• الموقع : مؤسسة التقى الثقافية .
        • القسم : البيع (1442-1443هـ) .
              • الموضوع : 514-تتمات-ثمرات تفكيك الإرادة الجدية عن الاستعمالية .

514-تتمات-ثمرات تفكيك الإرادة الجدية عن الاستعمالية

بسم الله الرحمن الرحيم

الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على محمد وآله الطيبين الطاهرين سيما خليفة الله في الأرضين، واللعنة الدائمة على أعدائهم أجمعين، ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم

(514)

ثمرات التفكيك بين الإرادتين

الصور الثلاث للاستثناء وفوارقها

وبعبارة أخرى: ان صور تخصيص العام واستثناء بعض أفراده منه، ثلاثة([1]):

الأولى: ان يقول: (أكرم العلماء) ويسكت، ثم يأتي بمخصص منفصل بقوله (لا تكرم فساق العلماء)، من غير فرق بين ان يصدر هذا المنفصل من المعصوم نفسه الصادر منه ذلك العام أو ان يصدر من معصوم آخر، كأن يصدر العام من الرسول (صلى الله عليه وآله) والخاص من الإمام الباقر (عليه السلام) لحكمةٍ بيّناها في بحث سابق كما بيّنا هنالك الوجوه المحتملة في حكم من وقع بين الزمنين وحاله.

الثانية: ان يقول: (أكرم العلماء إلا الفساق منهم).

الثالثة: ان يقول: (أكرم غير الفساق من العلماء).

والفرق بين الثلاثة:

(أكرم العلماء) (لا تكرم فساق العلماء)

أما الصورة الأولى: فانه لا شك في ان العام ينعقد عمومه، لكن المخصص اللاحق يتقدم عليه فيخصصه لأنه أظهر منه وأقوى دلالة بل هو نص بالنسبة إليه، وعليه: لو شُكّ في شخص انه فاسق أو عادل، مع إحراز كونه عالماً فانه يجب إكرامه لكونه داخلاً في أكرم العلماء حتماً ومشمولاً به لفرض كونه عالماً، وكون خروجه مما لا دليل عليه إذ لا يعلم فسقه فالخروج مما يحتاج إلى دليل مفقود.

وبعبارة أخرى: الإرادة الاستعمالية للعام منعقدة، وهي مرآة للإرادة الجدية فتكون دالة عليها لأصالة التطابق بين الإرادتين، فإذا جاء الخاص فانه يخصص الإرادة الجدية فيخرج كلما علم انه من أفراد الفاسق فيبقى الباقي على قاعدة أصالة التطابق بين الإرادتين مشمولاً لأكرم العلماء، فانه حيث انفصل الخاص، انعقد للعام ظهوره في العموم فلا بد من مخرِجٍ ظاهرٍ عنه ولا يكفي الاحتمال مخرجاً.

(أكرم غير فساق العلماء)

وأما الصورة الثالثة: فانه لا ينعقد للإرادة الجدية بل ولا للاستعمالية ظهور في العموم لكل العلماء، بل ينعقد الظهور ضيقاً منذ البداية ومنذ لحظة الإنشاء، نظير ضيّق فم الرَّكيّة، إذ الموضوع هو (غير الفساق من العلماء) وعليه: فان العالم الذي لا تعلم عدالته من فسقه لا يشمله هذا العام لفرض انعقاده ضيّقاً وان عنوانه هو (غير الفاسق من العلماء) وهذا الشخص مشكوك كونه مصداقاً لغير الفاسق من العلماء، ومن الواضح انه لا يصح التمسك بالعام في الشبهة المصداقية، وكما رأينا فان الصورة الثالثة عكس الصورة الأولى تماماً إذ العموم انعقد واسعاً في الأول ثم ضُيِّق، وقد انعقد ضيّقاً في الثالثة منذ البداية فلا يصح التمسك بالعام في الشبهة المصداقية للفاسق.

والحاصل: انه في الصورة الأولى من الشبهة المصداقية للخاص (أي للمخصص) وفي الصورة الثالثة من الشبهة المصداقية للعام نفسه.

