• الموقع : مؤسسة التقى الثقافية .
        • القسم : الفوائد والبحوث .
              • الموضوع : 185- مباحث الاصول (مبحث الاطلاق) (3) .

185- مباحث الاصول (مبحث الاطلاق) (3)


الفائدة الرابعة عشر : المشهور بأن إطلاق الحكم لا ينقح موضوعه وهذا غير تام ؛ لأن الحكم ينقح موضوعه في الجملة.
ومن القواعد العامة والمشهورة بينهم  :(( أن الحكم لا ينقّح موضوعه)) ، ولكن يمكن لنا أن لا نستند إلى الحكم في تنقيح الموضوع، وإنما نستند إلى إطلاق الحكم، وهنا فرق بين الأمرين، فتارة نقول: إن الوجوب هو الذي ينقح الموضوع، وتارة أخرى نقول: إن إطلاق هذا الوجوب هو الذي ينقح الموضوع، وفرق كبير بينهما، ونحن في استدلالنا لم نستند إلى أصل الوجوب، بل استندنا إلى إطلاق الحكم لتنقيح الموضوع.
وقد يجاب عن ذلك: بأن إطلاق الحكم هو من شؤون الحكم، وهذه كلها في مرتبة المحمول، وما هو كذلك لا ينقّح ما هو في مرتبة الموضوع، أي: أن الحكم بإطلاقه لا يمكنه أن ينقح الموضوع لتأخره رتبةً.
ولنا أن نقول: إن هذا المدعى ـ أي: أن الحكم لا ينقح موضوعه ـ غير تام، بل إنّ الحكم ينقح الموضوع في الجملة[1] ؛ والدليل على ذلك ما التزم به الأصوليون والفقهاء في مختلف أبواب الفقه، من تضييق دائرة الموضوع ببركة ملاحظة  نسبته إلى الحكم، مما عبروا عنه بمناسبات الحكم والموضوع، وهذه المناسبات كثيرة التداول في الكتب الفقهية، حيث يلتزمون لأجلها بالانصراف، أي: على الرغم من أن الموضوع عام وواسع، ولكن تعلق هذا الحكم بهذا الموضوع بما بينهما من مناسبة يصرفه من الأعم إلى الأخص، ومرجع ذلك إلى أن الحكم قد نقح موضوعه، إلا أنهم بينوه بعبارة أخرى، وهي مناسبات الحكم والموضوع، فتدبر[2].
ويوضحه:  أنّ المولى لو قال لعبده: (أطع العلماء) فإن العلماء عام وشامل لأهل الضلال منهم، ولكن يقال بانصراف (العلماء) عنهم بسبب مناسبات الحكم والموضوع ؛ فقد خصصت مناسبات الحكم والموضوع (العلماء) [3].
بحث تمريني : وفيه مثالان ، أحدهما لتضييق  الحكم ،  والآخر لتوسعته:
المثال الأول : أنّ المولى لو قال لعبده: (أطع العلماء) فإن العلماء عام وشامل لأهل الضلال منهم، ولكن يقال بانصراف (العلماء) عنهم بسبب مناسبات الحكم والموضوع، فقد خصصت مناسبات الحكم والموضوع (العلماء).
والحاصل: إنّ تعلق خصوص هذا الحكم ـ أطع ـ بالعلماء دليل على تضييق دائرة العلماء العامة إلى العلماء غير الضالين والمضلين، وهذا ناشئ من مناسبات الحكم والموضوع لا غير[4].
المثال الثاني: في قوله تعالى : (وَاجْتَنِبُوا قَوْلَ الزُّورِ )   يمكن لنا أن نقول : إن النهي عن قول الزور في الآية يكون أعم من كونه قولاً أو إشارةً ـ كما في الأخرس ـ أو كتابة أو ما أشبه ذلك، حيث إن (اجتنبوا) بإطلاقه يفيد توسيع دائرة (قول الزور)، مما ينتج أنّ المراد بقول الزور سيكون المعنى الاسم مصدري لا المصدري[5] ، وذلك أنّ العرف يرى أنّ (اجتنبوا) المنسوبة إلى قول الزور، ينبغي أن يكون الاجتناب فيها عن إيجاد قول الزور وكتابته، وعن الإشارة الزورية، وعن الحفظ بقصد الإضلال وعن غيرها، فاقتضت مناسبات الحكم والموضوع تعميم (قول الزور) بإرادة المعنى الاسم مصدري[6].

