• الموقع : مؤسسة التقى الثقافية .
        • القسم : الفوائد والبحوث .
              • الموضوع : 338- فائدة أصولية: أنواع الأحكام بلحاظ أنحاء تعلق متعلقاتها بها .

338- فائدة أصولية: أنواع الأحكام بلحاظ أنحاء تعلق متعلقاتها بها

أنواع الأحكام بلحاظ أنحاء تعلق متعلقاتها بها[1].
اعداد: الشيخ محمد علي الفدائي

إن الأحكام من حيث قيامها بالموضوعات بأنفسها، أو بقيد انتسابها لفاعل خاص، أو بكونها عن قصدٍ خاص، أو من سبب خاص كالإنشاء على نوعين ثبوتاً، وعلى ثلاثة أنواع إثباتاً:

النوع الأول: الأحكام القائمة بالموضوعات بنفسها
ما كانت المصالح والمفاسد فيها قائمة بالموضوعات بما هي هي مع قطع النظر عن الانتساب للفاعل أو لمنشأ تحققها وكيفية حدوثها أو صدورها وعن قصد فاعله لجهة خاصة، ومع قطع النظر عن مثل البلوغ ونحوه مما قد يشترط في الفاعل، وذلك في صورتين:
أ ـ كل ما علم من الشارع إرادة عدم وقوعه في الخارج، فإن الحرمة تكون قد انصبت عليه بما هو هو، وذلك مثل شرب الخمر؛ فإن الحرمة رتبت عليه بما هو هو، وذلك لأن المفسدة قائمة به مع قطع النظر عن جهة انتساب شرب الخمر للفاعل أو قصده له، فإنه لو شرب الخمر ولم يقصد أن يسكر أو قصد التجربة مثلاً أو قصد ردع غيره كي يفهم أن الخمر سبب للإسكار فإن ذلك حرام، فإن القصد لا مدخلية له في رفع الحكم أو ثبوته.
والحاصل: إن الحرمة والمفسدة قائمة بالمتعلق وهو شرب الخمر بنفسه مع قطع النظر عن جهة قصده أو انتسابه أو منشأ حصوله، وكذلك لو اجترحت امرأة القبيح ـ والعياذ بالله ـ ولكن لا بقصد التلذذ الشهوي، بل بقصد تحصيل المال أو بأي قصد آخر، فإن ذلك حرام دون شك، وهكذا حال سائر المستقلات العقلية، والكثير من المحرمات الشرعية، فإن الحرمة ثابتة مع قطع النظر عن قصد الفاعل أو حتى بلوغه، ولذا وجب منع الصبي من شرب الخمر، بل إنه يعزّر عليه إن كان مميزاً، وأما غير المميز فعلى وليه ردعه ومنعه.
ب ـ الأحكام الوضعية، كالضمان والنجاسة، فإنها ثابتة كحكم وضعي، سواء قصد أم لم يقصد، وسواء أكان نائماً أم لا، ساهياً أو غافلاً أم لا، بالغاً وعاقلاً أم لا، وهذان القسمان من النوع الأول من الأحكام كثيرة منبثة في أبواب الفقه المختلفة.

النوع الثاني: الأحكام القائمة بالموضوعات بقيدٍ
الأحكام التي انيطت الحرمة فيها بقصد الفاعل أو بجهة أخرى من الجهات، فإن المصلحة والوجوب، أو المفسدة والحرمة، حينئذٍ تتعلق بالمتعلق بقيدٍ ما كقصد القربة أو الإنشاء أو صدوره من فاعل خاص، أو بقيد قصده أو بما أشبه ذلك وذلك في صورتين أيضاً:
أ ـ (العبادات)، فإن المصلحة قائمة بها، ولكن بقيد قصد القربة.
ب ـ (المعاملات)، فإن وقوعها مقيد بالقصد والإنشاء؛ إذ إن العقود تتبع القصود، ولا تقع إلا بالإنشاء، حيث إن المصلحة لم تقم بِصِرف إجراء عقد البيع أو الإجارة مثلاً كيما تترتب الصحة أو الإلزام بالوفاء على ذلك، بل إنها رتبت على الفعل وهو: إجراء العقد بقيد قصده الإنشاء، وبقيود أخرى كقيد البلوغ لمن يعتبره في معاملات الصبي مطلقا أو في الخطيرة منها.
والحاصل: إن شخصية الفاعل وقصده لها دخالة في أحكامٍ كهذه.
وهذان القسمان من الأحكام لهما عرض عريض، وليس النوع الأول منهما هو الأصل والقاعدة العامة كي يقال: بأن الأصل هو تبعية الأحكام للمصالح والمفاسد في المتعلقات مع قطع النظر عن قصد الفاعل أو عن خصوصيته، بل هما قسيمان ونظيران، فالمرجع عالم الإثبات وإطلاقات الأدلة وشبه ذلك.

