• الموقع : مؤسسة التقى الثقافية .
        • القسم : الفوائد والبحوث .
              • الموضوع : 162- مفردات ومصاديق مبادئ الاستنباط (9): علوم الاقتصاد، السياسة، الإجتماع، الإدارة، الحقوق والقانون .

162- مفردات ومصاديق مبادئ الاستنباط (9): علوم الاقتصاد، السياسة، الإجتماع، الإدارة، الحقوق والقانون

مفردات ومصاديق مبادئ الاستنباط (9): علوم الاقتصاد، السياسة، الإجتماع، الإدارة، الحقوق والقانون
 
الثالث والعشرون إلى الثامن والعشرين: وهذه العلوم الستة تعد من مبادئ الاستنباط نظراً للحاجة إليها في الجملة، لتنقيح موضوعات الأحكام الاقتصادية والسياسية والاجتماعية وغيرها خاصة المستجدة منها، ولتنقيح الإمضائيات بحدودها ولتنقيح متعلقات القواعد الفقهية[1]، وقد تنفع في تأكيد الإطلاق أو استظهار الانصراف.
وسنقتصر على مثال واحد من علم الاقتصاد ونوكل التحقيق في سائر العلوم وسائر المسائل إلى الأفاضل الكرام، فنقول:
 
حرمة الكنز وحدوده
قال تعالى: (وَالَّذِينَ يَكْنِزُونَ الذَّهَبَ وَالْفِضَّةَ وَلا يُنفِقُونَهَا فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَبَشِّرْهُمْ بِعَذَابٍ أَلِيمٍ)[2].
وقد وردت روايات عديدة تحدد مصداق الكنز بأربعة آلاف وألفين، وروايات تفيد صدق الكنز حتى بعد أداء الحقوق المالية المعهودة من زكاة وشبهها، وروايات أطلقت تحريم الكنز:
 
روايات حرمة الكنز مطلقاً
منها: ما في تفسير القمي عن الإمام الباقر (عليه السلام) في هذه الآية: ((إن الله حرم كنز الذهب والفضة، وأمر بإنفاقه في سبيل الله))[3].
ومنها: ما في تفسير القمي(رحمه الله) في حديث قد سبق في سورة البقرة: ((نظر عثمان ـ بن عفان ـ إلى كعب الأحبار وقال له: يا أبا إسحاق ما تقول في رجل أدى زكاة ماله المفروضة، هل يجب عليه فيما بعد ذلك شيء؟ فقال: لا، ولو اتخذ لبنة من ذهب ولبنة من فضة ما وجب عليه شيء، فرفع أبو ذر عصاه فضرب بها رأس كعب، ثم قال له: يا ابن اليهودية الكافرة ما أنت والنظر في أحكام المسلمين؟! قول الله أصدق من قولك حيث قال: (وَالَّذِينَ يَكْنِزُونَ الذَّهَبَ وَالْفِضَّةَ وَلا يُنفِقُونَهَا فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَبَشِّرْهُمْ بِعَذَابٍ أَلِيمٍ)[4])).
والاستدلال ليس باجتهاد أبي ذر[5] بل بما يظهر من بعض القرائن الحافة من سكوت أمير المؤمنين علي (عليه السلام) وتقريره؛ لأن عثمان كان متهماً بشدة بالكنز، وكان أبو ذر رافعاً عقيرته ضده، وكان موقفه هذا مع الخليفة ومستشاره مما لا يُحتمل عادة أن يخفى على الناس وعلى أمير المؤمنين (عليه السلام) خاصة، ولو كان الحكم الشرعي عكس ذلك لكان عليه البيان[6]، فتأمل!
 
روايات حرمة كنز الأكثر من ألفين أو أربعة آلاف
منها: ما في المجمع عن أمير المؤمنين (عليه السلام): ((ما زاد على أربعة آلاف فهو كنز أدى زكاته أو لم يؤد، وما دونها فهو نفقة[7])).
منها: ما في العياشي عن الإمام الباقر (عليه السلام) أنه سئل عن الآية، فقال: ((إنما عني بذلك ما جاوز ألفي درهم))[8].
وقد يؤيد ذلك بما في التهذيب عنه (عليه السلام): ((ما أعطى الله عبداً ثلاثين ألفاً وهو يريد به خيراً))، وقال: ((ما جمع رجل قط عشرة آلاف درهم من حلٍ وقد يجمعها لأقوام إذا أعطي القوت ورزق العمل، فقد جمع الله له الدنيا والآخرة))[9].
 
