• الموقع : مؤسسة التقى الثقافية .
        • القسم : الفوائد والبحوث .
              • الموضوع : 140- من فقه الحديث: قوله عليه السلام (حديث تدريه خير من ألف حديث ترويه) .

140- من فقه الحديث: قوله عليه السلام (حديث تدريه خير من ألف حديث ترويه)

 من فقه الحديث: قوله عليه السلام (حديث تدريه خير من ألف حديث ترويه)*

جاء في معاني الأخبار: حدثنا جعفر بن محمد بن مسرور ـ رضي الله عنه ـ قال: حدثنا الحسين بن محمد بن عامر، عن عمه عبد الله بن عامر، عن محمد بن أبي عمير، عن إبراهيم الكرخي، عن أبي عبد الله (عليه السلام) أنه قال: ((حديث تدريه خير من ألف حديث ترويه، ولا يكون الرجل منكم فقيهاً حتى يعرف معاريض كلامنا، وإن الكلمة من كلامنا لتنصرف على سبعين وجهاً لنا من جميعها المخرج))[1].
أقول: الظاهر أن الرواية معتبرة على بعض المباني الرجالية حتى لدى مَن لا يرى حجية مراسيل الثقات.
وأما فقه الحديث فإنه بحاجة إلى بحث مطول مستوعب، وحيث إننا سنعقد في العام القادم أو الذي بعده مسألة خاصة بفقه المعاريض؛ لذا سنوكل تفصيل البحث إليها. فلنكتف ههنا بالإيجاز الشديد:
فنقول: أما قوله(عليه السلام) ((حديثٌ تدريه خير من ألف حديث ترويه)) فلعل من وجوهه: إن دراية الحديث تقود إلى فهم المراد الصحيح منه، أما مجرد الرواية دون الدراية فقد توقع الشخص في نقيض المقصود، أو قد يبقى جاهلاً بسيطاً بالمراد، أو قد يعرف وجهاً من وجوهه أو بطونه فقط.
وقد يقال: إن (تدريه) حيث أطلق أريد به ظهره وبطنه، ودلالته التضمنية
والالتزامية ـ وكونها بنحو بدلالة الاقتضاء أو التنبيه أو الإشارة وغيرها ـ ولوازمه، وكونه حاكماً أو وارداً، أو مخصصاً أو ناسخاً أو عكسها، أو معارضاً للآخر فـ(تدريه) أي: بكل جهاته وجوانبه، فإن (تدريه) صادق بالحمل الشائع الصناعي، عرفاً، على كل ذلك، ويؤكده قوله(عليه السلام): ((ولا يكون الرجل منكم فقيهاً حتى يعرف معاريض كلامنا)) فإنها لا تتحقق بالدراية السطحية الساذجة، كما يؤكده قوله: (( وإن الكلمة من كلامنا لتنصرف على سبعين وجهاً لنا من جميعها المخرج)).
كما أنَّه لعل من وجوه الحكمة: أن ذلك يحرِّض على امتلاك ملكة دراية الحديث، ومن امتلكها ـ ولو عبر حديث واحد ـ فإنه سيكون قادراً على تحصيل دراية سائر الأحاديث[2] فيكون دارياً راوياً عكس الراوي الصِرف، ويكون بذلك متفقهاً في الدين، وممن يرجع إليه فيه لا صرف مقلّد، وقد قال تعالى: (فَلَوْلا نَفَرَ مِنْ كُلِّ فِرْقَةٍ مِنْهُمْ طَائِفَةٌ لِيَتَفَقَّهُوا فِي الدِّينِ وَلِيُنذِرُوا قَوْمَهُمْ  إذا رَجَعُوا إِلَيْهِمْ لَعَلَّهُمْ يَحْذَرُونَ)[3].
ولذا نجد أن الشيخ الأنصاري استخدم أسلوب دراية الأحاديث، وبنحو معمق ومستوعب في المكاسب والرسائل؛ وذلك لأنّ هذا الأسلوب والمنهج هو الذي تستخرج به خزائن المعارف والعلوم من كلماتهم(عليهم السلام) وهو الذي يساعد على إيجاد الملكة تدريجاً لمن يرومها، أو إن كانت موجودة فإنه ينمِّيها، عكس الكتب المبسطة[4]، حيث إنها وإن أفادت زيادة كم المعلومات إلا أنها لا تنفع ـ إلا بنحو الأعداد الضعيف ـ لتنمية ملكة الاجتهاد، ولا لاكتشاف الخزائن.
ولذلك كله نرى أن من المفضل في دروس الخارج انتهاج منهج استفراغ الوسع في دراية الحديث، والتدقيق والتحقيق الأكثر استيعاباً وشمولاً، وطرح التشقيقات والاحتمالات المختلفة، ومناقشتها بعمق ودقة، فإنّ ذلك وإن سبّب بعض الصعوبة في الفهم والاستيعاب على كثير من الطلاب، إلا أن هذه الصعوبة وهذا التحدي بالذات هو مفتاح تنمية الملكة، ثم الدراية الأكثر كمالاً للآيات والروايات، فإنه كلما كان التحدي أكبر والمعاناة أشد كان تنمية ذلك للملكة أقوى[5].
 