صور مشكوكة في إندراجها تحت أنواع الأحكام
وهناك صور مشكوكة؛ كالغيبة مزاحاً فهل هي محرمة؟ وذلك لوضوح مدخلية القصد في صورة دون أخرى، فإن الغيبة لو كانت بقصد التنقيص كانت محرمة، ولو كانت بقصد نصح المستشير فهي جائزة.
وعليه: فالقصد له مدخلية في ثبوت الحكمين، والمفسدة ليست قائمة بالفعل بما هو هو.
ومن الواضح: أن الغيبة ليست من المعاملات والعقود أو من الأحكام الوضعية أو العبادات، وإنما هي من دائرة أخرى وهي مرتهنة بالقصد في مثل ما مضى، ولكن يشك بارتهانها به في مثل الغيبة مزاحاً.

وجود نمطي التعلق؛ تعلق الحكم بالعنوان بما هو هو و بلحاظ الانتساب في الشرع
ثم إنّ كلتا الحالتين والنمطين ثبوتاً موجودة في الشرع بل هي كثيرة، فإن الحكم الشارعي تارة: يكون مداره على الشيء بما هو هو، وتارة أخرى: على نسبته إلى فاعله، ومثالهما الشرك والفسق.
فإن المشرك مشرك، وإن كان لا يدري إنه بهذا المعتقد يكون مشركاً، ككل من أشرك وهو يظن أو يقطع أنه موحّد، فإن الشرك عنوان ثبوتي غير مرتهن بعلم المشرك وجهله، فلا دخل للحيثية هنا؛ فإن المدار في الشرك على الواقع، وليس على الالتفات والقصد، نعم مدار العقوبة على ذلك.
وأما الفسق، فإنه قد اشرب في هذا العنوان النسبة إلى الفاعل، فلو فعل المجتهد فعلاً فسقياً غير ملتفت لما فعله أو لكونه يعتقد جوازه، فليس بفاسق كما أنه يجوز تقليده، وكذلك لو شخّص المجتهد أو المقلد المصداق خطأ من غير تقصير، كما لو اغتاب أحداً وقد تصوره من مستثنيات الغيبة.
أما إثباتاً: فلابد من الفحص عن مفاد الأدلة ولسانها في كل مورد مورد، فإن لم تدل على أي من النمطين، فيصل الأمر إلى الشك، فلابد حينئذٍ من تأسيس الأصل في ذلك، فإن البحث عن الأصل الذي يُستند إليه إنما هو بعد الفحص عن الأدلة ومفادها ولسانها على أحد الوجهين، فإن فقدت الأدلة ووصل الأمر إلى الشك كان الأصل الآتي الذكر هو المرجع؛ ولذا نجد أن الفقهاء في الموارد المختلفة يتتبعون الأدلة كي يكتشفوا منها كون الشروط واقعية أو احرازية وعلمية، وهل تدخل الشارع فادخل شخصية الفاعل وقصده والتفاته في ثبوت الحكم أو لا؟
وبمراجعة لجواهر الكلام والعروة الوثقى وغيرهما، نكتشف العشرات بل المئات من الشواهد على تتبع الفقهاء للأدلة الخاصة في كل مورد مورد:
منها: ما لو غصب شخص ثوباً، فنسي أنه مغصوب وصلى فيه، فما حكم صلاته؟ من أن المفسدة الفعل كائنة في الغصب من غير شك هذا من جهة، ومن أن لنسبته إلى الفاعل بأن لا يكون ناسياً لها مدخليةً في الحكم بالبطلان، من جهة أخرى.
ومنها: ما لو اشترى شخص فرواً من السوق، وكان يعلم أنه من جلد ميتة، ثم نسي فلبسه وصلى فيه فهل صلاته صحيحة أو باطلة؟
فصّل جمع من الفقهاء كصاحب العروة وغيره بين المسألة الأولى والثانية، فقالوا[2]: بالصحة في الأولى، مما يعني أنهم قد استظهروا من الأدلة مدخلية الالتفات ونسبته إلى الفاعل حين الفعل في ثبوت الحكم فأفتوا بأن الصلاة صحيحة لأنه ناس، فالحكم هنا لم يتبع الموضوع بما هو هو، بل خصّ بصورة صدوره من الفاعل ملتفتاً له وعدم نسيانه.
بينما قالوا[3]: بالبطلان في المسألة الثانية، مما يعني أن الموضوع بما هو هو موضوع لبطلان الصلاة، وإن نسي، ومن تتبع في كتب القوم سيجد المئات من هذه الموارد والبحث سيال.
وفي مثال آخر: إعطاء المتنجس للطفل ليشربه، فإنه جائز[4]، حيث استظهروا اشتراط البلوغ في ثبوت الحرمة، ولكن إعطاءه الخمر ليشربه، غير جائز؛ وذلك للأدلة الخاصة الدالة على أن الخمر من العناوين المحرمة لذاتها مطلقاً مع قطع النظر عن فاعله وشاربه، عكس المتنجس فإنه من العناوين الانتسابية، أي المحرمة في صورة انتسابها لأشخاص خاصين.
وعليه: فإنه في الموارد المختلفة ينبغي أولاً: الفحص عن أن الشارع هل اعتبر قصد المكلف والتفاته أو الانتساب إليه عرفاً ذا مدخلية أو لا؟ فإن فقد الدليل الخاص كان المرجع الأصل الآتي.

