• الموقع : مؤسسة التقى الثقافية .
        • القسم : الفوائد والبحوث .
              • الموضوع : 274- مباحث الأصول: (الموضوعات المستنبطة) (4) .

274- مباحث الأصول: (الموضوعات المستنبطة) (4)

مباحث الأصول: (الموضوعات المستنبطة)

جمع واعداد: الشيخ عطاء شاهين*

الفائدة السابعة:  بما أن  البحث عن الموضوع المستنبط   يُعد  من مصاديق التفقه في الدين  يمكن أن يقال بوجوب التقليد فيه ؛ حيث إن سيرة المتشرعة جارية الرجوع إلى الفقهاء في تحديد موضوعه ؛ وكذا عدم نفي بناء العقلاء بالرجوع لأهل الخبرة فيه ؛ ولأن كثير من العناوين الواردة  في الروايات تنطبق عليه؛ لذا يشمله قوله عليه السلام : (أفت الناس) و(فتفتي الناس) و(من أفتى) و(فتياه) في تحديد وتشخيص معنى الموضوعات كالوطن و الغناء والكعب والصعيد والقرء وغيرها؛ وعليه يكون قول الفقيه بما هو فقيه حجة على المقلد ؛ حيث إن أدلة التقليد لغة  تشمله أيضاً .
يمكن يقال بجريان التقليد في الموضوع المستنبط مطلقاً لعدة أدلة  انتصاراً مبنائياً [1]:

أولاً: أن تنقيح الوطن و الغناء و الآنية و الصعيد وشبهها - بلحاظ إرادة تحديد حكم المسافر الشاك في كون هذا وطناً، وجواز التيمم بمطلق وجه الأرض أو خصوص التراب، وجواز الشرب من هذه الآنية  المشكوكة[2] الذهبية، وحرمة سماع مطلق الترجيع المطرب وإن لم يصدق عليه الغناء عرفاً مثلاً - يُعد مصداقاً لقوله تعالى ﴿ليتفقهوا في الدين﴾[3]؛ ألا ترى أننا لو وجدنا فقيهاً مشغولاً بتحقيق تلك الموضوعات بأقسامها الثلاثة[4] بلحاظ إرادة معرفة أحكامها وبيانها للناس نقول إنه مشغول بالتفقه في الدين وبمسألة فقهية مبتلى بها؟ وكذلك حال قوله تعالى: ﴿فَاسْأَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ﴾[5].
كما أن سيرة المتشرعة على الرجوع للفقهاء في تحديد الموضوع المستنبط، إلا أن يقال إنها لا لسان لها فلعلها من باب أنهم أهل الخبرة[6]، وقد ناقشنا ذلك في موضع آخر.
وأما بناء العقلاء فإن انعقاده على الرجوع لأهل الخبرة في (المستنبط) غير نافٍ لصحة التقليد فيه فإنه دليل لبّي، ولو تمّت إطلاقات الأدلة النقلية لكانت هي المرجع لا للحكومة إذ لا تعارض حتى بدوياً.