(أكرم العلماء إلا الفساق منهم)

وأما الصورة الثانية، وهي ما بينهما بقوله: (أكرم العلماء إلا الفساق منهم) مما كان المخصص متصلاً، ولكن مع وجود شخصيتين للجملتين إلا ان بينهما اتصالاً عبر الاستثناء وأداته، فقيل بانها ملحقة بالصورة الأولى وقيل انها ملحقة بالصورة الثالثة.

أما القول بانها ملحقة بالثالثة فلتوهم العَنوَنة، أي عنونة العام حينئذٍ بعنوان أضيق، لكن الحق انه لا توجد عنونة بمجرد اتصال الاستثناء إذ يبقى ان لكل من المستثنى والمستثنى منه وجوداً متمايزاً عن الآخر غاية الأمر ان أحدهما ناظر للآخر ومخصص له، فلاحظ الفرق الجلي بين (أكرم العلماء إلا الفساق منهم) و(أكرم غير الفساق من العلماء) إذ تجد ان الموضوع في الثانية ضيق وهو موضوع واحد مركب، أما الموضوع في الأولى فمتعدد إذ لـ(أكرم) موضوع هو العلماء وللا تكرم (المستفاد من إلا) موضوع هو (الفساق من العلماء).

وعليه: لا مناص من ان تكون الصورة الثانية ملحقة بالصورة الأولى.

إذا عرفت ذلك كله عرفت حال الرواية مورد البحث وهي: ((إِذَا بَلَغَ وَكُتِبَ عَلَيْهِ الشَّيْ‏ءُ جَازَ أَمْرُهُ إِلَّا أَنْ يَكُونَ سَفِيهاً أَوْ ضَعِيفاً))([2]) و((الْمَمْلُوكُ لَا يَجُوزُ طَلَاقُهُ وَلَا نِكَاحُهُ إِلَّا بِإِذْنِ سَيِّدِهِ))([3]) وما هو بمنزلة الاستثناء كـ((وَالْغُلَامُ لَا يَجُوزُ أَمْرُهُ فِي الشِّرَاءِ وَالْبَيْعِ وَلَا يَخْرُجُ مِنَ الْيُتْمِ حَتَّى يَبْلُغَ خَمْسَ عَشْرَةَ سَنَةً أَوْ يَحْتَلِمَ أَوْ يُشْعِرَ أَوْ يُنْبِتَ قَبْلَ ذَلِكَ))([4]) وانها من قبيل القسم الثاني، وسيأتي مزيد.

موضوع الأحكام لُبّا هو الأفراد، على أصالة الوجود والماهية

تتمة: سبق: (بوجه آخر: على أصالة الوجود فان الموجود ليس إلا الأفراد، والمفاهيم بما هي مفاهيم (المطلق، الكلي الطبيعي) لا وجود لها إلا في موطن الذهن، ولكنها بما هي مشيرات إلى موضوعِ حُكمِه الحقيقي تقع موضوعاً، فتعود المحاذير السابقة)([5]) ومزيد الإيضاح:

انه على أصالة الوجود فانه لا شيء إلا الوجود والوجودات الخارجية، وأما الماهيات فهي، كما يعبّرون عنها، حدّ الوجود وهي انتزاعيات تنتزع من كون الوجود محدوداً أي من عدم امتداده لأكثر من مساحة وجوده، ومن الواضح ان الحامل للمصلحة والمفسدة هو الوجود لا الأمر الانتزاعي؛ ألا ترى ان النافع هو البرتقالة والبرتقالتان مثلاً لا المنتزع منهما وهو الفردية أو الزوجية!

وأما على أصالة الماهية فان الحامل للمصلحة والمفسدة هو الماهيات المتشخصة بالعوارض (لا المتشخصة بالوجود إذ على أصالة الوجود فان الوجود والتشخص والشيئية والوحدة متساوقة وتشخص الأشياء بوجوداتها) أما على أصالة الماهية فان الماهية، وهي الكلي الطبيعي، كلية في الذهن ولا تتشخص وتصبح جزئية ومصداقا في الخارج إلا بالعوارض، ككون الإنسان مولوداً من زيد وهند وكونه في المكان الفلاني والساعة الفلانية، أبيض، طويلاً، شكله كذا... الخ

وعلى أي فان الماهية إذا وقعت موضوعاً للحكم كانت مشيرة إلى الأفراد المتشخصة بالعوارض فيسأل هل الماهية المتشخصة بالفسق مثلاً داخلة في المستثنى منه أو خارجة.. الخ.

