• الموقع : مؤسسة التقى الثقافية .
        • القسم : الفوائد والبحوث .
              • الموضوع : 181- مباحث الاصول: (المستقلات العقلية) (3) .

181- مباحث الاصول: (المستقلات العقلية) (3)

الفائدة الرابعة عشر : ما قيل : بأن المشهورات بالمعنى الأخص هي القضايا التي لا واقع لها وراء تطابق آراء العقلاء عليها  ليس صحيحاً؛ لأن آراء العقلاء كاشفة عن الشيء لا موجدة له، وإلا كيف يجتمع العقلاء على حسن أمر لا واقع له؟، ولزم منه إن تطابقت آرائهم على الباطل أن يكون حقاً ، وهو كما ترى.
ذهب بعض الأعلام - ومنهم العلامة المظفر في منطقه - إلى أن المشهورات بالمعنى الأخص [1] هي القضايا التي لا واقع لها وراء تطابق آراء العقلاء عليها ، بل واقعها هو ذلك،  وأن الفرق بين هذه المشهورات وبين اليقينيات [2] هو : أن اليقينيات[3]  لها واقع وراء القضية في نفس الأمر يطابقه الاعتقاد أو القول ، وأما المشهورات بالمعنى الأخص  - مثل حسن العدل والكرم والصدق -  فلا واقع لها وراء تطابق الآراء عليها   ، هذه خلاصة كلامه .
ولكن هذا الكلام بعيدا عن الحق بمراحل ، فلابد من  التوقف عنده  قليلاً لشدة شهرته بين الطلاب والأفاضل.
تقييم كلام منطق المظفر
فنقول: إن هذا الكلام غير صحيح لعدة وجوه:
الوجه الأول: لا ريب أن العدل  حسن في حد ذاته  وبما هو هو ،  وأن الظلم قبيح في حد ذاته  [4]، وهذه ليست أموراً اعتبارية منوطة باعتبار المعتبر ، وبتطابق آراء العقلاء عليها، بل أن آراء العقلاء هي كالمرآة الكاشفة عن الحقيقة ، لا الموجدة لها.
وبعبارة أخرى: أن تطابق الآراء ليس علة لحسن العدل؛ وإنما هو كاشف عن حسن العدل الثابت في مرتبة سابقة على تعلق الآراء به وعدمه، والفرق بين العلية والكاشفية بيّن.
وبعبارة ثالثة: أن حسن العدل ثابت في مرتبة سابقة على تعلق الآراء به ؛ بل السبق ليس رتبياً فقط ، بل هو زمني أيضاً.
وبعبارة رابعة:أن الحسن للعدل ذاتي ؛ بذاتي باب البرهان ؛ وذلك أن الذاتيات على قسمين:
القسم الأول: ذاتي باب الكليات ، كالفصل والجنس والنوع.
القسم الثاني: ذاتي باب البرهان ، وهو ما ينتزع من حاق الشيء ، كما في الزوجية للأربعة، عكس العرض المفارق.
والحسن للعدل من هذا القبيل ،  أي أنك كلما  نظرت إلى الأربعة انتزعت منها الزوجية ، كذلك هو الحال في العدل أنك إذا نظرت إليه انتزعت منه الحسن .
وبعبارة خامسة: أن الحسن للعدل والقبح للظلم  هو من المعقولات الفلسفية الثانية والتي تقع في مقابل المعقولات المنطقية الثانية .
توضيحه : أن المعقولات على قسمين :
القسم الأول : المعقولات المنطقية الثانية؛  هي ما كان الاتصاف في الذهن وكان العروض في الذهن أيضاً  ، كما في الكلية والجزئية للقضية  ، وكما في  المعرِّف والحجة ،  وما أشبه[5].
القسم الثاني : المعقولات الفلسفية الثانية ؛ وهي ما كان الاتصاف في الخارج والعروض في الذهن ،  وذلك مثل الإمكان للممكن ؛  فإن اتصاف الممكن بالإمكان في الخارج ، لكن ظرف العروض هو الذهن وليس الخارج ؛ إذ لو كان العروض في الخارج للزم انفكاك الممكن عن الإمكان قبل ذلك العروض ؛ وذلك محال .
والحسن للعدل من قبيل القسم الثاني ؛  فإن العدل الخارجي متصف في الخارج حقيقة بأنه حسن لكن العروض في الذهن.
والحاصل: أنه لا ريب في أن  مثل العدل حسن وقبح الظلم له واقع وراء آراء العقلاء ،  وغاية الأمر أن  هذه الآراء حاكية وكاشفة عنه .