ثانياً: أن عدداً من العناوين المأخوذة في الروايات مما ينطبق على (الموضوع المستنبط)، وذلك كـ(العالم) و(الفقيه) وغيرها:
فمنها: الروايات الواردة فيها لفظة (الفتوى) أو أحد مشتقاتها، كقول الإمام الباقر عليه سلام الله لعطية الكوفي: (أجلس في مسجد المدينة وأفت الناس فإني أحب أن يرى في شيعتي مثلك)[7].
وصحيحة معاذ بن مسلم النحوي عن الإمام الصادق عليه السلام : (بلغني أنك تقعد في الجامع فتفتي الناس؟ قلت نعم...)[8].
وصحيحة أبي عبيدة عن أبي جعفر عليه السلام : (من أفتى الناس بغير علم ولا هدى من الله، لعنته ملائكة الرحمة وملائكة العذاب، ولحقه وزر مَن عمل بفتياه)[9].
ومن البين أن (أفت الناس) و(فتفتي الناس) و(من أفتى) و(فتياه)، يشمل من أفتى الناس في معنى الوطن و الغناء وحدودهما، والكعب والصعيد والقرء وغيرها.
لكن قد يقال: إن الفتوى كما لا تشمل الموضوع الصرف أي اللغوي والعرفي المحض[10]؛ فإنها منصرفة عن المستنبط العرفي[11] أو اللغوي[12] المحضين مما لم يحدده الشرع، وفيه تأمل، وقد بحثنا ذلك في موضع آخر.
إضافة إلى أن ورود تلك الألفاظ في الآيات والروايات كقوله تعالى: ﴿فتيمموا صعيداً طيباً﴾[13] و﴿إلى الكعبين﴾[14] و﴿ثلاثة قروء﴾[15] وغيرها، مما يساعد على صدق كون المجتهد في معانيها ـ أو في حدودها ـ بما أنها ألفاظ أخذت في الكتاب والسنة موضوعاً للأحكام أو متعلَّقاً لها عالماً وفقيهاً ومفتياً، والآخذ عنه مقلداً.

