• الموقع : مؤسسة التقى الثقافية .
        • القسم : الفوائد والبحوث .
              • الموضوع : 164- من فقه الحديث: قوله عليه السلام (كل ما ألهى عن ذكر الله فهو من الميسر) .

164- من فقه الحديث: قوله عليه السلام (كل ما ألهى عن ذكر الله فهو من الميسر)

من فقه الحديث: قوله عليه السلام (كل ما ألهى عن ذكر الله فهو من الميسر)*
 
استدل الشيخ ضمن ما استدل على حرمة اللهو بخبر عبد الله بن علي عن علي بن موسى عن آبائه عن أمير المؤمنين (عليهم السلام) : ((كل ما ألهى عن ذكر الله فهو من الميسر))[1].
أقول: سبق تفصيلاً عدم صحة الاستدلال بمثل هذه الرواية على المقام مطلقاً، وذلك لأنها من باب آخر؛ فإن مسألتنا تدور حول (اللهو) ـ وهو ناقص واوي ـ وما جاء في الرواية مشتق من (اللهي) ـ وهو ناقص يائي ـ وقد سبق اختلاف معنييهما كلفظيهما.
هذا، إضافة إلى أن الإجماع بل والضرورة على خلافها ـ أي خلاف إطلاقها ـ؛ إذ لا شك في عدم حرمة كل ما ألهى عن ذكر الله؛ فإن كثيراً من المكروهات بل والمباحات ايضاً كذلك، فلا بد من حمل الرواية على أحد المحامل، والمحامل المتصورة فيها هي:
 
المحامل والمحتملات الثمانية في الرواية
1: التصرف في الموصول
الأول: التصرف في الموصول، بأن يقال: إن (ما) يراد بها آلات اللهو، أي كل آلة لهو ألهت عن ذكر الله فهي ميسر[2]، سواء قلنا: بكون (ألهى عن ذكر الله) قيداً توضيحياً حينئذٍ، بدعوى: أن كل آلة لهو فهي كذلك، أم قلنا: بكونه قيداً احترازياً بلحاظ عموم الموصول ظاهراً من غير أن يرجع لبّاً إلى التوضيحي.
وعليه: تكون الرواية أجنبية عن مسألتنا.
وقد يستشهد لترجيح هذا الاحتمال بـ: كون فتاوى الفقهاء على ذلك، أي على حرمة آلات اللهو، وبقرينة الروايات الدالة على حرمة المعازف والملاهي وآلات اللهو، إذ ضمها إلى هذه تفيد أن المراد منها هو ذاك.
ويرد على الأول: أن فهم الفقهاء للرواية بنحوٍ مّا قد يصلح قرينة على المراد منها ـ كدليل أو مؤيد ـ دون مجرد وجود فتوى لهم بالأخص، فإنه لا يوجب حمل الوارد الأعم عليه.
كما يرد على الثاني: أن المثبَتين لا يقيد أحدهما الآخر، فورود        روايات بتحريم آلات اللهو لا يقتضي تخصيص ما هو أعم، بحسب دلالته الاستعمالية التي تعد أمارة على الجدية ـ لولا بروز معارض أقوى ـ[3] والمثبت الأخص ليس معارضاً.
 
2:التصرف في (ألهى) بإرادة الاحتجاب
الثاني: التصرف في (ألهى) بالقول بأنه: (لا بد من حمله على إرادة حصول حالة الاحتجاب للنفس من تلك المعصية)[4]، وهو ما ذهب إليه من قبل المحقق الإيرواني(رحمه الله)، وقد فصلنا الكلام حوله سابقاً.
وعليه: فالرواية تدل على حرمة بعض أقسام اللهو فقط.
 
