولي العام، والمانعة مطابقة للاصل الثانوي، وحيث اننا شككنا في حدود الاصل الثانوي والدليل الاجتهادي، فنرجع معه للاصل الاولي وهو الاباحة .
لكن هل هذا التوجيه هو تحميل لما يتحمله الكلام او لا؟ فلعل البعض يقبله ولعل البعض يرفضه, ولكن لو صح هذا التوجيه فاين هذا من قاعدة الامتنان ؟ فانه لو صح هذا البيان فهو توجيه لكلام جعفر بن سماعة وجعله على مقتضى القواعد ولكن ذلك لا يفيدنا ؛لان اللسان ليس بلسان الامتنان, بل هو وجه للجمع العرفي, لكن الجواب عن التساؤل المطروح انه(لم شرعت قاعدة الالزام؟) لا يظهر من لسان الرواية اذ لعلها من باب الامتنان ولعلها من باب اخر كباب المقاصة النوعية، أي كما يفعلون بكم فافعلوا بهم وكما انهم يطبقون احكامهم عليكم فطبقوا احكامكم عليهم , وللحديث صلة كما انه ويوجد جواب رابع نتركه الى البحث القادم ان شاء الله تعالى. وصلى الله على محمد وآله الطاهرين.
الهوامش ...................................
1) مثل الطلاق ثلاثا
2) اي: فكيف يا عم حلّلت الزواج بها وهي ذات بعل ؟!
3) وربما يوجد مستند اخر ، سنتطرق له لاحقاً باذن الله تعالى.
4) هذا هو الدفاع الاول عن رأي جعفر بن سماعة
5) هذا هو الدفاع الثاني عنه |