الفائدة الخامسة عشر :الشك في القدر المتيقن في مقام  الخطاب ليس مضراً  بالإطلاق ، وإنما  الذي يخل بالإطلاق  القدر المتيقن النابع من نفس الخطاب  .
عندما نسأل هل أن الشك في القدر المتيقن في مقام الخطاب  هو مضر بالإطلاق أم لا؟ ، ذهب الآخوند  إلى أنه مضر  [7]، في حين ذهب مشهور من تأخر عنه بأنه غير مضر[8] [9] .
بحث تمريني :
إذا قلنا : إن القدر المتيقن من حرمة الكذب هو غير التورية فهل هذا الكلام تام ؟ كلا ؛ لأنه ما من مطلق إلا وله قدر متيقن ؛ مما يؤدي اشتراط عدم وجود القدر المتيقن  إلى اسقاط كل المطلقات عن حجيتها ؛  ففي (وَأَحَلَّ اللهُ الْبَيْعَ)[10]   القدر المتيقن منه البيع المحلل هو ما كان باللفظ العربي وبالصيغة الماضية و ما سبق قول( بعتُ) على اشتريت  وغير ذلك , وكذلك لو قال المولى : أكرم العالم فإن القدر المتيقن هو العالم العامل الورع التقي وهكذا ، أي ان القدر المتيقن الخارجي هو أكمل المصاديق.
لذا ذهب الآخوند   إلى أن ما يخل بالإطلاق ليس صرف القدر المتيقن  ؛ إذ ما من شيء إلا وله قدر متيقن – وهو الفرد الأ كمل- , وإنما الذي يخلّ بالإطلاق هو القدر المتيقن في مقام التخاطب والخطاب  [11] ، وذلك أن القدر المتيقن تارة يكون من جهة متعلّق الخطاب, وتارة أخرى يكون من جهة الخطاب نفسه [12] , والذي يطرح عادة هو ما كان القدر المتيقن لمتعلق الخطاب وهذا هو الفرد الأكمل وهو الذي سبق انه لا يخلّ بالإطلاق , وأما القدر المتيقن الناشئ من مقام الخطاب والتخاطب ،  وهذا هو الذي قد يقال : إنه يقتضي صرف الكلام إلى حصة خاصة , وهو معقول لكونه يعطي وجها للكلام فينثلم به الإطلاق.
ويوضحه : ما ورد في موثقه  ابن بكير قال: سأل زرارة أبا عبد الله ( عليه السلام ) عن الصلاة في الثعالب والفنك، والسنجاب وغيره من الوبر ؟ فأخرج كتابا زعم أنه إملاء رسول الله ( صلى الله عليه وآله وسلم ): أن الصلاة في وبر كل شيء حرام أكله ،  فالصلاة في وبره وشعره وجلده وبوله وروثه وكل شيء منه فاسد، لا تقبل تلك الصلاة حتى يصلي في غيره مما أحل الله أكله ))[13] ، فـإن المقصود من (( كل شيء حرام اكله )) هو الحيوانات التي حرم أكل لحمها ، ولكن هل يشمل ذلك الإنسان أيضا ؟ فإن الإنسان حرام اللحم كذلك ؟
فهنا يقال : إن الدليل منصرف عن هذه الحصة ؛ لأن محرم اللحم من الحيوان  هو القدر المتيقن في مقام التخاطب  - وهو مورد الأنس الذهني للسامع والمتكلم - كما في السنور والكلب والقط وغيرها  ، لا الانسان .
والمتحصل : أن القدر المتيقن النابع من نفس الخطاب هو الذي له وجه وجيه للإخلال بالإطلاق .
وفي صغرى البحث - أي التورية - هل يمكن ان يتمسك بهذا الوجه ؟
فانه قد يقال : إن الإمام( عليه السلام ) عندما قال الكذب حرام مثلاً فإن القدر المتيقن في مقام التخاطب هو بيان المحرمات والرذائل الأخلاقية , ولا يعلم أن التورية منها؛  إذ الخلاف جارٍ فيها , وهذه قرينة في مقام التخاطب تفيد صرف الكذب الى غير التورية ،  فتدبر[14]،  وتأمل.

الفائدة السادسة عشر : أن الأحكام العقلية في الجملة لا إطلاق لها ، لأنها أدلة لبية .
إن الأحكام العقلية   -  في غير ما جزم العقل بالكلية [15] -  هي أدلة لُبية يقتصر
فيها على القدر المتيقن ولا إطلاق ولا عموم لها ، فإذا لحقه الحكم الشرعي اللفظي[16] كان كاشفاً عن حدود الحكم العقلي توسعة وتضيقاً .