الوجه الثاني [6]: أن الالتزام بهذا القول يستلزم الاستحالة الوقوعية ـ لا الذاتية ـ لتحقق أي نوع من المشهورات بالمعنى الأخص كحسن العدل؛ وذلك لأن النفوس والعقول مختلفة والأهواء متشتتة في البشر ؛ فكيف يعقل اجتماع البشر بأجمعهم على حسن أمر أو قبح أمر ليس له واقع ؟.
وأما على قولنا فلا استحالة ؛ لتحقق سبب وسر الاجتماع والاتفاق ، وهو  أن هناك واقعاً لـحُسنِ العدل بذاته ؛ وهذا الواقع انعكس على الأذهان فأذعنت به.
وبعبارة أخرى: أن تطابق الآراء بهذا النحو الذي ذكره منفي بحساب الاحتمالات بالبداهة.
الوجه الثالث: أن هذا الكلام  أشد غرابة  - بل هو أسوء - من كلام الأشعري ، بعد أن كانت نتيجة كلامهما واحدة  ، هو أن الحسن والقبح لا واقع له ، بل هو صريح كلامهما .
وأما أنه أسوء  ؛ لأنه لو تم نفي وجود واقع ثبوتي للمشهورات، فإن كون الحاكم هو   اتفاق آراء العقلاء وأن الحسن هو ما حسّنه العقلاء والقبيح ما قبحوه [7]، أسوء من كلام الأشعري القائل:  بأن الحاكم هو الله ، وأن الحسن هو ما حسّنه الشارع والقبيح ما قبحه الشارع، ووجه الأسوئية واضح ،  بأمور :
الأمر الأول :  أن الله تعالى هو المالك الحقيقي.
الأمر الثاني : أن  الشارع عالم ومحيط  ؛ والمحيط لا يخطئ وجه المصلحة في إنشاءه ،  كما لا يخطئ في أخباره، في حين أن العقلاء قد يخطئون في كليهما.
والحاصل:  أنا نقول :  أين مرجعية الخالق جل وعلا  إنشاءً وإخباراً من مرجعية الخلق؟
وبعبارة أخرى: لو كان لا مناص فرضاً من القول بأن لا حسن ولا قبح حقيقيان ؛ فإن كون الشارع هو العلة لهما أولى من كون العلة هي آراء العقلاء  .
والنتيجة :  أن التصويب الذي انتهى إليه  صاحب المنطق أسوء من تصويب الأشعري.
الوجه الرابع: لو كانت المشهورات بالمعنى الأخص لا واقع لها وراء اتفاق آراء العقلاء عليها ؛  للزم - فيما لو تطابقت الآراء على العكس -  أن يكون العكس هو الحق  ، أي  : للزم القول بقبح العدل وحسن الظلم حينئذٍ ؛  وهذا باطل بالوجدان.
لا يقال: إن هذا فرض غير واقع أبداً؟
فإنه يقال: إن القضية الشرطية صادقة حتى مع امتناع المقدم ؛  كما في قوله تعالى : (لَوْ كَانَ فِيهِمَا آلِهَةٌ إِلَّا اللَّـهُ لَفَسَدَتَا) ،  فكيف مع فرض عدم الامتناع  ، بل مجرد عدم الوقوع وإن فرض الاستغراق! ، فهذه وجوه أربع دالة على عدم صحة كلام المنطق.
نقد آخر للأصفهاني والمظفر :
وكلام المنطق المتقدم لعله اقتبسه من المحقق الاصفهاني، وهذا نص عبارته في باب الانسداد: (( المعتبر في القضايا المشهورة والآراء المحمودة مطابقتها لما عليه آراء العقلاء ؛ حيث لا واقع لها غير توافق الآراء عليها )) [8]ولابد من الإشارة إلى أن قوله: ((والآراء المحمودة)) إن كان من باب عطف الخاص على العام  صح ، وأما إذا كان عطفاً تفسيرياً ،  فيرد عليه: أن المشهورات بالمعنى الأخص أعم منها ؛ لشمولها أموراً عديدة:
الأمر الأول: التأديبات الصلاحية [9] كالعدل حسن  والظلم قبيح ،  وقد عبر عنها بالآراء المحمودة.
الأمر الثاني: الخلقيات [10] ، كحسن  الكرم والشجاعة ،  وقد يعبر عنها بالآراء المحمودة أحياناً.