ثالثاً: وكذلك تنطبق روايات التقليد على من اتبع المجتهد في تشخيص وتحديد معنى الموضوع المستنبط بلحاظ إرادته ترتيب أحكامه عليه، بل يصدق التقليد عليه مطلقاً لغةً؛ لما ذكرناه في موضعه من أعمية معنى التقليد لغة؛ فإن من تبع غيره في تحديده معنى الوطن أو الصعيد يطلق عليه أنه قلده في ذلك، ويقال لمن حقق معناه أنه مجتهد فيه.
وبعبارة أخرى: يقال لأحدهما أنه اجتهد في معنى هذه الكلمة وللآخر أنه قلده في معناها، وأما حكمه شرعاً فليس صرف الالتزام القلبي بالمعنى استناداً إليه محرماً بل العمل عن استناد.
نعم رواية الاحتجاج ظاهرة في العمل والإتباع، فقد جاء في تفسير الإمام العسكري عليه السلام: (وكذلك عوام أمتنا إذا عرفوا من فقهائهم الفسق الظاهر والعصبية الشديدة والتكالب على حطام الدنيا وحرامها ... فمن قلد من عوامنا مثل هؤلاء الفقهاء فهم مثل اليهود الذين ذمهم الله بالتقليد لفسقة فقهائهم.. فأما من كان من الفقهاء صائناً لنفسه حافظاً لدينه مخالفاً على هواه، مطيعاً لأمر مولاه، فللعوام أن يقلدوه)[16].
فإن من قلد مجتهداً فاسقاً في معنى الغناء في قوله مثلاً (بأن الغناء أنه خصوص ما كان مضمونه باطلاً وأما ما كان مضمونه حقاً فهو ليس بغناء وإن كان غناءً عرفاً) فاستمع للأغاني ـ وإن كانت قرآناً ـ فإنه يصدق عليه قوله عليه السلام : (فمن قلد من عوامنا مثل هؤلاء الفقهاء..).
وقد أشار السيد العم دام ظله إلى بعض وجوه تصحيح هذا التفسير، ومنها كلام الصدوق في من لا يحضره الفقيه حيث قال: (إنه حجة فيما بيني وبين ربي... وجميع ما فيه مستخرج من كتب مشهورة، عليها المعول وإليها المرجع) فراجع تمام كلامه في بيان الفقه[17].
نعم ، قد يقال إن بعض الروايات لا تنطبق على الموضوع المستنبط كـرواية الحسن بن علي بن يقطين عن الإمام الرضا عليه السلام :قال : قلت: لا أكاد أصل إليك أسألك عن كل ما احتاج إليه من معالم ديني أفيونس بن عبد الرحمن ثقة آخذ عنه ما أحتاج إليه من معالم ديني؟ فقال: نعم [18].
فإن تشخيص مثل الوطن والآنية والغناء مما لا يصدق عليه (معالم ديني) لكنه غير ضار بعد شمول غيرها للمستنبط، كما سبق.
فظهر بذلك أن المرجعية في الموضوع المستنبط هي للفقيه بما هو فقيه، فقوله فيه حجة على المقلد، فإذا كان موضوع الأصول هو (الأدلة الأربعة بذواتها)[19] فهي مسألة أصولية، لكون الحجية من العوارض الذاتية لذوات الأدلة الأربعة، فهي كمسألة خبر الواحد حجة ونظائرها؛ بلحاظ تعميم السنة للحاكي عنها  كما ذكره الشيخ .
بل حتى لو قلنا بأن موضوع الأصول هو (الأدلة الأربعة بوصف الدليلية) [20] أو (الحجة في الفقه)[21] أو بقيد (المشتركة القريبة)[22] فإنها مسألة أصوليةلما حققناه سابقاً[23] من عدم اشتراط كون العرض ذاتياً لموضوع علم الأصول [24].
نعم، على رأي المشهور في العرض الذاتي فإن حجية رأي الفقيه للمقلد في المستنبط يعد من المبادئ التصديقية لعلم الأصول ، هذا عن الحجية لرأيه فيه.