توقف الفقاهة على علمي الأصول والمعاريض[6]:
وأما قوله (عليه السلام): ((ولا يكون الرجل منكم فقيهاً حتى يعرف معاريض كلامنا)) فإن هذا المقطع نص في توقف الفقاهة على معرفة معاريض الكلام، وبضم هذه الرواية إلى رواية ((علينا إلقاء الأصول وعليكم التفريع))[7] يعلم أن الفقاهة تتوقف على ركنين:
الأول: الأُصول المضمَّن في أمثال الرسائل والكفاية، وهي التي تتناول الحجج الجلية.
الثاني: المعاريض التي خلت منها كثير من مباحثها كتب الأُصول المعهودة المتداولة[8]، رغم توقف الاجتهاد عليها بصريح الرواية.
وغير خفي أن الفقهاء العظام في كتبهم الفقهية لم يغفلوا عن معاريض كلامهم(عليهم السلام) في الكثير من المسائل، إلا أن الكلام هو أن الأُصول كان ينبغي أن يبحث كافة كليات (المعاريض) وأنواعها، والحجج منها وحدودها وضوابطها، كما بحث عن المسائل الأصولية المعهودة لتكون منقَّحة لدى الفقيه بشكل وافٍ عندما يشرع في البحث الفقهي التطبيقي. وستأتي تتمة توضح المراد بهذا الحديث أكثر بإذن الله تعالى.
 
من فقه قوله (عليه السلام): (( وإن الكلمة من كلامنا لتنصرف على سبعين وجهاً))
وأما قوله(عليه السلام): ((وإن الكلمة من كلامنا لتنصرف على سبعين وجها لنا من جميعها المخرج)) فإنه يحتمل فيه وجوه، عمدتُها الوجوه الآتية:
الأول: أن يكون المراد معنى واحد يمكن التعبير عنه بسبعين وجهاً، فكل وجه من وجوه التعبير يُعد مخرجاً لبيان المعنى، وهو ما ينطبق على التورية[9] أو على التقية.
الثاني: أن يكون المراد سبعين معنى لكلمة واحدة، فرغم كونها كلمة واحدة إلا أنه يمكن ذكر سبعين وجهاً ومعنى لها، وهذا ما ينطبق على البطون وعلى المعاريض أيضاً.
الثالث: أن يكون المراد سبعين معنى وسبعين وجهاً، أي: إنه يمكن أن يؤتى بسبعين معنى متقارباً أو متداخلاً بسبعين لفظاً متقارباً أو متشابهاً.
والحاصل: إن محتملات (الوجه) هي: أن يراد به المعنى أو اللفظ أو كليهما معاً، وأما (المخرج) فقد مضت إشارة إليه، ولعله سيأتي أيضاً.
وفي المباحث الآتية ما يلقي الضوء على فقه هذا الحديث أكثر.
------------------------------------------
 
 
 

  • المصدر : http://www.m-alshirazi.com/subject.php?id=2553
  • تاريخ إضافة الموضوع : 29 جمادى الأولى 1438هـ
  • تاريخ الطباعة : 2024 / 03 / 29