الأمر الثالث: الانفعاليات ،  كحسن الحياء  الرحمة والشفقة، والظاهر أن القضايا المشهورة شاملة لهذه الثلاثة بل للرابع والخامس ؛ لأنه هناك أمر رابع وهو  العاديات ،  كحسن احترام الضيف ، وخامس وهو   الاستقرائيات  كالحكم بأن التكرار ممل ، ولا يهمنا تحقيق ذلك الآن.
نعم ،  يمكن أن يوجه كلام المحقق الأصفهاني :  بأنه أراد من عبارته ((الآراء المحمودة)) الأعم تجوزاً في الاصطلاح، أو أنه  أفردها بالذكر لأهميتها ،  ولأنها مدار الكلام ؛ فكان من باب عطف الخاص على العام ، كما سبق.
حصول التناقض في كلام المظفر
ثم إنه قد وقع في كلام المظفر تناقض ما بين أوله وآخره من جانب  ، وما بين وسطه من جانب آخر ؛ حيث إنه قد نفى نفياً مطلقاً وجود واقع للقضايا المشهورة في أول كلامه وآخره ، ولكن نفيه له في وسط كلامه كان نفياً مقيداً :
فقال في أول كلامه : ((لا واقع لهذه القضايا وراء تطابق الآراء عليها ،  بل واقعها ذلك )) [11] فهنا نفي مطلق ، وقال في آخر كلامه  : ((المعتبر في المشهورات مطابقتها لتوافق الآراء عليها ؛  إذ لا واقع لها غير ذلك ))  وهنا نفي مطلق أيضاً ؛ في حين قال في وسط كلامه  : ((فلو خلي الإنسان وعقله المجرد وحسه ووهمه ولم تحصل له أسباب الشهرة الآتية - كاقتضاء الخلق الإنساني في الخلقيات واقتضاء مصلحة النوع في التأيبات الصلاحية  - فإنه لا يحصل له حكم بهذه القضايا ، ولا يقضي عقله أو حسه أو وهمه فيها بشيء)) ؛  فهنا كان  نفيه  مقيداً، وعبارته هنا أقرب للصواب ، وإن كنا لا نوافقه على ذلك ؛ لأننا نرى أن ((العدل))   - مع قطع النظر عن مثل اقتضاء الخلق الإنساني-  مما يحكم عليه العقل بالحسن  [12] .
وأما وجه أقربيته ؛ فلأنه نفى في أول كلامه وآخره وجود واقع للمشهورات وراء تطابق الآراء ؛ ولكنه  في الوسط أثبت وجود واقع لها ،  هو  قوله :  اقتضاء الخلق الإنساني أو مصلحة النوع، فتدبر.
وكذلك وقع التناقض في قوله :((ولا ينافي ذلك أنه يمدح العادل ويذم الظالم )) [13] فإن هذا  ينافي أيضاً أول وآخر كلامه ؛ إذ لا معنى لذم الظالم بما هو هو -  مع قطع النظر عن اتفاق الآراء على قبح الظلم [14] -   إذ قبحه وليد الاتفاق  ؛ فمع عدم لحاظه لا قبح فلا معنى للذم ؛ ولا معنى للقول : ((إنه بنفسه يمدح العادل..)).

التحقيق في منشأ الخطأ والخلط
والتحقيق في المقام: أن الفرق  بين قولك : (( الدور محال ))  وبين قولك : (( العدل حسن )) يتضح ببيان وجود أركان خمسة في المشهورات بالمعنى الأعم وبالمعنى الأخص:
الركن الأول: ذات عنوان الموضوع ،  وهو ((الدور)) و ((العدل)) .
الركن  الثاني: الحكم على العنوان ،  كالحكم بالاستحالة على الدور ،  والحسن على العدل.
الركن الثالث: علة الحكم ،  وهذا هو منشأ الفرق  ومنشأ الخطأ أيضاً.
الركن الرابع: ثبوت القضية ووجود العلة مع قطع النظر عن انعقاد الشهرة عليها.
الركن الخامس: الشهرة عليها.
والخلط إنما وقع في الركن الثالث الذي هو علة الحكم  ، ثم وقع في الركن الرابع ؛  لأن العلة إما أن تكون ذات الموضوع بنحو الاقتضاء أو العلية التامة، أو لا تكون علته ذات الموضوع، بل تكون العلة هي اللازم ،  أو الملازم ،  أو الملزوم ،  أو عنوان متحد مع الموضوع، أو الشهرة ؛ هذا هو الفرق بين الدور محال و العدل حسن  ؛ فإن ذات الموضوع  - وهو الدور محال -  هو تمام العلة لثبوت الحكم عليه بالاستحالة .