وأما عن الموضوع المستنبط فإنه متعلَّق لأدلة الأصولي  -كالحكم - فهو من المبادئ التصورية والتصديقية.
بل لو قلنا بالرجوع إليه فيه بما هو من أهل الخبرة [25] فإنه لا يضر بلزوم إضافة الموضوع المستنبط إلى علم الأصول باعتباره من (المبادئ)، وإلى مطلَعِهِ وما هو كالعنوان له بأن يقال: (أعلم أن المكلف إذا التفت إلى حكم شرعي أو موضوع مستنبط)؛ فإن الحجة عندئذ تكون قول أهل الخبرة لا خصوص قول الفقيه، فلا يكون هناك فرق من حيث البحث عن الحجة  ولا من حيث كونه متعلقاً لأدلة الأصولي.
وليس صحة التقليد في (الدليل) أو (المتعلق) شرطاً في كون المسألة أصولية؛ فإن الاستصحاب في الموضوعات مسألة أصولية مع عدم جريان التقليد في متعلَّقه ـ وهو الموضوع ـ حسب المشهور، كما أنه لا يجوز التقليد في أصول الدين ولا يصح في متعلق القطع[26] - أي ليس رأي الفقيه حجة على  العامي  فيما قطع به ، وإن فصلّنا بين صور ذلك في كتاب القطع[27] - مع أن الأولى مسألة عقدية[28] والثانية مسألة أصولية، وكذا[29] لو قيل بعدم صحة تقليد المجتهد لغيره في المسألة الأصولية[30] فكذلك الموضوع المستنبط، فتأمل.
وقد ظهر بما سبق أنه لا تهافت بين ذلك المبنى[31] وبين الالتزام بضرورة إضافة الموضوع المستنبط كما صنع السيد الوالد في الوصائل إلى الرسائل؛ وذلك لأنه بما هو (مكلف) عليه أن يجتهد أو يقلد ـ بمعنييهما اللغويين ـ فيه  بلحاظ ما يترتب عليه من الحكم، وأنه إما أن يحصل له فيه القطع أو الظن أو الشك ؛ أما قطعه فهو حجة ذاتية فيه على مبناهم ، وأما ظنه فهو إما معتبر كما إذا قامت عليه البينة ، لو قلنا بالحاجة لها بدعوى أنه من باب الحس ؛ أو أخبر به الثقة لو قلنا بكفايته لأنه من باب الحدس كما هو الظاهر ، وأما  أو غير معتبر كما إذا حصل من القياس مثلاً ، وأما شكه فإنه لو كانت له حالة سابقة وقد لوحظت فإنها تستصحب، كاستصحاب كونه وطناً بعد تركه لسنين دون إعراض، وهكذا.
كما أن دليلي الغاية من علم الأصول و موضوعه جاريان أيضاً كما أوضحناه؛ فظهر بذلك أنه لا يضر بالمقصود ولا يختلف الحال بين ما لو قلنا بعدم إمكان التقليد في ذات الموضوع المستنبط وبين ما لو قلنا بإمكانه، وسواء قلنا بعدم وجوب التقليد فيه ـ بعد تسليم إمكانه ـ أم لا؟وقد ذكرنا بعض تفصيل الحديث حول الموضوع المستنبط، والأخذ والرد فيه، مع ذكر المختار في فقه التعاون على البر والتقوى.
وإذا تم ما ذكر في (الموضوع المستنبط) تم بحذافيره في (مبادئ الاستنباط) كعلم الرجال والعلوم الأدبية واللغة فيما بُحث عنه بلحاظ استنباط الحكم الشرعي منه، وقد أوضحنا في فقه التعاون[32] عدم وجه للتفريق بين مبادئ الاستنباط وبين الموضوع المستنبط كما ذهب إليه في التنقيح، حيث أوجب التقليد في المستنبط ومنعه في مبادئ الاستنباط [33].
 