3: التصرف في (ألهى) بإرادة الشهوي منه
الثالث: التصرف في (ألهى) بالقول: أن المراد به كل ما ألهى عن ذكر الله إلهاءً شهوياً، بدعوى: أن ظاهر اللهو ما كان عن التذاذٍ شهوي.
لكن إن أريد بالشهوة: المعنى الأعم المشار إليه في آية: (زُيِّنَ لِلنَّاسِ حُبُّ الشَّهَوَاتِ مِنْ النِّسَاءِ وَالْبَنِينَ وَالْقَنَاطِيرِ الْمُقَنْطَرَةِ مِنْ الذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ وَالْخَيْلِ الْمُسَوَّمَةِ وَالأَنْعَامِ وَالْحَرْثِ ذَلِكَ مَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَاللَّهُ عِنْدَهُ حُسْنُ الْمَآبِ)[5]، فإن الظاهر عدم فتوى الفقهاء بحرمة كل ما يوجب التذاذاً شهوياً بالمعنى الأعم من الجنسي.
وأما إن أريد بها: المعنى الأخص، أي: الالتذاذ الشهوي الجنسي فلا بُعد فيه.
 فلو تمّ سند الرواية أو بعض نظائرها، كانت دليلاً على حرمة كل ما يلهي عن ذكر الله مع كونه شهوياً جنسياً في غير الثابت حليته بالدليل الخاص كما في اللهو مع الزوجة، فإنه خارج عن محل البحث غير مشمول للرواية ـ على فرض دلالتها على الحرمة ـ بالتخصيص المسلم، فالكلام فيما عداه، وذلك مثل الالتذاذ الشهوي بمطالعة قصة، أو خبر جنسي، أو مشاهدة رسم تخيلي لامرأة متوهمة من غير أن يوجب الاستمناء، وإلا حرم دون كلام، فتأمل.
وفيه: ان ظاهر اللغة ـ بل والعرف ـ أن اللهو أعم من الشهوي بالمعنى الأخص، بل حتى بالمعنى الأعم المذكور في الآية، فتأمل.
وعلى أيّ فالأخص لا دليل من اللغة والعرف عليه، لكنه أحد المحتملات بعد تعذر المعنى الحقيقي، أما الأعم فلا توافقه الفتاوى.
 
4: التصرف في (ألهى) بإرادة طبعه
الرابع: التصرف في (ألهى) بالقول بـ: أن المراد به ما ألهى بحسب طبعه ووضعه، فكل ما وضع للهو كالرقص والشطرنج فإنه حرام، دون ما استفيد منه أحياناً له كعدد من المباحات والمكروهات.
لكن قد يقال: ان ذلك مجاز؛ إذ ظاهر الأفعال الفعلية، لا الشأنية وكونه بحسب وضعه أو طبعه.
ولو جمع هذا الوجه مع سابقه كان أقرب للقبول، ولعله ترشد إليه رواية وضع إبليس للمعازف وشبهها في قضية قابيل[6]، فتأمل.
 
5: التصرف في (ذكر الله)
الخامس: التصرف في (ذكر الله) بالقول: أن المراد به (ذكر الله الواجب)، ولا شك في أن ما ألهى عن ذكر الله الواجب ـ كالصلاة المضيَّقة ـ فإنه حرام عقلاً من باب المقدمية، وشرعاً على المنصور.
 لكن التقييد بهذا ـ كسوابقه ـ بحاجة إلى الدليل، ويبقى أحد المحتملات إن تعذر المعنى الحقيقي.
 
وجهان للاحتمال الخامس:
الأول: الاستدلال ببرهان السبر والتقسيم
وقد يستدل على الاحتمال الخامس ـ التصرف في (ذكر الله) بتقييده بالواجب، بوجهين:
الأول: الانقسام القهري لـ(ذكر الله) إلى الواجب والمستحب بضميمة برهان السبر والتقسيم؛ إذ لا شك في أن ذكر الله منقسم ـ بطبعه ـ إلى ذكر الله الواجب كالصلوات الواجبة، وإلى ذكر الله المستحب[7]، وهنا نستعين بالسبر والتقسيم فنقول: لا يعقل أن يكون ما ألهى عن ذكر الله المستحب حراماً، إذ المانع عن المستحب أو المزاحم له لا يمكن أن يكون بما هو مزاحم للمستحب أو مانع عنه حراماً،  إذ كيف يزيد الفرع والظل على الأصل وذي الظل؟ وهل يمكن القول ـ مثلاً ـ: بأن المانع عن صلاة الليل محرم؟
فلم يبق إلا ما يكون المراد: ما ألهى عن ذكر الله الواجب هو المحرم،      وهو المطلوب.
الثاني: الاستدلال بكون حرمة الإلهاء مقدمية
الثاني: ظهور أن (ذكر الله) هو الغاية، وأن المحافظة عليه هي المصب والمحور، وأن الردع عن ما يلهي عنه طريقي لا موضوعي، فلاحظ الرواية: ((كل ما ألهى عن ذكر الله فهو من الميسر)) تجد ذلك بوضوح.
والحاصل: إن الردع عن (ما ألهى عن ذكر الله) إنما هو لمقدميته لعدم ذكر الله، وذلك بمعونة الارتكاز، ولا يعقل أن تكون المقدمة محرمة عقلاً أو وشرعاً أيضاً، إلا لو كان ذوها محرماً، وليس ذوها المحرم إلا ترك ذكر الله الواجب.
ويمكن عدّ هذا الوجه بياناً آخر للوجه الأول، فتأمل[8].
 