الأصل لدى الشك في أن متعلق الحكم العنوان بما هو هو أو بلحاظ الانتساب
إن الأصل والظاهر في الأوامر والنواهي إذا ما تعلقت بعنوان هو: كون هذا العنوان قد أخذ بما هو هو موضوعاً للحكم، لا بشرط انتسابه لقائله ولا بشرط قصده له، وهذا ضابط مبنائي مهم.
وبعبارة اخرى: إن الظاهر أن العنوان هو تمام الموضوع لثبوت الحكم له من غير اشتراط شرائط زائدة من صدق الانتساب أو تحقق القصد أو غيرهما، فإن الاشتراط هو المحتاج إلى الدليل.

الأدلة على ظهور متعلق الحكم في أنه تمام الموضوع له
ويمكن الاستدلال على ذلك بأدلة ووجوه:

الأول: الأحكام تابعة للمصالح والمفاسد في المتعلقات
ما ثبت من أن الأحكام ـ بحسب العدلية والمعتزلة ـ تابعة للمصالح والمفاسد في المتعلقات بما هي هي، فالكذب بما هو هو ذو مفسدة، وكذا النميمة والسرقة والزنا وغيرها، فإنها حاملة للمفسدة بذاتها سواء قصد الفاعل ذلك أم لم يقصد، نعم لو كان قاصداً وملتفتاً فإنه يعاقب، ولكن موطن البحث ليس العقاب والثواب، بل فيما انصبت عليه أحكام الشارع ثبوتاً، وفي المراحل ما قبل الاعذار والتنجيز.
والحاصل: إن الموضوعات بما هي هي مصب أحكام الشارع، وما عدا ذلك يحتاج إلى دليل، فإن دعوى اشتراط أي أمر زائد يحتاج إلى دليل، وحيث إن الشارع قد أطلق فظاهره أنه قد جعل العنوان بما هو موضوعاً لحكمه.
وبعبارة أخرى: الإطلاق اللفظي أو المقامي ينفي وجود شرط أو قيد في البين، ومنه: قصد الفاعل وانتساب الفعل إليه.