الفائدة الثامنة:  ينبغي وجود لجنة من أهل الخبرة مهمتها تشخيص الموضوعات المستنبطة ثم عرضها عليه ليصدر رأيه فيها؛ وذلك لضيق وقت الفقيه باستنباط  الأحكام الشريعة وبيانها للناس.
هناك ألاف المسائل في الموضوعات الصرفة والفقيه قد لا يسع وقته لبيانها وإعطاء رأيه فيها , إذ أن استنباط  الأحكام فقط قد يستوعب العمر كله , فينبغي أن تكون هناك لجنة من أهل الخبرة مهمتها تشخيص الموضوعات , ثم تعرض ما توصلت اليه على الفقيه , وعلى ضوء ذلك يصدر رأيه فيها من خلال رسالته العملية أو على موقعه على الشبكة العنكبوتية أو غير ذلك ؛ لأن البحث عن حدود عرفات مثلا هو مصداق من مصاديق قوله تعالى: (لِيَتَفَقَّهُوا فِي الدِّينِ وَلِيُنْذِرُوا قَوْمَهُمْ إِذَا رَجَعُوا إِلَيْهِمْ)[34].
وكذلك هو الحال في البحث عن حدود منى حيث يجب المبيت والذبح فيها ؛ وكذلك  البحث هو الحال عن حدود الحائر الحسيني الشريف , فإن الفقهاء قد أعطوا الحكم الشرعي فيه ,فمنهم من ذهب إلى أنه خمسة وعشرون ذراعا عن الضريح المطهر, وآخر ذهب إلى أنه أربعة وعشرون ذراعا6, وثالث ذهب إلى أنه عشر خطوات 7, ورابع ذهب إلى أنه كل أرض كربلاء المقدسة 8؛ فهنا تشخيص الموضوع خارجا وقياس المسافة وبيانها للناس يعتبر من التفقه في الدين  وليس هو تفقهاً في الجغرافيا أو الهندسة وما أشبه؛ لأن المسائل تتلون بلون الغايات وأن الأغراض هي التي تحدد ماهية المسالة ونوعها[35] .