الإجماع على خلاف تلك الروايات
لكن في مقابل ذلك كله نجد فتوى المشهور على الخلاف بل لعله إجماعي، قال الشيخ الطوسي(رحمه الله) في التبيان: ((وقوله: (وَالَّذِينَ يَكْنِزُونَ الذَّهَبَ وَالْفِضَّةَ وَلا يُنفِقُونَهَا فِي سَبِيلِ اللَّهِ) معناه الذين يخبئون أموالهم من غير أن يخرجوا زكاتها، لأنهم لو أخرجوا زكاتها وكنزوا ما بقي، لم يكونوا ملومين بلا خلاف))[10] انتهى.
أقول: والمستند روايات أخرى أيضاً.
منها في الأمالي: لما نزلت هذه الآية، قال رسول الله (صلى الله عليه وآله): ((مال تؤدى زكاته فليس بكنز وإن كان تحت سبع أرضين، وكل مال لا تؤدى زكاته فهو كنز وإن كان فوق الأرض))[11][12].
والسؤال هو عن وجه التوفيق، فقد يقال بطرح تلك الأخبار، إلاّ أنّ ذلك مشكل مع استفاضتها[13] وموافقتها لظاهر الكتاب.
 
من وجوه الجمع بين الأخبار المتعارضة
وحينئذٍ فقد يمكن الجمع باختصاصها بزمن الظهور المبارك، وأما قبله فموسع على الناس، وتدل عليه رواية الكافي والعياشي عن الإمام الصادق (عليه السلام): ((موسع على شيعتنا أن ينفقوا مما في أيديهم بالمعروف، فإذا قام قائمنا حرم على كل ذي كنز كنزه حتى يأتيه به فيستعين به على عدوه، وهو قول الله: (الَّذِينَ يَكْنِزُونَ الذَّهَبَ وَالْفِضَّةَ)))(3).
والكلام حول هذا الوجه وغيره يستدعي مقاماً آخر، فلنقتصر على موطن الشاهد، وهو وجه جمع آخر يستفاد فيه من إحدى مسائل علم الاقتصاد في تنقيح موضوع الكنز.
بيان ذلك:
 
جمع آخر على ضوء حقيقة اقتصادية: جمود وسرعة وبطء دوران النقد
إن الغلاء والتضخم الذي هو مؤشر على ضعف الاقتصاد ومن أهم أسباب تعطل الحاجات ـ ينشأ من عوامل ثلاثة: أ ـ قلة العرض، ب ـ كثرة الطلب، ج ـ بطء دوران النقد أو تجميده عن الحركة والدوران[14]، وهذا الأخير غير معروف عادة فلنوضحه:
إن النقد هو الواسطة في تبادل البضائع وهو الوسيلة الميسرة لقضاء الحوائج، لأن الالتزام بدفع بضاعة ما ـ كالحنطة أو الملابس أو الجواهر أو غيرها ـ كثمن لما يشتريه الإنسان أمر صعب جداً، لصعوبة حفظه ونقله وتسليمه أو لِقِلّته، أما النقد فهو واسطة خفيفة الحمل سهلة الحفظ سريعة التداول ومتوفرة، لذلك اتجه العقلاء بعد العصر البدوي المعتمد على تبادل البضاعة بالبضاعة إلى مبادلتها بالعملة والنقد، وكانت العملة هي الذهب والفضة سابقاً ثم أضحت العملات الورقية وشبهها[15].
ثم إن العملة لو احتكرت وكنزت سبّب ذلك تعطيل الحاجات بالنسبة نفسها، فلو فرض أن مجموع كمية النقود هي ألف دينار، ومجموع كمية البضائع هي ألف كيلو مثلاً لكان كل دينار يقابل بكيلو واحد، فلو توفرت هذه الألف بأيدي الناس لما بقيت حاجة معطلة، عكس ما لو كنز شخص تسعمئة دينار منها مثلاً، إذ تبقى مئة دينار لقضاء ألف حاجة ـ وشراء ألف كيلو ـ فلو اشترى مئة شخص بالمئة دينار مئة كيلو أو حتى مائتي كيلو[16]، لما بقيت دنانير بأيدي الناس لشراء التسعمائة كيلو، فيبقى المحتاجون إلى الشراء، وقد عطلت حاجاتهم كما تبقى الـ(900) كيلو عالة بأيدي ملّاكها وقد تعطب أو تفسد.
نعم، الدَّين يمكن أن يشكل بعض الحل، لكنه لا يفي بحل كل المعضلة، إضافة إلى أن ذلك يسبّب انخفاض قيمة البضائع عن واقعها كثيراً، مما يضر بالمنتجين وقد يوقفهم عن الإنتاج بالمرة، إذ يرون الخسائر الناجمة، إضافة إلى أن كنز تلك التسعمئة يعني أن كثيراً من أرباب العمل سوف لا يعطون الأجور للعمال إلا (10%) ولا المديون يسدد دينه إلا بمقدار ما يتوفر وهو عشرة بالمئة فقط، وهكذا هلم جرا، وعلى أية حال فإن كنز المال كثيراً ما يضر بالاقتصاد الوطني ويضرّ بالناس.
وعلى ذلك فقد يقال: إن آية الكنز ناظرة لهذه الصورة، وهي صورة إضرار كنز المال بالناس، وإن دفعت زكاته، وبذلك يجمع بين الطائفتين من الروايات، فالنافية ـ لوجود حق مالي وراء الزكاة وشبهها ـ ناظرة للعنوان الأولي، والمثبتة ـ لوجوب الإنفاق في الأكثر من الألفين والأربعة ـ ناظرة للعنوان الثانوي وصورة إضرار ذلك بالناس، وإن شئت فقل: هذه الروايات إنما هي بنحو القضية الخارجية.
 