الثاني: حديث الرفع[5]
فإنه مثبت لما ذكر؛ وذلك أن الأمور التسعة المذكورة فيه قد رفعت ولا يكون الرفع إلا بعد الثبوت والوضع؛ فان الأحكام لو لم تكن ثابتة للموضوعات بما هي هي لكان حديث الرفع لغواً، فحديث الرفع إذاً يثبت أن هناك شيئاً مجعولاً قد رفعه الشارع، والأمور المذكورة في الرواية هي تسعة، والمزاح ليس منها، فحرمة الكذب مزاحاً ثابتة سواءً صدق عليه كذب الحاكي أم لا، فتأمل.
وبعبارة أخرى: مقتضى حديث الرفع هو: أن العنوان بما هو موضوع الحكم، لا بلحاظ نسبته إلى فاعله، وقد استثنيت منه هذه التسعة دون غيرها، ومن الغير المزاح والهزل.

الثالث: الأصل في المقننين جعل مصبّ الأحكام الموضوع بما هو هو
ما نلاحظه من تتبع حال المقننين والمشرعين في مختلف الملل والنحل وفي بناء العقلاء ـ والشارع سيدهم ـ من: أن مصب أحكامهم هو الموضوع بنفسه، حيث يرتِّبون عليه مختلف الآثار، إلا العقوبة وذلك كذلك لديهم حتى في الجاهل القاصر.
ألا ترى الضرائب مثلاً بعد تشريعهم لها، فإنها ثابتة عندهم سواء أعلم الطرف بوجودها أم لا، فهي لازمة له مطلقاً، وكذا الحال في الجمارك، فإن المبالغ تفرض على البضاعة لو استوردها شخص حتى مع غفلته وجهله، بل قد تصادر بضاعته لو خالف شروطهم الوضعية حتى لو تذرع بجهله وقصوره، وكذا الحال في أحكام المرور وقوانينه؛ فإن كل الأحكام تجري عندهم على الشخص ولو كان جاهلاً.
إذاً: فبناء الأمم في مختلف حقول التقنين ومختلف الأعراف على أن موضوعات الأحكام هي العناوين بما هي هي، مع قطع النظر عن التفات الفاعل وقصده وعدمه، أو انتسابه له وعدمه.

مناقشة الأدلة الثلاثة
رد الدليل الأول: مشهور قول الأصوليين في التبعية إنما هو لدفع توهُّمين
ويمكن أن نناقش الدليل الأول ـ وهو إن تبعية الأحكام للمصالح والمفاسد في المتعلقات تدل على أن موضوع الحكم هو المتعلق بما هو هو لا بشرط استناده لفاعله إلا مع الدليل ـ: بأن ما ذكر من هذه التبعية وإن كانت ثابتة لا شك فيها، ولكن الحصر فيها هو من النوع الإضافي، فإنه قد قيل ذلك في قبال توهمين لدفعهما:

التوهم الأول: المصلحة أو المفسدة قائمة بنفس الأمر
ما توهم أن المصلحة أو المفسدة قائمة ـ كقاعدة عامة ـ بنفس الأمر والحكم، لا بالمأمور به، فمن أجل دفع هذا التوهم قال المتكلمون والأصوليون: إن الأحكام تابعة للمصالح والمفاسد في المتعلَّقات ـ بالفتح ـ لا بالمتعلِّقات ـ بالكسر ـ، وإن الأوامر والنواهي الشرعية ليست هي من قبيل الأوامر والنواهي الامتحانية إلا نادراً ومما يفتقر إلى الدليل.