كما سبق: (النحو السادس: ما اخترناه من الدخول في دائرة الإرادة الاستعمالية من البدو إلى الختم، والخروج من دائرة الإرادة الجدية من البداية إلى النهاية، وذلك بان يقصد حين الإنشاء دخول الفاسق في الدلالة الاستعمالية([6]) وهي المرادة من الإرادة الاستعمالية لدى التحقيق من غير ان يقصد دخوله في إرادته الجدية، ويقصد من الاستثناء الإشارة إلى خروجه عن دائرة الإرادة الجدية، وذلك لأن المتبانَى عليه بين المتحاورين: مرآتية الإرادة الاستعمالية للإرادة الجدية، فبقوله أكرم العالم فانه وإن قصد ثبوتاً مجرد استعمال العالم في معناه الموضوع له إلا ان السامع حسب قانون أصالة التطابق يعدّه مرآة لإرادته الجدية فيأتي بالاستثناء ليكون قرينة على تفكيك الإرادتين، فيكون مُنشِئاً بالمستثنى منه لوجوب إكرام ما عدا الفاسق، ومخبراً بالاستثناء عن عدم شمول إنشائه للفاسق، فتدبر)([7]).

أقول كلمة (مخبراً) في آخر سطر خطأ مطبعي مناقض للمقصود، والصحيح هو: (ومنشئاً بالاستثناء لعدم شمول إنشائه للفاسق) والأوضح ان يقال: (ومنشئاً بالاستثناء لحرمة إكرام الفاسق، أو لمجرد جوازه بناء على ان الجواز كسائر الأحكام الخمسة بحاجة إلى إنشاء).

الإرادات الأربع في المستثنى والمستثنى منه

ومزيد التدقيق انه إذا قال: (أكرم العلماء إلا الفساق منهم) وُجِدت هنا إرادتان استعماليتان وإرادتان جديتان في كل من المستثنى منه والمستثنى، ففي (أكرم العلماء) إرادة استعمالية إثباتية واسعة، وإرادة جدية ثبوتية ضيقة، وفي (إلا الفساق منهم) إرادة استعمالية وأخرى جدية ضيقتان متطابقتان، عكس المستثنى منه حيث الإرادتان متخالفتان، وحيث توافقت الإرادتان في الاستثناء وكان أظهر (أو كان ناظراً إلى المستثنى منه على مبنى آخر) من المستثنى منه لتخالف إرادتيه ولأن الإرادة الجدية إنما عُلِمت منه لأصالة تطابقها مع الإرادة الاستعمالية، ولا شك ان هذا الأصل أضعف من الظهور اللفظي للاستثناء ببركة أخصيته وتطابق إرادتيه الجدية والاستعمالية التي لا صارف عنها، فتدبر جيداً.

وصلى الله على محمد وآله الطاهرين
قال لقمان لابنه: ((أَيْ بُنَيَّ صَاحِبِ الْعُلَمَاءَ وَجَالِسْهُمْ وَزُرْهُمْ فِي بُيُوتِهِمْ لَعَلَّكَ أَنْ تُشْبِهَهُمْ فَتَكُونَ مِنْهُمْ)) (أعلام الدين: ص327)

--------------------

([1]) أي من حيث جهة البحث.

([2]) الشيخ الصدوق، الخصال، مؤسسة النشر الإسلامي ـ قم، ج2 ص495.

([3]) من لا يحضره الفقيه: ج3 ص541.

([4]) ثقة الإسلام الكليني، الكافي، دار الكتب الإسلامي ـ طهران، ج7 ص197.

([5]) الدرس (513).

([6]) بان يستعمله في تمام الموضوع له.

([7]) الدرس (513).

 


  • المصدر : http://www.m-alshirazi.com/subject.php?id=4043
  • تاريخ إضافة الموضوع : الاثنين 6 جمادى الآخرة 1443هـ
  • تاريخ الطباعة : 2024 / 04 / 19