وأما ((العدل حسن)) ففيه آراء :
الرأي الأول : فقد يقال: بأن ذات الموضوع – وهو العدل -   مقتض لثبوت الحسن له ، وهذا هو المنصور .
الرأي الثاني : وقد يقال: بأن ((العدل))علة تامة لثبوت الحسن له.
 الرأي الرابع : وقد يقال: بأن لازم ذات الموضوع -  أي العدل  هو العلة للحسن واللازم -  هو بقاء النوع وحفظ النظام [15].
الرأي الخامس : وقد يقال: بنفي هذا وذاك ؛  والعلة هي انعقاد الشهرة واتفاق الآراء على حسن العدل ذلك ، وهذا هو كلام  العلامة المظفر والمحقق الأصفهاني الذي تقدم .
والحاصل: أن  النفي لوجود علة ثبوتية للحكم غير الشهرة  هو منشأ الخطأ في كلامه .
وبعبارة أخرى :  أنه جعل الثبوت يدور مدار الاثبات وألغى الركن  الثالث بشقوقه الثلاثة  ؛  حيث بنى على أن الأحكام المشهورة متولدة من شهرة على موضوعٍ ؛ فيوجد إذن  موضوع وحكم ،  وعلة ثبوته هي  الشهرة ، وهذا صريح مفاد عبارته الأولى والأخيرة، ولكن عبارته الوسطية تقبل الشق الثاني  ، يعني  يمكن أن يكون ملازم الموضوع علة للحكم .
فظهر الخلط في كلامه بين عدم وجود علة للحكم مطلقاً  ، أي عدم وجود علة لحسن العدل إلا الشهرة ، وبين عدم كون ذات الموضوع [16]هي العلة [17]، ومن الواضح الفرق بين النفي المطلق الذي يساوي كلام الأشعري  بل هو أسوء ،   وبين النفي المقيد  الذي  جاء في كلام الشفاء  حيث نفى الشق الأول [18] .
 
كلام  الشفاء  ونقده :
قال في  الشفاء : ((والذي على سبيل تسليم مشترك فيه: إما أن يكون رأياً يستند إلى طائفة ، أو يكون رأياً لا يستند إلى طائفة ،  بل يكون :  متعارفاً في الناس كلهم قبولُه ، وقد مُرِّنوا عليه، فهم لا يحلونه محل الشك، وإن كان منه ما إذا اعتبره المميّز وجعل نفسه كأنه حصل في العالم دفعة وهو مميز [19] ، ولم يعوَّد ولم يؤدب ولم يلتفت إلى حاكم غير العقل [20]، ولم ينفعل عن الحياء والخجل، فيكون حكمه خلقياً لا عقلياً ولم ينظر إلى موجب مصلحة [21]، فيكون بوسط لا بضرورة، وأعرض عن الاستقراء أيضاً فيكون بوسط، ولم يلتفت إلى أنه هل ينتقض عليه بشيء [22]،  فإذا فعل هذا كله [23]ورام أن يشكك فيه نفسه أمكنه الشك ، كقولهم  : إن العدل جميل، والظلم قبيح، وأن شكر المنعم واجب ؛ فإن هذه مشهورات مقبولة  ، وإن كانت صادقة فصدقها ليس مما يتبين بفطرة العقل المنزل منزلة المذكورة، بل المشهورات هذه وأمثالها منها ما هو صادق  ، ولكن يحتاج في أن يصير يقيناً إلى حجة [24] ، ومنها ما هو صادق بشرط دقيق لا يفطن له الجمهور[25]، ولا يبعد أن يكون في المشهورات كاذب )) [26] .
وحاصل كلامه :  نفي كون الموضوع في المشهورات بنفسه تمام العلة لثبوت الحكم، عكس الدور أو التسلسل محال، لا نفي وجود علة خارجية للحكم ملازمة له، ولا حتى نفي وجود اقتضاء للموضوع لثبوت الحكم له، وأين هذا من كلام المظفر؟ ،  فتأمل.