التوهم الثاني: أفعاله تعالى لا تعلل بالغايات ولازمه العبث
كما توهم أن الله تعالى قد يفعل العبث ـ تعالى الله عن ذلك ـ، وأن أفعاله غير معللة بالأغراض والغايات، وفي ردّ هذا أيضاً قال المتكلمون والأصوليون بـ: تبعية الأحكام للمصالح والمفاسد في المتعلقات، لا إنها عبثية وغير حاملة للغرض، بل كل ما يفعله من تكوين أو تشريع فهو لحكمة وغرض وغاية، فإنه تعالى وإن كان قادراً على العكس إلا أنه (قيَّدت حكمته كرمه)، كما قيدت حكمته إعمال ولايته وقد (أخذ على نفسه أن لا يفعل إلا لغرض).
ومنه يظهر: إن القاعدة لم تُذكر بصدد نفي كون المتعلق الحامل للمصلحة أو المفسدة ذا قيدٍ مثلِ الانتساب إلى الفاعل أو لا، أي أنها ليست في مقام البيان من هذه الجهة، وإنما القاعدة ذكرت إما لدفع التوهم الأول أو الثاني.
وعليه: فإن المصالح والمفاسد قد تكون قائمة بالفعل بما هو هو، وقد تكون قائمة بالفعل بقيد انتسابه لفاعله أو بقيد خصوصية خاصة أخرى فيه، وكون المجموع هو علة تشريع الحكم فقاعدة تبعية الأحكام لمصالح في المتعلقات أعم من الصورة الأولى فلا تكون دليلاً عليها.

ردّ الدليل الثاني: حديث الرفع لا يرفع الأحكام إلا بعد سبق ثبوتها
أما الدليل الثاني وهو إن مفاد حديث الرفع هو الرفع، ولا رفع إلا بعد الوضع دقةً وعرفاً، والحديث يفيد فقط رفع العناوين التسعة المذكورة، وليس الهزل منها، فهو ليس بمرفوع، وبالتالي يكون حكمه باقياً.
فيرد عليه: عدم تمامية ذلك؛ وذلك لأن حديث الرفع لا يتكفل بيان أمرين:
أولاً: إنه لا يتكفل بنفسه بيان أحكام العناوين الأولية.
ثانياً: إنه لا يتكفل أيضاً بيان أحكام العناوين الثانوية الأخرى غير التسعة المذكورة في الحديث؛ فإن هناك عناوين ثانوية أخرى تطرأ على أفعال الإنسان كالهزل، فإن الأصل في الإنسان أن يكون في مقام الجدّ، ويطرأ عليه الهزل كحالة ثانوية، وكذلك الغضب والضجر والكسل وغيرها، فتأمل.
وعلى أن لها أحكامها وهي غير العناوين التسعة التي يقال فيها بأن الأصل في الإنسان أن يكون حراً مختاراً كعنوان أولي ولكن قد تطرأ عليه حالة الاضطرار أو الإكراه أو الإلجاء وما أشبه أو أنه قد يكون في معرض تكليف ما لا يطيقه.. الخ.
وهذه العناوين الثانوية ـ غير التسعة ـ ليست بقليلة بل هي كثيرة، وحديث الرفع اختص بالتسعة المذكورة فقط وهو يرفع ما للموضوعات من أحكام قبل طروّها، أما ما هي الأحكام قبل طروّ هذه التسعة؟ فإن حديث الرفع ساكت عنه.
وبعبارة أخرى: إن حديث الرفع في غير التسعة هو حيادي وساكت عن أحكام عناوين الأحكام الأخرى في حد ذاتها ـ كالكذب المجرد ـ، أو بلحاظ طروٍ طارئ آخر غير التسعة ـ كالمزاح ـ في الكذب مزاحاً ـ عليها.
وبتعبير أدق: إن حديث الرفع إنما يرفع الحكم الثابت للشيء في مرحلة سابقة بعنوانه الأولي كالكذب، أو بعنوانه الثانوي كالكذب مزاحاً أو تورية، ولذا لابد أولاً من تنقيح موضوع الهزل وحكمه ـ كموضوع الكذب وحكمه ـ وإنه الحرمة فرضاً، ثم بعد ذلك يأتي حديث الرفع ليرفعه لو اضطر إليه أو أكره عليه أو شبه ذلك، وعليه فلا يمكن أن يتمسك بحديث الرفع لتنقيح حكم ما هو وارد عليه ورافع له.
ففي مثل أدلة حرمة الكذب، لابد من تحقيق في سعة الكذب المأخوذ موضوعاً للحرمة في الروايات وشموله للكذب هزلاً وعدمه.
فلو قلنا: إنه مشمول لها فهو حرام، وهمن ثم يأتي دور حديث الرفع فيفيد بأنّ الكذب هزلاً لو أكرهت عليه فليس بحرام، ولكنه لا يشخص حكم الموضوع ابتداءً وأنه هل شملته أدلة الكذب ليكون حراماً أو لا فلا يكون محرماً، حتى يرتب بعد ذلك الرفع ببركة طرو أحد العناوين التسعة، بل إن الاستدلال بحديث الرفع دوري، فتدبر.