6: الالتزام بأنه عام خرجت منه اللا اقتضائيات
السادس: أن يلتزم بأنه عام خرجت منه المباحات والمكروهات المسلّمة، فيبقى الباقي تحت عموم التحريم؛ نظراً لأن الميسر هو موضوع الحرمة في الشريعة دون ريب، سواءً أ كان قوله (عليه السلام): ((فهو من الميسر)) من باب الموضوع بأن يكون الشارع قد تصرف في الموضوع العرفي بالتوسعة، أم محمولاً وحكماً، ولو تممّ الوجه الثالث بهذا الوجه لكان أقرب للقبول، وإن ورد على الثالث أنه لا دليل من اللغة أو العرف على تخصيص اللهو بالشهوي.
لا يقال: إن الالتزام بذلك يعني إلغاء أصالة الإباحة والحل.
إذ يقال: كلا؛ إذ هذا أخص مطلقاً من أصالة الإباحة والحل، خاصة مع ضم الوجه الثالث إليه، إذ يكون الحاصل: أن الأصل في الأشياء الحلية والإباحة، إلا ما كان لهوياً عن التذاذ شهوي ـ أو لهوياً مطلقاً ـ فإن الأصل فيه: الحرمة.
 
7: حمل الرواية على الأخلاقية والإرشاد
السابع: حمل الرواية على الأخلاقية، وكون التعبير بـ(فهو من الميسر) من باب المبالغة للتنفير والتنزيه.
وبعبارة أخرى: حمل الرواية على الإرشاد إلى أن وجه الحكم في تحريم الميسر، وهو الإلهاء عن ذكر الله تعالى متحقق ـ ولو بمرتبة ضعيفة ـ في كل ما ألهى عن ذكر الله، وإن لم يكن الإلهاء علة للتحريم ولم يكن هو من الميسر حقيقة.
لكن من الواضح أن ذلك مجاز أو خلاف الظاهر لا يصار إليه إلا بدليل.
 
8: حمل (ألهى) على ما كان عن بطر
الثامن: أن يلتزم بما قاله الشيخ (رحمه الله) في ثاني محتملاته، بكون اللهو ما يكون عن بطر ـ أي شدة الفرح ـ[9].
ولكن لا دليل من اللغة أو العرف على اختصاص اللهو بما كان عن بطر، فهو تخصيص من غير مخصص، كبعض سوابقه.
وحينئذٍ: فإن استُظهر من الرواية أحد الوجوه السابقة فهو[10]، وإلا فالرواية مجملة لا يصح الاستناد إليها لتحريم مطلق ما يلهي عن ذكر الله.
ولعل الأقرب من الاحتمالات هو الوجه الأول، ولعله الذي عليه الفتاوى، وإلا فالوجه الخامس، وإلا فالثالث المتمم بالسادس، وإلا فمجمله،فتدبر وتأمل.
------------------------------------
 
 

 


  • المصدر : http://www.m-alshirazi.com/subject.php?id=2669
  • تاريخ إضافة الموضوع : 6 شعبان 1438هـ
  • تاريخ الطباعة : 2024 / 04 / 18