الفائدة التاسعة: أن أدلة وجوب التقليد في الموضوع المستنبط بعينها تجري في الموضوع الصرف؛ حيث إن الشك في الموضوع هو عينه كالشك في الحكم ؛ ولإطلاقات أدلة التقليد  بالرجوع للفقيه في كثير من الموضوعات؛ حيث إنها كالأحكام في كل ما يترتب عليه الحكم الشرعي ؛ فإنها موضوعات لمسائل الفقه ومتعلقات موضوع الأصول ؛ ولأنها من مجاري الأصول عند الشك فيها ؛ لذا فالأولى إضافة أو (موضوع صرف) لكلام الشيخ لحالات المكلف في الحكم الشرعي ؛ وذلك لترتب أحكام شرعية كثيرة على تلك الموضوعات؛  فلابد أن يُلزم بها المكلف وتقام  الحجة بها عليه ؛ بالإضافة ولشمولها لحالات المكلف الثلاث تجاه الحكم الشرعي.
قد يقال إنه ينبغي إضافة أو (موضوع صرف)لا مطلقاً بلحاظ ترتيب أحكامه الشرعية عليه، أي لإلزام المكلف بها وترتيب سائر الآثار إذ ثبت تحقق موضوعها فيه، أو لإقامة  الحجة عليها لإلزامه مآلاً بها، والأول هو همّ الفقيه، والثاني هو همّ الأصولي، وذلك كالميقات أو حدود عرفات والمشعر والحائر[36]،أو كونها أختاً رضاعية أم لا ، للشك في الموضوع الخارجي لا للشبهة الحكمية من جهة عدد الرضعات المحرمة مثلاً، ومثل كون هذه زوجته أم لا؟ و كون هذا ماء أو خمراً؟
وكل ذلك لطرو الحالات الثلاثة للمكلف إذا التفت إليها، حيث إن المكلف إما أن يحصل له القطع أو الظن أو الشك [37] وترتب الآثار الشرعية عليها وكونها موضوعات مسائل الفقه ومتعلقات موضوع الأصول، ولجريان الأبحاث الأصولية فيها وترتب أحكامها عليها، فإن القطع فيها حجة ذاتية، أو (العلم) ـ على ما صرنا إليه ـ وهو كاشف أو منجز، أو لازم الإتباع، أو مما يقع أوسط، أو مما يحتج به المولى على عبده ـ بلحاظ الحاكم ـ وبالعكس؛ حسب المباني المختلفة في الحجية ،والأمارات فيها منجزة أو معذرة أو كواشف متمَّمة الكاشفية إلى غير ذلك، وكذلك كونها مجاري الأصول عند الشك، فلو شك أنه لا يزال خمراً أو انقلب خلاً استصحب الخمرية فحرم عليه شربه، وكذا لو شك في بقاء عدالة من يقلده أو شك في تغير مبانيه أو فتاواه  سواء قلنا بالاستصحاب قبل الفحص أو بعده لو بقي شاكاً، ولو شك أنها أخته من الرضاعة وجب الفحص ثم إجراء الأصل، ولو شك في أن أيهما الميقات احتاط، وإن لم يقدر على الجمع تخيّر ، وكذا لو شك أن أيهما الأعلم أو أيهما المجتهد في صورة الدوران بين التعيين والتخيير.
نعم، لا مجال لإجراء أصالة البراء في الموضوع ، فتأمل.
والحاصل: أن الموضوع الصرف لكل ذلك يعد من المبادئ التصورية[38] والتصديقية للعلمين؛ فإنه مبدأ تصوري وتصديقي من تعيّنات موضوع علم الفقه، وهو المتعلَّق لموضوع علم الأصول؛ فإنه (الحجة القريبة المشتركة في الفقه) على الحكم الشرعي وعلى الموضوع ذي الحكم.
هذا كله، إضافة إلى جريان التقليد في الموضوع الصرف وسنشير لبعض أدلة جريان التقليد فيها، بعد قليل بإذن الله تعالى.
وقد أطلق السيد الوالد قدس سره  في حاشية العروة قوله : (لا يبعد جريان التقليد فيها وفيما ذكر بعدها)[39].
والمقصود بـ(فيها) هي مسائل أصول الفقه، و بـ(ما ذكر بعدها): ثلاثة أمور هي مبادئ الاستنباط و الموضوعات المستنبطة العرفية أو اللغوية و الموضوعات الصرفة.
والظاهر أن فتواه هذه عدول عما ذهب إليه في الفقه: من عدم جريان التقليد في المستنبطة و الصرفة ، ولعل فتواه هذه هي الأوفق بمبانيه، كما أنها المتأخرة.
ثم إن معنى الالتزام بجريان التقليد[40] فيها هو أن الشارع قد جعل أو أمضى التقليد كطريق لتحديد الموضوع ذي الحكم الشرعي، وعليه تكون الأمور التالية من الطرق الشرعية والعقلائية لمعرفة الموضوع وتحديده:

الأمر الأول: تقليد مرجع التقليد.
الأمر الثاني: قول أهل الخبرة؛ فإن قول الواحد منهم حجة في أمور :

أولاً:  كونه حجة الحدسيات ؛ حيث إن كثيراً منها موضوعات كما في تشخيص الطبيب كون الصوم بحيث يضر بهذا المريض، فإن الضرر  حدسي، وكما في تشخيص الرجالي عدالة أو وثاقة راوٍ  فإنها حدسية[41] وإن كانت أكثر علائمها حسية.
ثانياً: كونه حجة في الحسيات؛ وذلك بناءً على شمول أدلة حجية خبر الثقة وخبر الواحد للحسيات أيضاً؛ لبناء العقلاء فيها كالحدسيات.
ثالثاً: كونه حجة في الشهادة؛ وذلك  بناء على الحاجة لها في الحسيات دون الحدسيات  كما ذهب إليه في المصباح[42] .
هذا إضافة[43] إلى حجية تشخيص الشخص نفسه لو كان من أهل الخبرة فيما يحتاج إليها بدرجاتها.
ولم يرد من الشارع دليل على تعيّن الأول أو الرابع أو أحد الأوسطين  في تشخيص موضوعات أحكامه وحينئذ يكون ومقتضاه التخيير[44]، فالتقليد فيها جائز وواجب وجوباً تخييرياً  لكونها بأجمعها طرقاً عقلائية.
لا يقال: إن الطريق الأول من مصاديق الثاني مع تصرف من الشارع في خصوصياته في خصوص ما أوصل منه إلى أحكامه، وعليه فلا وجه لإفراده بالذكر؛ ثم إن حجية قول المقلَّد هي من باب كونه أهل خبرة بأحكام الشارع[45] غاية الأمر أن الشارع أضاف قيوداً في الرجوع إليه في الأحكام، وعلى هذا فحيث لم يرجعنا في الموضوعات إليه دلّ على كون المرجع فيها الطرق العقلائية بذاتها دون تصرف فيها بإضافة قيود العدالة وغيرها.
إذ يقال: أولاً: حيث كانت الموضوعات موضوعات لأحكام الشرع وجب في العقل أخذ الطريق إليها منه، مع احتمال كون طريقه هو واجد الخصوصيات الزائدة على الطريق العقلائي احتياطاً ليحرز الوصول إلى مراده، ولا مجال للبراءة بدونه، فتأمل[46].
ثانياً: بل الدليل قد دل على إرجاعه في الموضوعات إلى المجتهد الجامع للشرائط؛ وذلك بناء على القول بشمول أدلة التقليد للموضوعات كالأحكام في كل ما أريد ترتيب الحكم عليه، وقد حررناه في موضع آخر، كما أشرنا إلى نظيره الجاري في المقام مع بعض التصرف[47]في كتاب (الأوامر المولوية والإرشادية)[48] كما ستأتي الإشارة إلى ذلك بعد قليل.
وعلى أي حال فإن الدليل إثباتاً هو أن الأدلة التي ذكرت في الموضوع المستنبط بعينها تجري في المقام .
ومنها: لأن الشك فيه بعينه الشك في الأحكام كما عن التنقيح مستدلاً لجريان التقليد في المستنبط وإن ناقشنا فيه عند التطرق لذلك.
ومنها: لاستتباعه الشك فيها[49] كما ذكره المحقق النائيني قدس سره وغيره.
ومنها: لشمول الإطلاقات مثل قوله تعالى : ﴿ليتفقهوا﴾[50] وقوله تعالى: ﴿ْفَاسْأَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ﴾[51] وغيرها، إذا كان التفقه والسؤال بلحاظ الحكم فإن من انشغل باكتشاف حدود عرفات ومنى والمشعر مثلاً يصدق عليه عرفاً أنه مشغول بالتفقه في الدين، وكذا السائل عنها يصدق أنه سائل من أهل الذكر.
وكذا شمول مثل قوله عليه السلام  (أما الحوادث الواقعة)[52] لمثل (الخاويار) وإنه ذو فلس أو لا؟ ولمثل ما لو تردد بين كون هذا (السائل) فقاعاً أو ماء شعير طبي؟، فتأمل[53].
وقد يستدل بالسيرة أيضاً؛ فإنها على الرجوع للفقيه في الكثير من الموضوعات بما هو فقيه عادل لا بما هو أهل الخبرة ،فتأمل[54].
وقد يفرق بين الصِّرف الذي لا إبهام فيه أصلاً ككونه ماءً أو بولاً، وبين غيره ككونه ماء شعير طبي أم لا؟ أو بين ما يعرفه عامة الناس وبين غيره كالمياه الزاجية والكبريتية، أو كونه مطلقاً أو مضافاً كماء الطين بلحاظ انصراف أدلة التقليد عن الأولين[55] وكونهما المسلم من معقد الإجماع ـ على فرضه ـ على عدم التقليد في الصِّرفة.
بل قد يقال: إن الإجماع ـ إن كان ـ فهو على عدم وجوب التقليد في الصرفة لا على عدم الجواز ، فتأمل[56].