ردّ الدليل الثالث: بناء العقلاء على جعل الأحكام للموضوعات بما هي، خاص بالأحكام النوعية
وأما الدليل الثالث على أن موضوعات الأحكام هي عناوينها بما هي لا بلحاظ نسبتها إلى فاعلها أو غيره، استناداً إلى بناء الملل والنحل والعقلاء في كل قوم ومكان وزمان، حيث إنهم في القوانين يصبون الأحكام على الموضوعات بذاتها لا بقيد أمر كالقصد والالتفات، نظير قانون تنظيم البناء داخل المدن كتحديد طوابق البناء العمودي بأربعة طوابق فرضاً فإنه قانون عام، فلو بنى أحدهم خمسة طوابق بعلم أو بدونه، بالتفات أو قصد أو لا فإنه ملزم وفق هذا القانون بهدم بنائه أو بدفع غرامة على خرقه القانون أو شبه ذلك.
فإنه يرد عليه: بأن الأمم والنحل تفرق بين نوعين من الأحكام:
النوع الأول: الأحكام والقوانين التي ترتبط بالحكومة وبمصالح العامة، فتصب الأحكام فيها على موضوعاتها بما هي متجردةً عن دخالة القصد والالتفات في ثبوتها، فتُلزم بهذه الأحكام حتى الغالط والساهي والجاهل قصوراً، لكونها من الأحكام النوعية كالضرائب والمكوس والجمارك وهندسة المدن وغيرها.
النوع الثاني: الأحكام المرتبطة بالعلاقات الشخصية، فإنهم يأخذون القصد والالتفات فيها، إما مطلقاً أو في الجملة، وآية ذلك في المحاكم التي تبت في القضايا الشخصية، فإنهم يعتبرون القصد ذا مدخلية إما كملاك لأصل الحكم أو كملاك لدرجته وشدته أو ضعفه، ومن ذلك الجنايات فإن أحدهم لو ضرب شخصاً آخر عالماً عامداً قاصداً، فالقصاص ثابت عليه عندهم، ولكنه لو لم يكن ملتفتاً قاصداً فإنهم لا يحكمون بالقصاص عليه، بل غاية الأمر يحكم عليه بغرامة ما، وهي أخف من القصاص قطعاً؛ وذلك لأنهم يرون للقصد مدخلية في ثبوت الأحكام في الشؤون والقضايا الشخصية.
وذلك كله هو الأصل في الصورتين، وقد يخرج العقلاء عنه لدليلٍ وجهة مرجحة.
والأمر كذلك في المعاملات فإن العقود تتبع القصود عند العقلاء أيضاً، فان أحرز أن الشخص لم يقصد العقد أو الإيقاع بأن كان ساهياً أو غالطا أو مخدّراً أو نائماً فإنهم لا يرتبون الأثر عليه.
والمتحصل: إن بناء العقلاء على (عدم منوطية الأحكام بالالتفات والقصد) خاصٌّ بما يتعلق بدائرة القضايا النوعية، أما في القضايا الشخصية فقد يرون للقصد مدخلية في ترتب الآثار  .


----------
[1] اقتباس من كتاب "حرمة الكذب ومستثنياته" لسماحة السيد مرتضى الشيرازي: ١٥٧-١٧١.
[2] العروة الوثقى: ج١ ص٥٥٦.
[3] العروة الوثقى: ج١ ص٥٦٠.
[4] العروة الوثقى: ج١ ص٩٣.
[5] وسائل الشيعة: ج١٥ ص٣٦٩.

 


  • المصدر : http://www.m-alshirazi.com/subject.php?id=3476
  • تاريخ إضافة الموضوع : 8 رجب 1440هـ
  • تاريخ الطباعة : 2024 / 03 / 28