لكن يرد على  الشفاء :  أنه لو تحققت هذه الشروط بأجمعها فهل العقل يشك حينئذ ؟
وفي جوابه نقول : كلا  ، بل لو اجتمعت هذه القيود بأجمعها لكفى عنوان ((العدل)) للحكم عليه بالحسن ؛ إما بنحو العلية على رأي ،  أو الاقتضاء على رأي آخر، من غير توقف على أمر خارج ، كما في الحكم بـ((الدور محال)) بقطع النظر عن أي شيء آخر، مع فرق أن الموضوع ههنا لا شك في عليته للحكم.
ثم إن هذه القضايا من الوجدانيات  التي لا يمكن الاستدلال عليها ولكن يمكن التنبيه عليها ؛ لأن القضايا إذا وصلت إلى الفطريات والأوليات وما أشبه - سلباً وإيجاباً - انقطع الاستدلال عليها،  هذا كله من جهة.
ومن جهة أخرى: لو سلمنا أن الحسن لمثل العدل ليس بذاتي باب البرهان،  كما ليس بذاتي باب الكليات الخمسة ، لكن لاشك في أن العدل بالحمل الشائع الصناعي حسن دون كلام، وهو النافع لنا في علم الفقه والأصول وما أشبه.
والحاصل:  أن العدل سواء أكان تمام الموضوع للحكم عليه بالحسن، أم كان جزء الموضوع  أو كان ملازماً له أو لازماً  أو ملزوماً ؛  ففي كل هذه الصور الحمل الشائع الصناعي صادق وناتج ، وإن لم يكن بالحمل الذاتي الأولي ، وهذا يكفي .
 
بحث تطبيقي :
عرف المحقق الأصفهاني  الأحكام العقلائية بأنها : (القضايا المشهورة التي تطابقت عليها آراء العقلاء حفظاً للنظام ، أو إبقاءً للنوع ، كحسن العدل،  وقبح الظلم والعدوان) [27].
ولكن يرد عليه: أن الأحكام العقلائية هي أعم مما تطابقت عليها آراء العقلاء حفظاً للنظام وإبقاءً للنوع ، لذا فتعريف هذا يكون تعريفاً بالأخص من جهات ثلاثة:  
الجهة الأولى : فلكونهما مندرجين تحت عنوانين كليين؛ كان ينبغي أن يجعلا هما المدار، وأما ((الحفظ ))  و ((الإبقاء)) فمصداقان أو نوعان لهما.
وتوضيحه :العنوانان الكليان هما جلب المنفعة أو دفع المفسدة، وأما عنوانا حفظ النظام  وإبقاء النوع فعائدان لأحدهما ؛ لأن العقلاء لا يحكمون بحفظ النظام لموضوعية فيه؛ بل إما جلباً للمنفعة أو دفعاً لمفسدة [28] ؛ و ((إبقاء النوع)) هو جلب منفعة ودفع مفسدة كذلك.
الجهة الثانية : فلأن التخصيص حتى بجلب منفعة أو دفع مفسدة لا وجه له ؛  لأنه -أي ما تطابقت عليه آراء العقلاء- قد يكون شكراً للنعمة ،  أو نظراً للاستحقاق.
والحاصل: أن المشهورات بالمعنى الأخص هي ما تطابقت عليها الآراء، إما لأجل جلب منفعة  أو دفع مفسدة  أو شكر نعمة أو الاستحقاق ، فمثلاً : إكرام المعلم مما حكم به العقلاء وتطابقت عليه آراؤهم من باب شكر النعمة  ، لا لصرف جلب المنفعة أو دفع المفسدة، وكذلك عبادة المولى وإطاعته وإكرام الوالدين، فهما إما شكراً للنعمة أو الاستحقاق، على سبيل منع الخلو، وإن تضمنا أيضاً جلب المنفعة ودفع المفسدة.
فهذه العناوين الأربعة هي التي تقع وراء المشهورات، وليس فقط ما ذكره من نوعي العنوانين الأولين.
الجهة الثالثة : فلأن ما تصادقت عليه آراء العقلاء حفظاً للنظام أو النوع-  مما تسمى بالتأديبات الصلاحية -  هي كما قال أحكام عقلائية ، لكنها لا تنحصر بها ؛  إذ تشمل أيضاً  القضايا المشهورة التي تطابقت عليها آراء العقلاء مما تقتضيه السجية [29]، فهذه أيضاً أحكام عقلائية لا واقع لها ؛ لكن حسب تعريف الأصفهاني يخرجها عن دائرة الأحكام العقلائية  مع أن الحق دخولها ، كما تشمل الأحكام العقلائية في القسم الثالث التي هي الانفعاليات ، وهو ما اقتضته العاطفة كالحياء والغيرة والحمية والأنفة، فهذه أيضاً أحكام عقلائية ولكن التعريف لا يشملها.