--------------

* هذه المباحث الاصولية تجميع لما طرحه سماحة السيد في مختلف كتبه وبحوثه، قام باعدادها وجمعها و ترتيبها مشكوراً فضيلة الشيخ عطاء شاهين وفقه الله تعالى
[1] لمن يرى جريان التقليد فيه.
[2] أي المشكوك صدق (الآنية) عليها.
[3] سورة التوبة: 122.
[4] أي المستنبط الشرعي والعرفي واللغوي.
[5] سورة النحل: 43.
[6] لكن الظاهر من حال المتشرعة أنهم يرجعون للفقيه بما هو فقيه.
[7] رجال النجاشي: ص10.
[8] وسائل الشيعة: ج27 ص148 الباب 11 من أبواب صفات القاضي ح36.
[9] وسائل الشيعة: ج27 ص20 الباب 4 من أبواب صفات القاضي ح1.
[10] كالماء والخمر.
[11] كالغناء والوطن.
[12] كالصعيد والقرء.
[13] سورة النساء: 43.
[14] سورة المائدة: 6.
[15] سورة البقرة: 228.
[16] الاحتجاج: ج2 ص263.
[17] بيان الفقه: ج1 ص56-57.
[18] وسائل الشيعة: ج27، ص147، الباب 11 من أبواب صفات القاضي، ح33.
[19] كما هو رأي صاحب الفصول.
[20] كما ذهب إليه صاحب القوانين.
[21] كما ذهب إليه السيد البروجردي.
[22] كما صرنا إليه.
[23] في المبحث الأول.
[24] وأن البحث عن (تعيُّنات) موضوع العلم، بحث عن مسألة من مسائل ذلك العلم أيضاً، ولو بتعميم العرض الذاتي للعوارض التحليلية، وقد سبقت وجوه أخرى أيضاً.
[25] كما ذهب إليه صاحب العروة والوالد وآخرون .
[26] أي المقطوع به.
[27] على حسب معاني (الحجية) مع التفريق بين (العلم) ومطلق (القطع).
[28] لا ترتبط بأصول الفقه.
[29] اللف والنشر مشوش كما لا يخفى.
[30] كالتزامه بحجية الظواهر أو خبر الواحد تقليداً.
[31] أي مبنى عدم جريان التقليد في الموضوعات المستنبطة كلها، أو بعضها، كما ذهب إلى التفصيل السيد الوالد قدس سره في الاجتهاد والتقليد.
[32] فقه التعاون على البر والتقوى: ص400.
[33] المبادئ التصورية والتصديقية : ص 92.
[34] سورة التوبة : 122.
[35] دروس في التفسير والتدبر:  الدرس 126.
[36] فتأمل ؛ إذ قد يكون بعضها من (الموضوعات المستنبطة) على حسب بعض التعاريف الثلاثة للمستنبط، وقد أشرنا له في موضع آخر، وفصلناه في كتاب : فقه التعاون على البر والتقوى.
[37] والوهم أيضاً كما أسلفنا.
[38] مبدأ تصوري، فيما لو قصد بيان مفهومه وتحديد فرقه عن (المستنبط).
[39] العروة  الوثقى المحشاة بحواشي خمسة من المراجع: ص23، المسألة 67.
[40] سواء عرّفنا التقليد بأنه( الالتزام بالعمل بقول الغير)  مع قيد الأخذ أو العمل أو بدونهما، أم عرّفناه بأنه( الاستناد في العمل له) أم عرّفناه بأنه ( العمل عن استناد).
[41] بناء على أن العدالة هي (ملكة إجتناب المعاصي) أما لو قلنا بأنها صرف الإستقامة على جادة الشرع فإنها حسية، فتأمل.
[42] مصباح الأصول: ج2 ص131.
[43] وهذا هو الطريق الرابع.
[44] تخييراً عقلياً وعقلائياً.
[45] أي كونه أهل الذكر وفقيهاً.
[46] حررنا تفصيل الأخذ والرد في ذلك في (فقه التعاون على البر والتقوى) ، على كلا تقديري احتمال كون الطريق الشرعي أقرب للإصابة، من غيره، واحتمال المصلحة السلوكية، ومنها: أن نفس عدم إرجاع الشارع للمجتهد العادل في الموضوعات، مع وجود الطريق العقلائي العام، دليل على ارتضائه لطريقهم، فلا مجال للاحتياط؛ فإنه في أمثال العنوان والمحصل وما أشبه، فتأمل.
[47] بوضع (الموضوع الصرف) موضع (الأوامر الإرشادية) مع بعض التصرف أيضاً في الاستدلال.
[48] (مباحث الأصول) كتاب (الأوامر المولوية والإرشادية): ج1ص571 – 598.
[49] أي الأحكام.
[50] سورة التوبة: 122.
[51] سورة النحل: 43.
[52] كمال الدين وإتمام النعمة: ص484.
[53] إذ قد يقال: لا تصدق تلك العناوين، على الموضوع الصرف، وما ذكر من الأمثلة، ليست موضوعات صرفة.
وقد يجاب: بصدق تلك العناوين أو بعضها على الصرف أيضاً، مادام البحث عنه بما يقصد ويراد منه، من ترتيب الحكم الشرعي عليه.

[54] إذ السيرة لا لسان لها، ولا يعلم كونها للفقيه بما هو فقيه، ولو فرض كون رجوع البعض للفقيه في الموضوع بما هو فقيه، لكن من أين يعلم أن رجوع كل من يرجع كذلك؟
[55] أي الصرف الذي لا إبهام فيه أصلاً، وما يعرفه عامة الناس.
[56] الأوامر المولوية والإرشادية : ص 347.


  • المصدر : http://www.m-alshirazi.com/subject.php?id=3138
  • تاريخ إضافة الموضوع : 6 شعبان 1439هـ
  • تاريخ الطباعة : 2024 / 03 / 28