الفائدة السابعة عشر : بناء العقلاء لا يخل بالإطلاق لكونه دليلاً لبياً ، فيقتصر فيه على القدر المتيقن .
بحث تمريني:
قد يتوهم أن وجود بناء للعقلاء على حسن أو وجوب التعاون يخل بالإطلاق اللفظي بأقسامه الثلاثة - وهي إطلاق الهيئة والمادة والمتعلق- لقوله تعالى (وَتَعَاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ)[17] -  نظراً لكون بناء العقلاء دليلاً لبياً لا عموم ولا إطلاق ولا معقد له فيقتصر على القدر المتيقن من حسن أو وجوب التعاون  ، ولو كان له عموم فإنه لا يتمسك في موارد الشك في شمول بناء العقلاء له بإطلاق (وَتَعَاوَنُوا) لأن (وَتَعَاوَنُوا)ناظر إليه ومشير له فلا إطلاق له .
وبعبارة أخرى : أن  (وَتَعَاوَنُوا) تقرير للبناء العقلائي وإمضاء له لا أكثر، فيقتصر على القدر المتيقن من ما علم بناء العقلاء عليه.
و فيه : إن وجود دليل لبي مجمل أو مبهم أو أخص لا يسقط المطلق عن إطلاقه ؛  ودعوى الناظرية وصرف التقرير دعوى بلا دليل ، وعلى ذلك بناء العقلاء وجرى عليه الفقهاء ،  وإلا لزم عدم صحة التمسك بـ (وَأَحَلَّ اللهُ الْبَيْعَ)[18]  وغيره  ؛ لوجود بناء للعقلاء على حلية البيع ودعوى كونه ناظراً له ومقرراً [19].

الفائدة الثامنة عشر : ينقسم الإطلاق إلى أحوالي وأزماني،  والأول ما تعلق بكل أحوال الفرد ، والثاني ما  تعلق بكل أطوار  الزمان.
بحث تمريني:  
في قوله تعالى : (وَالمُؤْمِنُونَ وَالمُؤْمِنَاتُ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ يَأْمُرُونَ بِالمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ المُنْكَرِ وَيُقِيمُونَ الصَّلَاةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَيُطِيعُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ أُولَئِكَ سَيَرْحَمُهُمُ اللَّهُ إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ  ) [20].
حيث يفهم من الآية المباركة أن لا تقاعد في الإسلام من حيث المسؤولية ؛ ويدل على ذلك الإطلاق الأحوالي والأزماني لولاية المؤمنين .
فمن ناحية الإطلاق الأحوالي :  فإن كل فرد في أية حالة من حالاته، سواء أكان وزيراً أم لم يكن ، وسواء أكان غنياً أم لم يكن، و في أية حالة من الحالات؛ لأن الآية لم تخصص، ولم تقل المؤمنون والمؤمنات في حالة كونهم أغنياء فقط، أو حالة كونهم منتسبين لهذا المنصب فقط، فهو إطلاق أحوالي في مختلف حالاته وأحواله، من قوة وضعف، وغنى وفقر، و علم وجهل، وهكذا.
وأما من ناحية الإطلاق الأزماني :  فإن الآية المبارك لم تحصر  هذه التكاليف والأحكام الوضعي[21] ، بزمان خاص، قبل التقاعد أو بعده، قبل سن الأربعين أو بعده، قبل سن التسعين أو بعده، قبل الوزارة او معها او بعدها، قبل رئاسة الشركة أو الدولة، أو المؤسسة ومعها وبعدها، قبل المرض او معه او بعده، وقبل الإفلاس او معه او بعده، وقبل الغنى او معه او بعده، وقبل القوة او معها او بعدها، وهكذا، فليس هناك تحديد من حيث الزمن، فالإطلاق الأزماني أيضاً محكَّم بدون ريب، فهذه هي القاعدة الثانية التي يمكن أن نستند اليها في تعميم المسؤولية[22].

------------------
[1] هذا هو مدعانا في مقابل القاعدة الأصولية الشهيرة.
[2] قد يقال: الحكم لم ينقح موضوعه، بل مناسبات الحكم والموضوع هي المنقحة ؟
والجواب: أن من يقول بمنقحّية الحكم لموضوعه لا يقول: إنَّ الحكم بما هو هو مجرداً عن تعلقه بموضوعه، ينقح موضوعه؛ إذ لا يعقل ذلك، بل يقول: إن هذا الحكم بلحاظ تعلقه بهذا الموضوع ينقحه ويوسعه أو يضيقه، وهذا يعني أن إذا كان الحكم منسوباً للموضوع يفيد تضييقه أو توسعته، على أن قبول هذا ـ المذكور في قد يقال ـ لا يضرنا؛ إذ المقصود في مبحثنا أن (اجتنبوا) المتعلق بـ(قول الزور) بمناسبات الحكم والموضوع يوسع دائرة قول الزور، فتدبر.