هل هذا الجمع تبرعي؟
لا يقال: هذا الجمع تبرعي.
إذ يقال: ربما تدل عليه كلمة (الكنز) وصحة الحمل وعدم صحة السلب في النوعين:
فإن ما كان كثيراً متوفراً بأيدي الناس لا يصدق عليه كنز وإن جمع منه الشخص ما جمع، عكس ما يحتاجونه مما لو حبس بعضه تضرروا، فإنه يصدق عليه الكنز، أرأيت لو أن شخصاً جمع الكثير من الأحجار في أرضه أو تحتها، فإنه لا يصدق عليه أنه كنزه؟ عكس ما لو كانت الأحجار قليلة محتاجاً إليها للبناء بشدة، فجمع أكثرها وحبسه فإنه يصدق عليه أنه كنزها، فتأمل[17]!
وقد يستشهد لهذا الجمع باختلاف الروايات نفسه في تحديد مصداقه، وإنه ألفان أو أربعة، وذكر بعض الروايات العشرة آلاف وما أشبه، فإن الظاهر عرفاً من ذلك أنه على نحو القضية الخارجية، وأنه تحديد لمصداق الكنز بلحاظ حاجة الناس، وقدر حاجتهم إلى المال، فتأمل!
ثم إن سرعة دوران النقد وبُطْأه[18]عامل آخر في تعطيل الحاجات أو تمشيتها، فإن المئة دينار لو دارت يومياً عشر مرات في التداول ـ بيعاً وشراءً أو إجارة وماشابه ـ فإنها تلبي ألف حاجة ـ في المثال السابق ـ وتكون قوتها الشرائية بمقدار ألف دينار، عكس ما لو دارت يومياً خمس مرات، أو مرة، أو دارت كل يومين مرة، فإن قوتها الشرائية في الصورة الأخيرة تكون بقدر خمسين ديناراً فتبقى ـ بالنسبة نفسها ـ مجموعةٌ من الحاجات معطلة.
وهنا يظهر مصداق جديد للكنز وهو حبس النقد عن دورانه الطبيعي المعهود، فالكنز إما كنز لأصل المال أو كنز للمال عن تكرر التداول المعهود اللائق بشأنه.
ثم إن ما ذكر ترد عليه إشكالات، ولعل الأولى الاستدلال على المدعى بـ(لا ضرر) وفي حدوده، لا بآية الكنز[19]، فتأمل!
 
الحاجة لهذه العلوم ثبوتية أو إثباتية؟
وعلى أي تقدير فسواء أرفضنا الاستدلال بهذا الوجه الاقتصادي على تحديد معنى الكنز في آية الكنز ثمَّ مصداقه كما عليه المشهور ـ بل لم نعهد له  مخالفاً  ـ أم قبلنا به فإنه لابد للفقيه من معرفة الاقتصاد وأسسه ومسائله، كي ينقح لديه الموضوع جيداً ويحرز صحة الرفض أو القبول بالبرهان لا بالتعبد، خاصة مع ظهور أدعياء العلم بالدين من غير معرفة بأصوله وقواعده، فلو جهل الفقيه مسائل الاقتصاد لما أمكنه ردّ كلامهم ـ على تقدير رفضه لمثل الجمع المزبور ـ بالنحو المطلوب وبما يقنع الطرف الآخر أو يفحمه على الأقل، لكي لا يبقى له مجال لاتهام الفقهاء بالجهل أو التخلف مثلاً[20].
------------------------------
 
 
(3) الكافي: ج7 ص 362 باب النوادر ح4/  تفسير العياشي: ج2 ص 87 ح54.

 


  • المصدر : http://www.m-alshirazi.com/subject.php?id=2658
  • تاريخ إضافة الموضوع : 2 شعبان 1438هـ
  • تاريخ الطباعة : 2024 / 04 / 18