-------------

[1] قال في المنطق  ص 340 : المشهورات بالمعنى الأخص أو المشهورات الصرفة ، وهي أحق بصدق وصف الشهرة عليها ، لأنها القضايا التي لا عمدة لها في التصديق إلا الشهرة وعموم الاعتراف بها ، كحسن العدل وقبح الظلم  وكوجوب الذب عن الحرم ، واستهجان إيذاء الحيوان لا لغرض ، فلا واقع لهذه القضايا وراء تطابق الآراء عليها ، بل واقعها ذلك ، فلو خلي الإنسان وعقله المجرد وحسه ووهمه ولم تحصل له أسباب الشهرة الآتية ، فإنه لا يحصل له حكم بهذه القضايا ولا يقضي عقله أو حسه أو وهمه فيها بشيء .
وأما المشهورات بالمعنى الأعم فهي التي تطابقت على الاعتقاد بها آراء العقلاء كافة  وإن كان الذي يدعو إلى الاعتقاد بها كونها أولية ضرورية في حد نفسها ولها واقع وراء تطابق الآراء عليها، فتشمل المشهورات بالمعنى الأخص ، وتشمل مثل الأوليات والفطريات التي هي من قسم اليقينيات البديهية .  

[2] ومنها الفطريات والأوليات  .
[3] كالدور محال .
[4] وكذا نظائر العدل والظلم .
[5]  كالنوع ، والجنس ، والفصل ، والعرض بقسميه ، فهذه كلها عناوين لماهيات موجودة في الذهن ،  وليس لها وجودا في الخارج.
[6] لعدم صحة كلام العلامة المظفر في المنطق .
[7] كما قاله في المنطق .
[8] نهاية الدراية : ج1 ص 311 .
[9] وهي ما تطابقت عليها الآراء من أجل قضاء المصلحة العامة بها حفظاً للنظام وإبقاء للنوع.
[10] وهي ما تطابقت عليه اراء العقلاء من اجل قضاء الخلق الانساني بذلك.
[11] المنطق : ص341.
[12] إما بنحو العلية أو بنحو الاقتضاء على المبنيين.
[13] المنطق : ص341.
[14] بناءً على مبناه .
[15] وهذا هو ظاهر أوسط كلمات المظفر ؛ اذ أنه  ذكر أسباب الشهرة ؛  والأسباب  هي :  بقاء النوع وحفظ النظام  ، وهي أمور ثبوتية لها واقع وراء الشهرة ومع قطع النظر عن وجودها.
[16] أو ملازمة.
[17] و المقتضي.
[18]  أي نفى : أن يكون عنوان الموضوع علة تامة للحكم فقط.
[19] أي وُجد دفعة مميزاً ولم يمر بمرحلة الصغر .
[20] كالشرع .
[21] وأن بقاء النوع وحفظ النظام هو الذي أوجب الحكم على العدل بالحسن واللزوم.
[22] أي هل يترتب لوازم فاسدة من الحكم بالقبح على العدل ،  أو عدم الحكم عليه بالحسن.
[23] أي أن هذه القيود غير متحققة خارجاً لكن لو فرض تحققها  أمكنه الشك.
[24] لأن عنوان الموضوع ليس تمام العلة للحكم عليه فيحتاج إلى حجة .
[25] ومعنى هذا الكلام بطوله قد ذكره في كتاب الإشارات مع بعض  والفوائد الأخرى، و وافقه عليه شارح المحقق الطوسي ، انظر : الإشارات والتنبيهات : ج1 ص 221 .
[26] الشفاء المنطق : ص 66.
[27] نهاية الدراية في شرح الكفاية: ج2، ص31.
[28] ولذا لو كان حفظ النظام القائم  كبعض الأنظمة الجائرة الغاشمة الظالمة كسلطان يزيد والحجاج لزم هدمه والقضاء عليه، اللهم إلا أن يراد بالنظام، النظام العادل أو النظام الذي يهدم لا لمفسدة فيه غالبة أو لمصلحة أقوى مزاحمة، لكنه رجوع للأخص.
[29] أي الطبع وخلق الانسان  ، كحسن الكرم والشجاعة وما أشبه .

 


  • المصدر : http://www.m-alshirazi.com/subject.php?id=2732
  • تاريخ إضافة الموضوع : 13 شوال 1438هـ
  • تاريخ الطباعة : 2024 / 03 / 28