[3] حفظ كتب الضلال : ص144.
[4] ولو ثبت ذلك فلعل الكثير من البحوث سيتغير وضعها صناعياً.
نعم، إن جري الفقهاء العملي هو على خلاف تلك القاعدة (الحكم لا ينقح موضوعه).
والحاصل: أن ما أطلقه الأصوليون في البحث الأصولي لم يكن على إطلاقه، فتأمل.

[5] حيث إن المعنى الاسم مصدري هو الأعم فائدة والأكثر نفعاً من إرادة المعنى المصدري، فلو كان القصد من آية {وَاجْتَنِبُوا قَوْلَ الزُّورِ} المعنى المصدري، أي: اجتنبوا أن تقولوا زوراً، فهنا يكون الكلام ذا فائدة واحدة، وهي وجوب الاجتناب عن قول الباطل والشرك، أي: حرمة التلفظ بهذه الكلمات فقط.
وأما لو كان المراد المعنى الاسم مصدري فإنّ الفوائد المترتبة على ذلك تكون متعددة ومتنوعة، إذ يكون المعنى المراد هو وجوب اجتناب إيجاد كلمة الشرك، وكذا المحافظة عليها، وكذا الاجتناب عن الكتب التي تتضمنها، وعن الاستماع لها من غير رد، واجتناب الدفاع عن مروّجيها كذلك، وهكذا. ( من متن كتاب : حفظ كتب الضلال : ص 143 .

[6]   حفظ كتب الضلال : ص 146 .
[7] انظر: كفاية الأصول: 247.
[8] انظر: مصباح الأصول : ج3 ص  281  .
[9]  الاجتهاد والتقليد : ص 446.
[10] سورة البقرة : 275.
[11] وهذا دقيق ، وهنا نشير إليه إشارة فقط ، وهو بحث سيال وعام الفائدة ، فتنبه.
[12] وهذا تعبير دقيق يؤطّر ويبين مراد الآخوند.
[13] وسائل الشيعة :ج4ص345.
[14] - وهذا الكلام هو طرح مبدئي للتخلص من الحرمة .
[15] وهذا استثناء ؛ لأن ما حكم به  العقل - من هذا القبيل -  نتيجته لا تختص بشخص دون آخر ، ولا بحال دون حال ، كما لو قلنا : 4 + 4 = 8  ، ولتوضيح  هذا الأمر المهم  ، نذكر ما سطره صاحب مفاتيح الأصول قدس سره  ص  486 بهذا الخصوص ، حيث قال  :  إن  الكليات العقلية على قسمين كالكليات  اللَّفظية  :
أحدهما :  ما يكون الحكم فيه معلَّقا على جميع الجزئيات على وجه الإطلاق من غير تقييد بقيد مخصوص من القيود المتعارفة  ، كالشرط و الصفة و الغاية و نحوها ،  و هذه نسميها بالكليات المتنجزة  ، وهذه هي الَّتي لا تقبل التخصيص و إخراج بعض الجزئيات عنها .
و ثانيهما : ما يكون الحكم فيه معلقا على جميع الجزئيات لكن لا مطلقا ،  بل بانضمام قيد و اعتباره من شرط أو صفة أو غاية أو نحوها ، كما في قولك  : كل كذب قبيح  ، و كل صدق حسن ،  فإن الكلَّيتين مشروطتان بشرط  ، أمّا الأولى :  فبعدم ظهور مصلحة و ضرورة ، و أمّا الثانية :  فبعدم ظهور مفسدة ؛  و لذا يصحّ أن يقال :  كل كذب قبيح إلا ما يكون تركه موجبا للهلاك  ، و كلّ صدق حسن إلا ما كان موجبا للهلاك ، و مثل هذه الكلية في العقليات كثيرة و نسميها بالكليات التعليقية ،  و من الظاهر أن خروج بعض الجزئيات منها ليس من باب التخصيص و الخروج الواقعي  ، بل من باب اختلاف الموضوع و تغييره باعتبار وجود الشّرط و عدمه ،  فلا يلزم هنا الأمر المحال و هو تخصيص الدّليل العقلي و ذلك واضح في الغاية .

[16] وهو عام أو خاص.
[17]  سورة المائدة : 2.
[18] سورة البقرة : 275.
[19] فقه التعاون على البر والتقوى : ص 95.
[20] سورة التوبة : 71.
[21] فإن (ولي) هنا حكم وضعي، ووجوب الأمر والنهي حكم تكليفي. ( منه دام ظله ).
[22] معالم المجتمع المدني : 152.


  • المصدر : http://www.m-alshirazi.com/subject.php?id=2741
  • تاريخ إضافة الموضوع : ٢٧ شوال ١٤٣٨هـ
  • تاريخ الطباعة : 2024 / 03 / 28